تدل بعض أشعار العرب الجاهليـين على أنهم كانوا عارفين بأمور الخـط، حيث ميزوا بين الخطوط، وحددوا أشكالها، وعرفوا أدوات الكتابة، ما يدل على وعيهم بتدوين أشعارهم وتخليدها. فهم لم يكونوا يكتبون فقط؛ وإنما كانوا كذلك يزينون الكتابة ويجملونها، فعندما نقرأ الكتاب المنمق والكتاب المرقش والكتاب المنمنم والكتاب المنمق، ونعلم أن المعلقات كانت تُكتب بماء الذهب؛ فهذه من مظاهر الزينة والجمال، بل إنها تدل على الاعتناء الكبير بالمجال الجمالي في الكتابة عند الجاهليين. فلا يمكن أن نقصي المنحى الجمالي في هذه الفترة ونتهم الخط بأنه كان رديئا، أو أن العرب كانوا لا يكتبون، كما ورد عند البعض. إن الذين يصدرون هذا الحكم لم يطلعوا على التراث العربي قبل الإسلام، ولم ينتبهوا إلى ما ورد في هذا الخصوص.
للأسف أن عامل الزمن يؤثر في الصحف التي غالبا ما تبلى فتندثر، أو تُمحى فتضيع محتوياتها، وإلا كنا أمام أعمال خطية ذات حسن وجمال، لكن عندما نتفحص النقوش التي اكتشفت قبل الإسلام بقرون، نجد ذاك الجمال، وذاك التركيب والشكل الذي يمنح الإبهاج الخطي. فنقش النمارة مثلا، الذي وجد في مدفن امرؤ القيس يتخذ عدة أوصاف جمالية، علما أنه يضرب بجذوره في التاريخ القديم. وقد تأثر بفعل العوامل الطبيعية، وبفعل عاديات الزمن، ولكنه على الرغم من ذلك يُبرهن على جمال الخط العربي منذ ذلك الوقت. فهو مدعاة للقول إن العرب ميزوا بين الخطوط والخامة، وتحدثوا عن مباعث الجمال في الخط قبل قرنين من الزمن على الأقل قبل الإسلام، وتفصح أشعارهم عن ذلك بوضوح. يقول امرؤ القيس في مطلع قصيدة ليالي الهوى:
لمن طلل أبصرته فشجاني
كخط زبور في عسيب يماني
فالشاعر بنى صورة الطلل بجريد النخل، الذي صار لوحا متقادما، وبدت على صفحته كتابة مخطوطة تشبه خط الزبور. وأنشد:
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت
كخط زبور في مصاحف رهبان
وقال أيضا:
فعادى عداء بين ثور ونعجة
وبين شبوب كالقضيمة قرهب
ومنهم حاتم الطائي (605م) يذكر في مطلع قصيدة يفخر فيها بنفسه:
أتعرف أطلالا ونؤيا مهدما
كخطك في رق كتابا منمنما
ومن هؤلاء أيضا النابغة الذبياني، الذي تذكر المصـادر القديمة أنه كان يحـسن الكتابة ويجملها، وأن قصائده الاعتذارية إلى النعمان بن المنذر – بعدما حدث بينهما من قطيعة – كان يكتبها ويرسلها إلى النعمان في شكل جميل. ومن الشعراء الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة: لقيط بن معمر الإيادي (380م) ذكر الأصبهاني أن الشاعر كتب لقومه قصيدة يحذرهم فيها من بطش كسرى.. ومن شعر سلامة بن جندل:
لمن طلل مثل الكتاب المنمق
خلا عهده بين الصليب فمطرق
ومما يدل على هذا التنوع، أن العرب كانوا كذلك يكتبون المعاهدات والأحلاف. يقول الجاحظ في باب فضل الكتابة، وتسجيل المعاهدات والمحالفات: «وكان العرب في الجاهلية يكتبون المواثيق والعهود والأحلاف. ووصفهم بأنهم كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيما للأمر، وتبعيدا من النسيان. وقد مثل الجاحظ لذلك بشعر الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته:
واذكروا حلف ذي المجاز وما
قـدم فيه العهـــود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل
ينقض ما في المهارق الأهواء
وهناك الصكوك التي يكتبون فيها حساب تجارتهم، وكذلك الصحف التي يسجلون فيها الدين، وغيرها كثير مما لا يتسع المجال لذكره، وهو يدل على أن العرب منذ جاهليتهم لم يعتمدوا الجانب الشفهي فقط، وإنما كانوا كذلك يكتبون ويزينون كتاباتهم، ويميزون بين الخطوط، فيعرفون خطوط مصاحف الرهبان، وخطوط الأشعار وخطوط المعاهدات والتقاييد اليومية. ويميزون كذلك بين المواد التي يكتبون عليها ويميزون أشكالها، منها القضيم والرق والعسيب، أو سعف النخيل وغير ذلك.
فقد كان مجال الكتابة فارضا نفسه بجماله، فجمال الشعر في المعلقات وفصاحته وبلاغته لا يوازيها إلا كتابته المنمقة بماء الذهب. فقد عرفوا التنميق، وذكروه في أشعارهم وعرفوا المنمنمات وعرفوا الرقش.. وعلى الرغم من عامل الزمن وطبيعة البيئة الصحراوية، التي تجعل الحفاظ على الصحف والدفاتر صعبا، فإن هناك مادة خطية ـ على الرغم من قلتها – تظل ذات أهمية بالغة، إذ بالرجوع إليها وإلى المصادر القديمة، يتبدى أن الخطوط التي كتب بها شعراء الجاهلية، أو كُتابهم كانت من نوع الخط العربي القديم، والخط المسند الحميري والخط الحجازي، ويتميز كل شكل بخاصيات معينة، إذ به تشكلت كل المواد الشعرية وغيرها، ما تستوجب كتابته وتدوينه وتوثيقه في الصحف أو الدفاتر، من معاملات وسكوك وعقود وغيرها.
كاتب مغربي