عرف المتخصصون أن كل مفهوم لا يظهر إلا استجابة لحاجة مجتمعية في سياق ومكان معينين، ويتحدد مضمونه من طرف مبتدعيه بما يستجيب لانتظاراتهم في زمن محدد، ولذلك فإن بعض المفاهيم قد تصلح في زمن ما وسرعان ما يتم تجاوزها والتخلي عنها فيما بعد حين تنتفي الحاجة إليها. ومن ذلك مفاهيم “العرق” و”البدائي”…المتجاوزة اليوم رغم طابعها “العلمي” سابقا. إن عدم وجود مفهوم ما في الماضي لا ينفي عنه إمكانية الظهور اليوم، ولذلك يمكن التأصيل لكل المفاهيم عن طريق بحث لغوي وإبيستيمولوجي في جذورها وحقولها الدلالية وكذا انزياحاتها. فالمفهوم في اللغة العربية هو”ما يصبح به الشيء معروفا” واصطلاحا هو “الصورة الذهنية” التي نخلقها عن الشيء.
فما هي الإشكالات التي يطرحها التأصيل لمفهوم “تمغربيت”؟ وما هي الحاجة التي جعلته يظهر في بداية القرن الواحد والعشرين؟ وما هو المضمون الذي يعطى له؟ ثم ما هي دواعي ميلاده اليوم وإمكانات الاستثمار السياسي والإيديولوجي التي يوفرها؟
“تمغربيت” وإشكالات التأصيل للمفهوم
ليس المفهوم إلا كلمة تعرضت لضغط التاريخ وأصبح لها معنى أوسع وأشمل وذو طابع نظري يستعمل كأداة للتحليل، كما يوفر مدخلا لامتلاك نظرة معينة لموضوع ما، وبذلك فهو يستجيب لحاجة مجتمعية. ومفهوم “تمغربيت” لا يخرج عن هذا الإطار، فهو ينحدر من كلمة “المغرب” التي أطلقها العرب على شمال إفريقيا باعتبارها مغربا للشمس التي تشرق من جهتهم وقسموهذه المنطقة إلى ثلاث مغارب : الأدنى (تونس) و الأوسط (الجزائر) والأقصى (المملكة المغربية) ثم سميت فيما بعد ب”المغرب الكبير” قبل أن تصبح “المغرب العربي” تحت ضغط مكر التاريخ وهيمنة الفكر القومي العربي ((Camps, 1983. واحتفظت المملكة المغربية باسم “المغرب” إسما رسميا بالعربية في حين اختارت تسمية”ماروكMaroc ” المنحدرة من الكلمة الأمازيغية “أمور” التي أعطت “مراكش” (وطن الله) اسما رسميا في اللغة الفرنسية، ثم مشتقاتها في باقي اللغات الأوروبية (Morocco، Maruecos…)، في حين احتفظت لغات أخرى كالتركية والفارسية بأسماء مثل “فاس” و “مراكش” لتسمية المغرب. وقد أضيفت تاء التأنيت أوالتحبيب في الأمازيغية لكلمة المغرب فأعطت “تمغربيت”، وبذلك تكون الكلمة قد تمزغت وانغمست في الثقافة المحلية، كما انغمست كلمات مثل “أسنوس)جحش)” و”تيلينتيت (عدس)” التي لا أحد يتذكر أصلها اللاثيني، (asinus) بالنسبة للأولى والفرنسي (Lentilles) بالنسبة للثانية، كما أن لا أحد يربط بين الكلمة الفرنسية maroquinerie المحيلة على المنتجات الجلدية واسم المغرب بالفرنسية Maroc.
بالرجوع للمصادر التاريخية قديمها وحديثها فلا وجود للكلمة/المفهوم “تمغربيت” لغياب الحاجة إليه وهو ما يعني أن ظهور هذا المفهوم اليوم يستلزم مجهودا فكريا للتأصيل له وتأويلا معينا للأحداث (علي صدقي أزايكو، 2002) من خلال البحث في تاريخ المغرب منذ ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين قرنا، رغم غياب تسمية المغرب قبل مجيء العرب. وقد يكون تمزيغ تسمية المغرب من خلال إضافة تاء التأنيث أو التحبيب حلا ليمتد مضمونها إلى ما قبل دخول المغرب في المجال العربي الاسلامي. فلو تم الاعتماد على الاسم الفرنسي للمغرب Maroc لأعطى اسم “تامروكيتTamerrukit ” ذات الجذور التاريخية الماقبل-إسلامية، لكن وقعها على المغاربة يقترب من الصفر، والشيء نفسه يقال على تسمية “تامراكشيت” التي لها معنى آخر في أمازيغية سوس يحيل على طريقة معينة في ركوب الحمار أو الحصان من خلال توجيه القدمين إلى اليسار، ولذلك تفسير لدى البعض مرتبط بصراع المرابطين والموحدين.
