أن تكون حرا، معناه أن تفعل كل ما تريد، لكن هذا يفهم إنطلاقا من أوجه مختلفة. الحرية أولا وقبل كل شيء هي: حرية التصرف/ حرية الفعل liberté d’action والعكس من ذلك، نجد في المقابل: القيد، العبودية. الحــرية كما كتب هوبس هي “غياب جميع الموانع التي تعيق حركة ما، فالماء المحجوز داخل إناء مثلا ليس حرا، لأن هذا الإناء يمنعه من التدفق، ولمّا يتوقف الماء عن الحركة تنحجب حريته، وهكذا يتمتع شخص ما أكثر أو أقل من حريته حسب المكان الذي “يُمنح له” أنا حر في التصرف، بهذا المعنى، عندما لا يمنعني أي شيء أو أي شخص كيفما كان” هذه الحرية ليست مطلقة أبدا (هناك دائما معيقات) ونادرا ما تكون منعدمة، فالسجين في زنزانته يمكن أن يبقى جالسا أو واقفا، متحدثا أو صامتا، مخططا لهروب، أو متوددا لحراسه.. أيضا لا يستطيع أي مواطن في أي دولة ما أن يفعل ما يحلو له: الآخرين والقوانين هي موانع كافية لا يمكن تجاوزها إلا عبر مجازفة خطيرة (الثورة مثلا) لهذا ننعت غالبا هذه الحرية بالحرية بمعناها السياسي: حيث تعتبر الدولة هي القوة الأولى والوحيدة التي تحاصرها (الحــرية) وتضمنها في نفس الوقت، إنها أكبر في الديمقراطية الليبرالية منها في الدولة الشمولية-الكليانية وتصبح أكبر في دولة القانون منها في دولة الطبيعة(الغاب) لأن القانون هو الضامن الوحيد لحرية الأفراد والجماعة، للتعايش فيما بينهم وهذا سيكون أفضل من التوحد(العزلة) بتقوية الذات( حتى ولو كنا نعزل بعضنا البعض) أفضل من انهيارها.
يشير جون لوك إلى “أنه في اللحظة التي لا يوجد فيها قانون، لا توجد كذلك حرية، لأن الحرية لا تقوم إلا عبر تَخلصها من القيد والعنف من طرف الغير، وهو أمر يصعب تحققه في ظل غياب القانون” هل الدولة تَحدُّ من حريتك؟ بدون شك، لكنها تحد كذلك من حرية الْآخَرِين، هذا ما يسمح بإعطائك فقط حريتك في الوجود. بدون القوانين لن يكون هناك سوى العنف والخوف، هل من الأفضل أن تكون حرا ولو بشكل أقل على أن تكون دائما مهددا وخائفا؟
إذن، أن تكون حرا هو أن تفعل ما تشاء ce faire ce qu’on veut: حرية الفعل، الحرية بمعناها السياسي، الحرية الجسدية والمعنوية، هي نفسها الحرية كما تمثلها هوبس ولوك وفولتير” الحرية ليست شيئا آخر سوى القدرة على الفعل” وهي الوحيدة التي لا يمكن أن نتفاوض بصددها تحت أي ثمن كان..
