نعيش كأمة عربية وإسلامية واحدة من نكباتنا المتواصلة، المجددة لتلك النكبة التاريخية المشؤومة، ولنكساتنا المتوالية. ونكتوي بمشاهدِ وأخبارِ وأحداثِ القتل والسحل والتهجير والتشريد والتنفيذ المجرم لعمليات التطهير العرقي وبسط الاستيطان والاحتلال.
يستشهد أبناؤنا بالجملة تحت أعيننا، ويتلقون الرصاص بصدورهم العارية، عُزَّلا، أمام آلات الفتك المختلفة، بدعم دول العالم ومساندته، وبأسلحته ومواقفه العدوانية المخادعة. وتهدم البيوت فوق رؤس أبنائنا تحت أعين العالم وأعيننا ومسؤوليتنا.
فهل ستدوم نكبتنا أو تتواصل وتتمدد في ذكراها الثالثة والسبعين الشنيعة؟؟
وهل سنتعايش مع نكبة ثقيلة أزلية ونكسات متوالية؟؟
وهل سنلبث في هذا المستنقع الآسن من المهانة والعدوان والدماء؟؟
ويستمر النخاسون في عَرضنا والمتاجرة بسوءاتنا واستغلالنا للسخرة
والإذلال؟؟
وهل يستمر المحتلون في ممارسة ساديتهم على أبنائنا؟؟
أم هل سنهب لنحسم معارك الكرامة والحق، ونسترد حقوق شعوبنا المغتصبة،
ونسترد قراراتنا السيادية، ومكانتنا بين الأمم الحرة؟
أَمَا آن لبعض المستعبدين أن يكسروا السلاسل؟
وأن يخلعوا الخوف والرهاب؟
ويعافوا وضعية كلاب الحراسة؟
ويعافوا ما يلقى لهم من فتات معفر بالتراب والوحل والعفن؟
أما آن لهم أن يقلعوا عن مفاسدهم؟
ويعلنوا التمرد الشامل.
أليست هذه فرصتنا ونحن نشاهد
انتصارات الأحرار وتضحياتهم فنهب لنصرتهم لتكون معركة الحسم.
لقد أُهدرت كرامة الأمة العربية والإسلامية بأيدي بنيها. بفسادهم وأطماعهم
وانحرافاتهم الفكرية والخلقية، وبهشاشة شخصيتهم، ونقص تكوينهم وخبرتهم السياسية والعلمية
والثقافية.
عندما عقد الرئيس السادات اتفاقية كامب دافيد مع الاحتلال قال إنه يريد فتح
قناة الحوار والتفاوض لحل معضلة الاحتلال وإحلال السلام.
بل إنه تنازل للاحتلال عن أراضي مصرية ليحقق ما سماه "الهدف السامي"
السلام !؟
وزاد من جاء بعده فضرب الحصار على الفلسطينيين مساهمة في تحقيق ذلك "الهدف
السامي" السلام!
وكي لا يظل وحده في معركة "السلام" أو أكذوبة السلام، فقد انخرطت
معه أغلب الدول العربية وساهمت سرا وعلانية إلى جانب إسرائيل في ضرب وقنبلة إخوانها
وقتل نصف الشعب الفلسطيني المطالب بالحرية، جوعتهم وكبلتهم لتَلَقّي الصواريخ
والاستشهاد بالجملة، لتفسح الطريق "لسلامها" الذي تريد.
لقد سمته أحيانا زورا بهتانا أو استيهاما "سلام الشجعان" وهو
استسلام المتواطئين ومعهم الانهزاميين؟
اليوم وقد طبعت كل البلاد العربية مع الاحتلال، وتبادلت المحبات والعناقات
والضيافات والاتفاقات، وأعدت البِيَعَ والمزارات والمتاحف، ونظمت االهيلولات
الدينية والمدنية، وتبادلت الزيارات والسياحة والزراعة والدعم الاقتصادي
والاجتماعي والثقافي والنفسي، وأحيت العلاقات والوشائج. فكت الحصار على إسرائيل بكل
اختصار، وشددته على الفلسطينيين.