فالتأصيل لمفهوم “تمغربيت” لا يعني البحث عن وجود الكلمة في الماضي، بل يحتاج ذلك لمجهود بحثي يفضي لقراءة معينة للتاريخ وفق مقاربة متعددة تاريخية، أنثربولوجية، نفسية وسياسية تسعى لتحرير المغرب من التبعية للمشرق، وتأكيد تميزه، ويتم ذلك من خلال البحث عن أحداث معينة والتركيز عليها حيث يمكن اعتبارها بمثابة محطات مهمة يتم الاستناد عليها لإظهار مركزية المغرب وتميزه في التاريخ منذ قرون. وعليه فيمكن التركيز مثلا على أهمية الحركة الدوناتية في مواجهة الكنيسة الرسمية أو على “مغرب المقاومات” منذ محاربة الرومان الذي يمكن أن يكون مدخلا مهما (تنسيق محمد حمام وعبد الله صالح،IRCAM ، 2005)، كما أن تسليط الضوء على رغبة المغرب في التحرر من الهيمنة الأموية والتبعية للشرق وتأسيسه لدول مستقلة ولنمط تدين مختلف يمكن أن يساهم في مسار تشكل مفهوم “تمغربيت”، وأيضا إعطاء الأهمية لانطلاق الامبراطوريات الأمازيغية الكبرى (المرابطون والموحدون) من المغرب لحكم مجموع “الغرب الإسلامي” بما في ذلك الأندلس, كما يدعم هذا الطرح حفاظ المغرب على استقلاله عن الهيمنة العثمانية وانتصاراته على البرتغال في معركة واد المخازن في القرن السادس عشر ثم مقاومته للحماية الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين إلى أن حصل على الاستقلال سنة 1956. وخلال هذا التاريخ الطويل تميز المغرب بنوع من الاستمرارية التنظيمية والاستقرار خلقت له شخصية متميزة يمكن تسميتها اليوم ب”تمغربيت”.
لقد حاول بعض الوطنيين المغاربة التأصيل لهذا المفهوم دون ذكره في سياق النضال السياسي ضد المستعمر الفرنسي، ومن تجلياته بعد الاستقلال تبني شعار “المغربة” رغم ارتباطه بالتعريب ضدا على باقي مكونات الهوية المغربية خاصة الأمازيغية، وهو ما دفع محمد شفيق ليعنون كتابه المنشورسنة 2000ب “من أجل مغارب مغاربية بالأولوية”. أما من ناحية التاريخ الاجتماعي والثقافي فالمعطيات المتوفرة تسمح بتأكيد وجود ثقافة مغربية ناتجة عن قرون من التحركات الداخلية للقبائل واختلاطهم بالأجانب وبالحضارات الوافدة في فترات متفرقة من التاريخ حيث يتم التعبير عن هذه الثقافة بلغات مختلفة أهمها الأمازيغية والعربية، كما ظهرت لغة مغربية خاصة وهي “الدارجة” نتجت عن التوارد بين اللغتين (محمد شفيق،1999)، وهذا ما عبر عنه الأستاذ محمد الطوزي في مقال نشره بمجلة زمان أواخر 2019 بقوله “المغرب” هو أيضا تلك الحروف الصامتة التي تجعل من الدارجة غير مفهومة كلما ابتعدنا عن تلمسان. هي أيضا جاد المالح وجمال الدبوز حين يفضلون أكل “مطيشة بالبيض” وليس “مادلين” . وهي أيضا تفضيل “هوبا هوبا” ل “السداري” التقليدي وليس ما تصنعه شركات … إنه الحاج بلعيد وربابه ورويشة والكنبري والمعلم باكو والهجهوج، وأغاني خربة المقاومة للاستبداد وفاطنة بنت الحسين ورقصة الشيخات. إنه أيضا ما يعده ممون الحفلات، والمحلات والمطاعم الشعبية من طاجين على الفحم والبسطيلة والحريرة والمسمن …”، وهي طقوس يشترك جميع المغاربة بدرجات متفاوتة في ممارستها وبذلك يتعزز الانتماء الوطني لديهم والذي يظهر أيضا من خلال ممارسات يومية عادية ومن التفاعلات النفسية في لحظات معينة خاصة أثناء المقابلات الرياضية أو خلال السماع لنغمات موسيقية أو تذوق أكلات معينة (أيت موس، 2020).