لكن هل نحن أحرار أيضا بإرادتنا في فعل كل ما نريد؟ هذا هو المعنى الثاني لمفهوم الحرية: حرية الإرادة، الحرية بمعناها الميتافيزيقي، الحــرية المطلقة، تقود البعض إلى رؤية ما فوق الطبيعة (أي ما يتجاوز الفهم العقلي للأشياء) فلسفيا، هذا هو المفهوم الأكثر إثارة للجدل، والأكثر إثارة للإعجاب.. لنأخد على سبيل المثال، في بلد ديمقراطي بمعنى الكلمة، لك الحرية في التصويت، أو انتخاب مترشح من المترشحين، فحريتك في هذا الفعل داخل عازل التصويت السري، هي حرية كاملة، إن لم تكن مطلقة (منحصرة في لوائح المترشحين) ولهذا السبب يمكنك التصويت لمن تريد. وبناء عليه فالحرية السياسية هي الحرية في التصرف. حرية الفعل(التصويت). ولكن هل تتمتع بحرية الإرادة للتصويت لهذا المترشح أو ذاك؟ إذا كنت من اليسار، هل أنت حر في إرادتك للتصويت لليمين(الحزب اليميني)؟ إذا كنت من اليمين، هل ستختار اليسار؟ إذا كنت بدون انتماء أو خلفية سياسية، هل أنت حر في اختيار واحد منهم؟ هل بمقدورك الإختيار بحرية: آراءك، رغباتك، هواجسك، متنياتك، وكيف لنا أن نضمن أن اختيارك هذا لن يسقط في الاعتباطية (العشوائية) فتقوم باختيار آراء أخرى ورغبات أخرى وهواجس وطموحات أخرى؟ أن تصوت بالصدفة hasard لا يعني أنك تصوت بحرية، ولكن أن نصوت لمن نريد، هل هذا يعني أن نبقى مقيدين بإرادتنا أو لأسباب( إجتماعية/ نفسية/ إديولوجية..) التي تتحكم في هذه الإرادة؟ نحن نختار انطلاقا من آرائنا، لكن من منا يختار آراءه؟
” يتوهم الناس أنهم أحرار، حسب اسبينوزا، لأنهم واعون بإرادتهم ورغباتهم، ولا يفكرون حتى في الحلم في الأسباب التي تدفعهم إلى الرغبة والإرادة، من دون أن تتكون لديهم أي معرفة عنها” أنت تفعل ما تريد؟ بطبيعة الحال! ولكن لم تريده؟ إرادتك جزء لا يتجزأ من الواقع: إنها خاصعة، مثل البقية لمبدأ الدليل الكافي( لا شيء يوجد من دون عقل، الكل يُفسّر) أو لمبدأ السبيية(لا شيء يولد من لا شيء، الكل بسبب) وأخيرا في الحتمية العامة للكائنات الكيانية macroscopique وعلى خلاف ذلك، نجد في المستوى المجهريmicroscopique نوع من اللاحتمية- القصوى (كما هو الحال بالنسبة للابيقوريين، وللفيزياء الكمية مثلما شرعت في تأكيدها اليوم.) لن تكون أقل تحديدا في علم الأعصاب بالذرات التي تُكونك، فإن كانت حركاتهم عشوائية، فمن المستبعد أن تحصر أو تحد إرادتك. لعل إرادتك هي التي تخضع بالأحرى للذرات، الصدفة ليست حرة (لأنها خاضعة بدورها لمحددات خارجية..) فكيف لإرادة الصدفة أن تكون؟
هناك سرية منيعة على تلك التي توجد في عازل التصويت السري، إنها تلك التي توجد في دماغك، والتي لا يمكن لأي شيء أن يخترقها، حتى أنت. أي ورقة ستدع في ظرف التصويت؟ هل تملك الاختيار؟ متأكد. ولكن هل أنت واع بتلك الميكانيزيمات العصبية( النشاط العصبي) الذي جعلك تختار؟ في نهاية هذا الاختيار، الذي من المفترض أن تفعله بحرية، يبقى رهينا بمن تكون، الملايين سيختارون التصويت بشكل مختلف، فمتى اخترت أن تكون أنت، لا شخصا آخر؟