الآن بكل هذه الجهود، هل تستطيع مجتمعة بمؤاخاتها، أو بمساعداتها لإسرائيل،
أن تطالبها نيابة عنا، فقط، بالتوقف عن القتل، أو فقط، بالتوقف عن مزيد من سلب
بيوت وأراضي الشعب الفلسطيني.
أو هل تستطيع بما لها من مكانة لدى إسرائيل، وأياد بيضاء عليها، أن تجعلها توقف
عدوانها، بعد أن ساعدتها بأعلى طاقتها مواجهةً شعوبها ومتحملة من التاريخ ومن
التضحيات ما لا يحتمل؟
هل ستستطيع ؟!
وهل ستفعل !؟
وهل ستحاول أن توصل اسرائيل دولة الاحتلال والقتل إلى السلام المنشود !؟
هل؟ وهل؟ وهل؟
ذاك ما أجابت عنه الأحداث المتوالية منذ بداية شهر رمضان حتى اليوم منتصف
شهر العيد، أجابت عنه بما تلقاه هذا الشعب من صواريخ، وما سقط فيه من شهداء، وما
هدمت فيه من بيوت، وما خربت فيه من بنيات، إذ لم تستطع الدول العربية المستضعفة ولا
الفاسدة شيئا لمن تصنع لهم السلام، ولا نتحدث عن تلك التي تتورط عن سبق إصرار في
إبادتهم.
إن إسرائيل تتلقى الأسلحة المدمرة الدولية والأموال والمساعدات والحماية.
وتمتلك جيشا منظما تعتدي به على إخوة عزل مستضعفين أحرار أصحاب حق.
الصهيونية مشروع تدميري توسعي اسمه إسرائيل. لكنه عالمي أيضا تجتمع حوله
إرادات كثيرة وتتضامن لإنجازه، بل تتخذ الصهيونية وإسرائيل أداة لتنفيذه.
لا نجهل كون هذا الفيروس الصهيوني مزروع من طرف القوى المتطلعة للتعاظم
والاستقواء في العصر، بإضعاف وتفكيك، بل تفجير، قلب الأمة العربية والإسلامية
القوية بمعتقداتها وقيمها وحضارتها وتاريخها، لتقوم على حسابها. ولأن هذا الفيروس
مكلف بمهمة، فإنه يتم شحذه وتقويته لينهض بمسؤوليته كجسم سرطاني عليه إنهاء حياة
العرب والمسلمين وتدمير حضارتهم وثقافتهم. لكنه تهديد لأمن وسلام العالم.
الذي ظهر جليا أن فلسطين جسم منيع، وأرض حرة، تدافع عن نفسها وحريتها
بالتفاني والإبداع. أرض النساء والرجال الأحرار، يبدعون ما يواجهون به طغيان الأمم
وجبروت الغزاة. وأن الفلسطينيين أصحاب حق، يستشهدون ويقتّلون بآخر مستجدات آلات
الحرب المبتكرة في الدول العظمى، لكنهم شهداء الحق والعدل لا يساومون ولا يستسلمون.
والحرية قيمة إنسانية عليا لا تعنينا وحدنا ولا نتعشقها كشعوب عربية
وإسلامية وثالثية مقهورة، بل هي حلم أمم وشعوب وأحرار العالم أينما كانوا، وقيمهم
التي ينهضون إليها ويقدمون من أجلها التضحيات والأرواحَ والجهود والعطايا وكلَّ ما
تتطلبه وتفرضه من مواقف. قيم تشترك فيها الإنسانية بوصفها تعني الإنسان في كينونته
الأصيلة كإنسان، مهما اختلفت قناعاته ودياناته ومعتقداته ومواقعه.
للحرية حماتها. إن شعوبنا وشعوب العالم تنتفض في كل مكان، مؤطرة بنفسها.
لقد تعودت الشعوب أن تؤطر نفسها وألا تعول على من يؤطرها ويقودها في ظل سيادة
الرشاوي والمفاسد، فالمظالم وحدها من ينظم ويؤطر ويدفع ويملي القرارات. ويجب أن
تُعزل تلك القرارات الرسمية المتواطئة حالا، ليتحول القرار للمواطن في كل مكان، هو
المكتوي بالظلم والجور والخديعة ليأخذ بزمام المبادرة ويقرر قراره الحر، إذ لا
يمكنه أن يتعايش مع المظالم والمفاسد وجرائم القتل والتشريد والعنصرية والإبادة
الجماعية.