“تمغربيت” و”تمازيغت” :أي علاقة؟
يجد القارئ المتأني لأدبيات الحركة الأمازيغية منذ ظهورها تعدد الخطابات المنتجة في موضوع الأمازيغية وتنوعها حسب السياقات والأزمنة والأمكنة، وتتراوح بين الثقافي والسياسي وبين المحلي والجهوي والوطني، ثم خطاب يتجاوز الأقطار لينظر ل”تامازغا” المتجاوزة للحدود الوطنية، وضعت أسسه الأولى جمعية “الأكاديمية البربرية” بباريس(1966-1977) قبل أن ينتشر منذ أواسط 1990بعد تأسيس الكونكريس العالمي الأمازيغي. لكن، رغم هذا التعدد في الخطاب فالوثائق المؤسسة لهذه الحركة ولمدة عقود كانت موجهة أساسا للداخل في كل بلد وخاصة في الجزائر والمغرب. فما يعرف ب”الأزمة البربرية” سنة 1949 كان نتيجة صراع داخلي بين مكونات الحركة الوطنية الجزائرية ومنظورها المتعارض لهوية الجزائر المستقلة، Amar Ouerdan, 1990))، كما أن المظاهرات التي تلت منع محاضرة مولود معمري سنة 1980 بجامعة تيزي ووزو كانت تسمى في البداية “مظاهرات تيزي ووزو” أو “مظاهرات القبايل” أو”ربيع القبايل” قبل أن تظهر تسمية “الربيع الأمازيغي” لتنتشر على نطاق واسع، وهو ما يفسر كون أرضية “ياكورن” المبلورة بعد هذه الأحداث كانت موجهة للداخل وتضمنت مطالب تسعى لدمقرطة الدولة الجزائرية وضمنها الاعتراف بالأمازيغية. وقد أدى تعنت الدولة الجزائرية في الاستجابة للمطالب الثقافية العادلة للحركة الأمازيغية إلى ظهور تيار جهوي بزعامة فرحات مهني يدعو بشكل واضح لاستقلال منطقة القبايل (بويعقوبي، 2019). وفي المغرب كانت الورقة الثقافية للجمعية الجديدة للثقافة والفنون الشعبية”تامينوت” سنة 1981 موجهة للداخل وهو ما سار عليه أيضا شعار الجامعة الصيفية “الوحدة في التنوع” وتبلور بشكل واضح في “ميثاق أكادير” لسنة 1991 الذي يتحدث عن الهوية المغربية وموقع الأمازيغية فيها والمطلوب من الدولة المغربية للنهوض بها. وفي بداية القرن الواحد والعشرين سار البيان الأمازيغي لمارس 2000 في نفس الاتجاه وأضاف البعد الاقتصادي والاجتماعي للموضوع كما حذر من تحوله لموضوع سياسي.
من خلال ما سبق يتضح أن الدفاع عن الأمازيغية كان يعززه البحث عن الخصوصية المغربية، والدفاع عن المغرب يتم أيضا من خلال الدفاع عن الأمازيغية. لكن في المقابل وتحت ضغط الايديولوجية المهيمنة كان نعت “المغربي” لا يتضمن بالضرورة الأمازيغية وهو ما يتجلى في العديد من المهرجانات المسماة مغربية رغم غياب الأمازيغية في برنامجها ومن ذلك “مهرجان الأغنية المغربية” أو “مهرجان السينما المغربية”، مما جعل كلمة “المغربية” تحمل فقط معنى “العربية”، كما أن صفة “مغربي” في الخارج تحيل فقط على العروبة والإسلام، أما عبارة “حنا كاع مغارية” فتستعمل لمنع كل حديث عن المطالب الأمازيغية، فالإشكال إذن لا يكمن أساسا في التسمية في حد ذاتها، بل في المضمون الذي يعطى لها في سياق معين.