هذا من دون شك المشكل الأكثر تعقيدا، في حالة ما لم أختر “الموضوع” الذي اخترته “أناي” جميع الاختيارات تبقى محددة بمن أكون. وإذا لم اخترها فلن تكون اختياراتنا حرة، كيف بإمكاني أن أختار من أكون؟ بحكم أن أي اختيار يتوقف عليّ، لأنه لا يمكنني أن أختار أي شيء في الأصل إلا بشرط أن أكون شخصا أو شيئا آخر؟هذا يحيلنا إلى سؤالين أساسين لديدرو في روايته: “جاك المؤمن بالقدر“le fataliste : ” هل أستطيع أن لا أكون أنا؟ وكوني”أنا” هل أستطيع أن أكون شيئا آخر؟” إذن الذات سجن فكيف باستطاعتنا أن نتحرر منها؟
علينا أن لا نتسرع في الجزم أن حرية الإرادة لا توجد، أو هي ليست إلا وهم محض.. أن تكون حرا، أقول، هو أن تفعل ما تريد. أن تكون حرا فيما تريد، إرادتنا في فعل ما نريد. أضمن لك أن هذه الحرية لن يكون فيها أي عيب: كيف لنا أن نريد ما نريد أو نريد شيئا آخر؟ كوننا لا نوجد، حرية الإرادة بهذا المعنى لن تكون سوى نوع من الحشو pléonasme: كل إرادة ستكون حرة، كما يدّعي الرواقيون، وبالتالي” حر/ عفوي وإرادي” هي ثلاث مرادفات للحرية حسب ديكارت. ولعل هذه الحــرية التي اعترض على وجودها بعض الفلاسفة هي ما يمكن أن ندعوه بعفوية الإرادة، هذه هي الحرية حسب أبيقور وابيكتيت، ولكن وبشكل أهم، حسب رؤية أرسطو ولايبنز وأرسطو، إنها حرية الإرادة أو هي الإرادة بحد ذاتها، التي لا يمكن أن تتوقف إلا عليّ أنا: أنا حر في أن أفعل ما أريد، لهذا السبب أنا “هو” بالفعل.
هل دماغي يتحكم بي؟ ولكن إذا كنت أتبع دماغي، إذن أنا أتحكم في (أناي) وأتحدد بمن أكون، هذا يدل على أن حريتي ليست مطلقة، لكن هذا لا يعني أنها غير موجودة، الحرية ليست شيئا آخر سوى تلك القدرة على تحديد نفسها. الدماغ كما يقول علماء الأعصاب المعاصرون: ” نظام ينظم نفسه بشكل مفتوح” إنه يعتمد على من نكون، وليس شيئا آخر، وهذا هو المعنى نفسه لمفهوم الاستقلالية! هكذا يحق لنا التكلم عن إرادة مشروطة.. لنشير بأنها ليست خاضعة أو هشة، فهي ليست نقيض الحرية: بل الحــرية بالفعل.
بالنسبة للبقية، يعتقد البعض أن الأمر يتعلق بالدماغ أو بروح لا-مادية. أن تكون حرا في كلتا الحالتين، فيعتمد دوما على من نكون، ولا يعتمد بالأساس إلاّ على هذا الأمر، يعتبر برغسون: ” أننا أحرار عندما تتماشى سلوكاتنا مع شخصيتنا الداخلية في الوقت الني نعبر عنها، عندما يكون هناك شبه غير مُحدد بين الفنان وعمله الفني” فرفاييل (رسام ومهندس معماري إيطالي مشهور) ليس له الاختيار أنه يكون رفاييل أو مايكل أنجلو( فنان ورسام إيطالي) وبعيدا عن ذلك، فهذا لا يمنعه من الرسم بحرية، بل بالعكس سيتيح له ذلك (الرسم) فكيف للعدم أن يكون حرا؟ وكيف لِذات غير شخصية être impersonnel أن تختار ؟ يتابع برغسون قوله “سنزعم أننا سنتنازل على التأثير القوي لصفتنا caractère ” لكي نخرج أيضا بخلاصة مفادها أن هذا الإعتراض فارغ بلا جدوى. صفتنا هي نحن” يختم برغسون، في كلمة واحدة ” إذا كان من المناسب أن ننعتك بأنك حر فجميع السلوكات التي تنبثق من الذات، فمني أنا وفقط، الفعل الذي يحمل شخصنا فهو حقا حر، لأن نفسنا وحدها تستدعي الأبوة” هذا ما اصطلح عليه “بعفوية الإرادة” أن تكون محدِّدة فهذا لا يعيقها بأن تكون مُحدَّدةً حتى لو كانت مُحدِدَّة. لا أريد أي شيء، أريد ما أريد، فهذا هو السبب في كوني حرا في إرادتي.