على الشعوب والأمم أن تأخذ بزمام نفسها وتنهض بمسؤولياتها وتحرر قراراتها
وإراداتها وتستقل. وأن تعمل بالجدية اللازمة على إنهاء هذه النكبة المتواصلة، وتدخل
معركة الحسم مع الإرهاب، وهي لا شك ستفعل بكل تأكيد وتهب لحسم معركة الكرامة،
فأقطاب الفعل اليوم متعددة.
لقد تم اليوم إعلان الهدنة ووقف
إطلاق النار.
ومع التجارب الكثيرة التي راكمناها سواء بالحرب أو بالتنازلات، لا يمكن إلا
أن نخرج بالاستنتاجات التالية:
1 ـ أنه لا وقفُ إطلاق النار ولا الإبقاء على الوضع كما هو يعتبر حلا اليوم
أو غدا.
2 ـ أنه لا مناص من التحرير الكامل للأرض المقدسة لتتعايش فيها الديانات
والأعراق والناس وتحكمها العدالة والديمقراطية كي يعمها السلام.
3 ـ أنه لا مناص من إرجاع الحقوق لأصحابها الفلسطينيين، ولا يمكن تغيير
ديمغرافية البلاد بتهجير أهلها وتشريدهم لجلب مستوطنين من أصقاع الأرض وإحلالهم
محلهم.
4 ـ أنه لا يمكن أن تكون إقامة الدولتين حلا أبدا أبدا، فلا يمكن لدولة من
نوع إسرائيل الصهيونية الإرهابية أن تتعايش جنبا إلى جنب مع أي أحد.
5 ـ أنه لا يمكن تقسيم أرض هي مقسمة أصلا.
6 ـ أنه لا يعتبر بالتالي أي من الشعارات والمشاريع المقدمة عدلا ولا حلا
في الحال أو المستقبل. إنما الأرض لله يعمرها البشر ويتعايشون فيها بمقتضى قوانين
العدالة وحقوق الناس كأفراد، قبل أن يكونوا جماعات، وبمقتضى قوانين الطبيعة،
وقوانين التنقل والحرية والعيش المشترك.
7 ـ إن إسرائيل دولة احتلال ولا بد للاحتلال أن يزول ولا بد لمن هو محتل أن
يتحرر إنسانا أو أرضا.
الحرية قيمة إنسانية عليا لا تعنينا وحدنا ولا نتعشقها كشعوب عربية
وإسلامية وثالثية مقهورة، بل هي حلم أمم وشعوب وأحرار العالم أينما كانوا، وقيمهم
التي ينهضون إليها ويقدمون من أجلها التضحيات والأرواحَ والجهود والعطايا وكلَّ ما
تتطلبه وتفرضه من مواقف. قيم تشترك فيها الإنسانية بوصفها تعني الإنسان في كينونته
الأصيلة كإنسان، مهما اختلفت قناعاته ودياناته ومعتقداته ومواقعه.
إن اليهود والديانة اليهودية لا علاقة لهما بالصهيونية.
الصهيونية مشروع احتلالي توسعي ممتد من مشرق الكرة الأرضية لمغربها ومن
شمالها لجنوبها، فالصهيونية العالمية تحكم وتتحكم في الدول العظمى وتقيم بنياتها
المافيوزية في دول العالم، وتملي على الدول العظمى مواقفها وقراراتها، وتبتز أموال
شعوبها ومساعداتهم لتراكم الأسلحة والحماية كدولة إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين تمارس
في الأمة العربية والإسلامية العدوان والمظالم وتتطلع للتمدد والتوسع عبرها.
وأهم ما يجب التنبه إليه أن الصهيونية عمليا متوسعة بشكل خفي في أعتى دول
العالم وأقواها، تتوهم هذه الدول أنها تستخدم الصهيونية وهي المستخدمة في الحقيقة،
فعندما تصفي المقاومة الفلسطينية ستعلن عن هيمنتها على العالم وتوسعها فيه
وسيطرتها عليه.