حسنا، فهل أنا حر في أن أريد شيئا آخر أرغب فيه؟ هل إرادتي هي قوة عفوية في الاختيار( أو بمعنى آخر قوة لا تخضع إلا لمن أكون) ؟ أو قوة غير محددة بالاختيار( التي لا تخضع لأي شيء، حتى لأناي)؟ هل هي حرية نسبية إذن (إذا كانت رهينة بالأنا) أو مطلقة (إذا كانت الذات تتوقف عليها) ؟ فهل أنا فعلا حر؟مثلا أن أصوت لليمين، إذا كنت من أصحاب اليمين أو أن أصوت لليسار إذا كنت مع اليسار(عفوية الإرادة: أن أختار من أريد) أو أنا حر في التصويت لليمين أو اليسار. من المحتمل في وضعية خاصة جدا، سأختار بحرية أن أكون مع اليمين أو اليسار؟ هذه الحرية الثانية للإرادة هي حرية غامضة حيث يبدو أنها تنتهك مبدأ الهوية( إنها تفترض أنني أريد شيئا آخر غير ما أريد) هذا ما يسميه الفلاسفة أحيانا بحرية اللامبالاة liberté d’indifférence أو بالأحرى: حرية الاختيار(الحرية الاعتباطية) libre arbitre يقدم مارسيل مارسيل كوش تعريفا كاملا لها: “حرية الاختيار هي القدرة على أن تحدد نفسك بنفسك” هي نفسها معنى الحرية عند ديكارت وكانط وسارتر، إنها تفترض ما أفعله (وجودي) وليست مُحددة بمن أكون(ماهيتي) ولكن على خلاف ذلك، “أن اختار بحرية كما يرى سارتر يتضمن مطلب الاستقلال الذاتي المطلق. هذا ما فهمه ديكارت بدقة، فالفعل الحر من إنتاج جديد تماما، كبذرة لا يمكن إحتواؤها في حالة سابقة من العالم، وبالتالي فالحرية والخلق لا يمكن أن يكونا إلا شيئا واحدا.” لهذا السبب يعتبر سارتر أن الحــرية غير ممكنة، اللهم إلا إذا كان “الوجود يسبق الماهية” إذا كان الإنسان حر فلإنه أولا “لا-شيء” ولن يصبح إلا ما يفعل/يصنع ce qu’il se fait لن أصبح حرا إلا بشرط، هذه المفارقة، القدرة على أن أكون من أنا أو أن أكون من لا-أنا بشريطة أن أختار حقا ذاتي بذاتي، يقول سارتر في مؤلفه الوجود والعدم “كل شخص هواختيار(مشروع)مطلق لذاته”
اختيار الذات لذاتها، بدون حرية اختيار مستحيل، أو لا يمكن تخيله، هذا ما بيَّنه أفلاطون في نهاية كتابه “الجمهورية” عندما أشار في عرضه لأسطورة الراعي جيجيس “التي نرى فيها أرواحا تتقمص هيئتين فيختارون أجسادهم وحياتهم” يصف كانط هذه الحالة بالصفة العقلية le caractère intelligible بالإضافة إلى سارتر الذي نعته في إشكال آخر، “بالحرية الأصلية” التي تسبق كل الاختيارات والتي تعتمد عليها كل الاختيارات. الحرية وفق هذا الإطار مطلقة، أو لا توجد، أو بالأحرى هي القدرة في خلق ذاتها بذاتها، وعليه فهي لا ترتبط إلا بالاله، كما يعتقد البعض، فإذا كان لنا القدرة نحن أيضا( القدرة الحرة المطلقة) فسيكون باستطاعتنا أن نكون آلهة.
يبدو إذن أن هناك مفهومان رئيسيان: حرية الفعل وحرية الإرادة، المفهوم الثاني ينقسم بدوره إلى قسمين: عفوية الإرادة وحرية الاختيار. هل هذا كل شيء؟ لا، بالطبع، لأن الفكرة أيضا فعل، فعل ما نريد، يمكن كذلك أن نفكر فيما نرغب، هنا يطرح إشكال حرية التفكير، أو كما نقول أيضا حرية الروح، هذا المشكل يحجب عنا في جزئيته “حرية الفعل” وبالتالي فالحرية في معناها السياسي: حرية التفكير( كل ما يفترض حرية المعلومة/ التعبير/ المناقشة) يرتبط بحقوق الإنسان وتجليات الديمقراطية.
لكن هذا يذهب إلى حد أبعد، إذا أعطينا مثلا مشكلا في الرياضيات، إلى أي حد أنا قادر على إيجاد حل؟ بمعنى الاختيار الحر؟ بالفعل لا: الحل يُفرض علي إذا فهمت البرهان، وسينفلت مني بالضرورة(الحل) إذا لم أفهمه(البرهان) فالأشياء تقاس بي عندما أعقلنها: إنّي أفكر فيما أشاء أي في ما أعرف أو فيما (أعتقد) أنه على صواب، لا حرية بدون تلك المعرفة، التي لن تكون مجدية، ما لم يتمكن العقل من الوصول إلى الصواب ولو بطريقة جزئية، وبالتالي فإنه سيظل مقيدا بذاته: ستبقى حججه مجرد هذيان، وكل فكرة ستتحول إلى أعراض( علامة على الهذيان). العقل هو الفيصل، فهو يحررنا من ذواتنا ويفتحنا على الكونية، يرى الان(اميل شارتيي) أن ” العقل لا يمكنه بحال من الأحوال أن يكون خاضعا، دليل رياضي كاف ليثبت ذلك، لأنك إذا صدقت هذا البرهان بدون تمحيص، ستكون غبيا وخائنا للعقل “ لهذا السبب لن تجد طاغية يحب الحقيقة، أو يعشق العقل، في حين أن العقل والحقيقة لا يمكن تصورهما إلا كغاية في ذواتهما، ولا يخضعان لأي غاية خارجية، لأن الحاجة إلى الحقيقة هي الوجه الآخر للاستقلالية.
كم هو قياس ثلاث زوايا المثلث في الفضاء الإقليدي؟ كيفما كان جسدي، بيئتي، بلدي، لاوعيي، وكيفما كانت كينونتي، سأجيب إذا فهمت وعرفت البرهان ب 180 درجة، ومع ذلك، فأنا لست حرا، ربما لأنني لم أخضع إلا للحقيقة رغم معرفتي بها، وللعقل كذلك، بمعنى آخر، هذه الحاجة للأنا التي ليست أناي تخترقني وأفهمها. يمكن لنا أن نضاعف الأمثلة: ما هو ضرب ناتج 7X3 ؟ ما هي العلاقة بين الكتلة والطاقة؟ من قتل هنري الرابع؟ هل الشمس تدور حول الأرض أم العكس؟ وحده الشخص الذي يجهل الأجوبة له الحق في اختيار جواب، ووحده من يعرف الجواب يستطيع الجواب بحرية.
حرية الفكر: حرية العقل هو ليس اختيارا حرا: هو اختيار ضروري ملزم. هي حرية الحقيقة، أو الحقيقة كحرية، هي الــحرية وفق المنظور السبينوزي والهيغلي، وأيضا وفق منظور ماركس وفرويد بدون شك، الحرية كضرورة مفهومة أو كفهم (الحرية وعي بالضرورة) أن تكون حرا، بالمعنى الحقيقي للكلمة، هو أن لا تكون خاضعا إلا للضرورة، يفسر اسبينوزا هذا القول: لهذا يعتبر العقل حرا ومتحررا.