على أحرار العالم أن يعرفوا ما يتهددهم من المشروع الصهيوني عندما تصفَّى
المقاومة الفلسطينية. أوربا عاشت وخبرت جرائم الصهيونية واكتوت بها.
وإذا كانت قضية الهولوكوست حقيقية تاريخية فهي تؤكد ما مارسته الصهيونية في
أوربا من جرائم ومفاسد وخيانات جعلت أوربا تقدم على عملية تطهير بنيتها وتثبيت
أمنها.
وإذا كان الهولوكوست أسطورة وأكذوبة تاريخية فهي تؤكد الخداع والابتزاز
الذي يقوم عليه المشروع الصهيوني لإخضاع العالم ونهب أمواله ومواقفه.
الصهيونية فيروس لا يحل بأمة إلا يخرب بنيانها، ومعركتنا مع الصهيونية
مشتركة مع باقي دول العالم وشعوبه وأممه المتطلعة للتحرر والأمن والسلام بما فيها
الشعب اليهودي الحر.
إن فيروس الصهيونية يتكلم زورا باسم اليهودية واليهود، فيخرب الأمم وينشر
الدمار ويهدد السلام العالمي وليس سلام الشعوب العربية وحدها.
نحن العرب والمسلمين وشعوب العالم نميز جيدا بين الصهيونية كمذهب إرهابي
وبين اليهود كبشر أحرار يعشقون السلام، وبين اليهودية كديانة سماوية مثل كل
الديانات السماوية الداعية للسلام والتآخي بين الناس واحترام الاختلاف مهما كان.
وديننا الإسلامي يقوم على مبدأ الاختيار الحر والمسؤولية الفردية. الإسلام رسالة،
يطلب من المسلم تبليغُها لا يتجاوز ذلك، تأسيسا على مبدإ حرية الاختيار التي يؤكد
عليها النص القرآني في كل المواقع، ويقوم عليها الإسلام.
أما الصهيونية فهي المذهب الذي تقوم عليه دولة إسرائيل وتمارس به الإرهاب
والاحتلال لأرض وشعب فلسطين المحاصر المجوع المحكوم بقوة الحديد والنار يعاني
العوز والحاجة، لكنه كما خلده التاريخ شعب الجبارين، يبدع في كل لحظة ما يجعله من
ألمع شعوب الأرض، يحركه التمسك بالحياة ومقاومة الموت والظلم والمهانة، فيستخرج
أسلحة مقاومته من تراب الأرض حجرا، وحَفْرًا بالأظافر، وتصنيعا للنفايات يحولها
صواريخ دفاعية أبلغ من صواريخ الفولاذ والصلب التي تهديها دول العالم لدولة
الاحتلال، فللحق قوة لا تطاولها قوة السلطة ولا قوة المال والجاه.
معارك التحرر طويلة عصيبة، وشعب فلسطين يبدع دائما ملاحمه الملحمة تلو
الأخرى، والموازين تتغير حثيثا، والنصر قريب. نصر السلام والحق والعدل لأرض
السلام، أرض فلسطين المجيدة.
لا مناص من التحرر الشامل للأرض المقدسة أرض الديانات وأرض الرب. لا يمكن
للعالم أن يأمن مع وجود دولة الشر تمارس الإرهاب الدولي، وتقوم على ابتزاز الشعوب
والأمم وتقوم على الكراهية والأحقاد وتقوم على اغتصاب الأرض والحقوق وزرع الفتن
وتنشر الحروب والدمار في العالم.
دولة كهذه لا مستقبل لها ولا أمل.
دولة الزوال، وستزول وتمحي دون شك كي يحل السلام .
شاركت بملخص هذه المحاضرة في ندوة نظمت عن بعد يوم الجمعة 21 ماي 2021،
بمشاركة فعاليات جامعية دولية، تحت عنوان "فلسطين في ذكرى النكبة وانتفاضة
الأقصى"، من طرف الهيئة الأردنية الأوربية العليا في جنيف، والجالية الأردنية
في باريس، والمعهد الدولي العربي للسلام والتربية، ومنصة نحن قادرون على الابتكار
والإبداع.