حرية الفعل، عفوية الإرادة، حرية الاختيار، حرية الروح أو العقل… بين هذه المفاهيم الأربعة كل واحد يمكنه اختيار ما يريده، أي ضمن تلك الاختيارات المتاحة، التي تظهر أكثر أهمية في حالات معروفة. هل هذا الاختيار حر؟ لا يمكننا الإجابة بشكل مطلق، لأن المعرفة غير كافية، ولأن كل جواب يفرض بحد ذاته اختيارا نعتمد عليه. الحرية لغز، أو هي على الأقل مشكلة: ليس باستطاعتنا أن نثبت ذلك، أو حتى أن نفهمه، هذا اللغز يشكلنا، هذا هو السبب في أن الجميع هم أنفسهم، إذا اخترت ما أكون(ما سأكون عليه) يمكن تحقيق ذلك، في حياة أخرى مثلما ذهب إلى ذلك افلاطون، أو في عالم آخر مثلما يرى كانط، أو في مستوى آخر كما يرى سارتر، في المداولة الطوعيةDélibération volontaire لكن هذه الحياة الأخرى، هذا العالم والمستوى الآخر، لا يتيح لي أن أتوصل، مفهوميا، إلى أي معرفة، لهذا دوما ما أعتقد أنني حر (انطلاقا من الحــرية بمعناها الاعتباطي) من دون القدرة على الإثبات.
من الممكن أن يكون الشيء الأهم بالنسبة لنا في موضع آخر، ذلك أنه انطلاقا من هذه التحديدات الأربعة، على الأقل ثلاثة صعبة لأن تكون موضوعا للنقاش حولها: حرية الفعل، عفوية الإرادة، حرية العقل الضرورية، هذه الأشكال الثلاثة للحرية يملكون نقطة مشتركة كونهم غير موجودين، بالنسبة لنا، إلا على نحو نسبي، في حالتنا هذه يمكن القول ( أن لدينا أكثر أو أقل الحرية في التصرف، والإرادة و المعرفة) وهذا يصلح للتحدي بشكل كاف: السؤال هو معرفة ما إذا كنت حرا بشكل مطلق، أكثر من أن تفهم كيف يمكنك أن تصبح حرا قدر ما يكفي. حرية الاختيار التي تعتبر لغزا تهمنا أقل مما يهمنا التحرر، كسيرورة، كغاية وعمل. نحن لسنا أحرارا، نحن نصير كذلك(أحرارا) أو على الأقل هذا ما أعتقد، وبالتالي فالحرية حسب هذا الإطار غير مطلقة أبدا،غير محدودة، لا- نهائية، لم نعد أكثر أو أقل حرية، إن الأمر يتعلق بأن نصبح أحرارا قدر المستطاع.
حتى لو كان سارتر على حق، هذا غير كاف، لتفنيذي في هذه النقطة الأخيرة لإثبات أنني على خطأ. فكوننا أحرار في حالة سابقة أو لا، مسألة لا تمنعنا كما يقول نيتشه من أن نصير ما نحن إياه، ومهما يطمح أي شخص أن يكون “اختيارا مطلقا للذات” كما ذهب إلى ذلك سارتر، فهذا لن يعفينا من الفعل، ولا من الإرادة، ولا من المعرفة.
الحرية ليست فقط لغزا بل هي أيضا “هدف” أو “مثال“ idéal . ومهما فشل اللغز في أن يكون واضحا، فهذا لن يمنع “المثال”من إضاءتنا. وطالما عجزنا عن بلوغ الغاية بالكامل فهذا لا يمكن أن يكون عائقا من الطموح لها. ينبغي علينا أن نتعلم كيف نتحرر، هذه الحرية، ليس لها إسم آخر- كما يرى اسبينوزا- غير الحكمة.
المرجع:
André Comte – Sponville, Présentations de la philosophie، éd, Albin Michel S.A 2000 de la page