في أدب الرسالة تـُطوى أسرار الأدباء . فهي لا تشق طريقها الصخري ، في الحياة الثقافية والأدبية ، إلا ببوح عميق ودفين بالمعاناة ، وارتكاز قوي وفعال على تجربتي الألم والتوتر . فالرسالة أو النظر في الوجه العزيز ، وثيقة تاريخية يُحتفظ بها لما سيأتي من الأيام والأزمان ، تعمل في نقل العواطف الجياشة ، وتسرع من وثيرة الفرح والحبور . أ هو لقاء العشاق والمحبين ؟ أم لقاء فن الكتابة وعلم التاريخ ؟
بهذا كله تصبح الرسالة شاهدة على عصر ، تسود فيه القلاقل والمحن
والانتكاسات . وفي الشأن ذاته ، يرتفع كتاب " ورد ورماد " ، للأديب
والأكاديمي محمد برادة ، إلى مصاف النماذج المميزة المعاصرة في الأدب العربي في
الجنس الرسائلي . إن التغطية الزمنية ، التي غطتها هذه الرسائل ، والتي استغرقت
زهاء عقدين من الزمن 1975ــ1997 ، كفيلة بأن تقربنا أكثر من واقع هذين الأديبين ،
اللذين بصما تاريخ الأدب المغربي بروائع ، تخص مختلف الأجناس الأدبية ، من الرواية
إلى حدود الترجمة مرورا بفن القصة القصيرة . وأسوة بباقي الأدباء ، الذين جعلوا من
أدب الرسالة واسطة للكشف عن أسرار الثقافة والعلم ، نجد العلاقة التي ربطت بين
السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي وجاك حسون ، والتي تسلط أضواء نيونية عن
سفريات مكوكية بين فرنسا والكيبك ، مقتفين بذلك أثر علماء النفس والاجتماع عبر
العالم من خلال مؤتمراتهم ، التي تعقد في كل بقاع المعمور . بينما الرسائل التي
جمعت بين دهاقنة الفكر العربي ؛ محمد عابد الجابري وحسن حنفي ، كانت بمثابة حوار يؤلف بين المغرب
والمشرق . وكانت مجلة اليوم السابع ، التي تصدر في فرنسا ، في كثير من أعدادها ، تعمل
بانتظام على نشر هذا الحوار ذي التوجه الفلسفي الموسوم برهانات سياسوية تهم العالم
العربي من خلال إثارة القضايا الساخنة والمصيرية ، المتعلقة بالليبرالية والناصرية والعلمانية . كما شكل
الانتصار للوحدة العربية ، في
نظرهما ، يعد مخرجا
حقيقيا للأزمة ، التي يتخبط فيها العالم العربي .
وسعيا وراء تلك التحولات ، التي همت منعطفات في تاريخ السرد المغربي ، تجيء
نصوص " ورد ورماد " لتحتفي بالفضاء كعنصر بان للعملية الإبداعية . حيث
إن الصداقة تتحقق تحت ظلال الأمكنة ، التي يتردد عليها مجنون الورد في طنجة
الأسطورة . فمهما حاول شكري أن يخفي افتنانه بهذا الفضاء الساحر والآسر ، إلا أن
رعشات اليد ، وهي تتلمس طريقها إلى الكأس الأخيرة ، تشي هذا التلاحم الأبدي بين
الجسدين ؛ فجسد طنجة من جسد محمد شكري . يقول مجنون الورد : " استيقظت منذ
قليل . أكتب لك بيد راعشة . مازلت في كأسي الأولى . الصيف عفن . لا أستطيع الاستمرار
في الكتابة . الدوخة والغثيان . هذا يكفي . حتى عنوانك سأكتبه بعد أن تزول الرعشة
" .
" ورد ورماد " سفر بوح في المظروف ،
فبين الكاتبين صداقة تعدت المألوف والبديهي ؛ لتدخل ظلالا زيزفونية ، وتكشف عن
مستور هذه العلاقة . فضلا عن ذلك جاءت " إشارة " في مقدمة الكتاب ،
كدليل صارخ على بداية سفر مجهول في رحاب الرسالة . يقول محمد برادة : " أول
مرة تعرفت فيها على محمد شكري ، التقيته خلال عطلة صيف 1972 بشارع باستور بطنجة
... كان يمسك برسن كلب كبير يمشي بتلقائية وسط زحمة الناس " . إن هذه البداية
جاءت كنسغ غير مألوف ؛ لتنفتح على إبداعات محمد شكري ، بدءا ب " الخبز الحافي
" ، حيث كانت المبادرة في اتجاه الشرق ، وبالضبط الوجهة بيروت بلبنان ، حيث
امتنعت دار الآداب من نشر فصول هذه السيرة الذاتية ، نظرا للجرأة التي كتبت بها ،
واقتحامها مساحات شاسعة من المسكوت عنه في المجتمع المغربي آنذاك .
جاءت هذه الرسائل ، بين شكري وبرادة ، لتعبر عن
مقاومة من نوع خاص ؛ مقاومة السديم المضطرب ، والشعور بالعبث في حياة مليئة
بالخواء المادي والروحي . إلا أن اللجوء إلى ضمادة الخمر والمسكن النسائي ، حسب
برادة ، ينعش الداخل ، ويملأ البطارية لما سيأتي من قليل الأيام . فالكتابة ، في
ظل هذا العدم ، كانت متنفسا حقيقيا للأديبين . علاوة على ذلك ، نجد أن محمد برادة
كان حريصا كل الحرص على المستقبل الأدبي لمحمد شكري من زاوية المواكبة الحقيقية ،
عبر المظروف ، لمختلف إبداعاته . فسيرته الذاتية العطرة المتشكلة من ثلاثة أجزاء "
الخبز الحافي " و " زمن الأخطاء " و " وجوه " ، كانت تعج
بكلمات ريفية يستعصي فهمها في المشرق ، لذا اقترح برادة على شكري أن يحذف كل
المفردات ذات الصلة بالخصوصية البيئوية في الريف شمال المغرب . يقول في " ورد
ورماد " : " أقترح حذف الكلمات المكتوبة بالريفية و الاكتفاء بأن نقول :
قال بالريفية ما معناه ..." .
وفي ذات المسعى ، كان يرى برادة أن الكتابة ،
من خلال هذه الرسائل ، تحريض مستمر على فضح وتعرية واقع موبوء وحرون . لذا سعى جاهدا
من موقعه ، وبعلاقاته الكوسموسية بين الشرق والغرب ، إلى أن يذلل أمام سيرة محمد
شكري ، عقبات النشر والتوزيع ؛ كي تعرف طريقها الخبيب إلى القراء . وما من إسهام
في تبني هذا الطرح ، إلا وتجد الكاتب محمد برادة يتابع التحفيز لمواصلة الكتابة
على درب الألم والمعاناة ؛ لأن السيرة الذاتية لمحمد شكري تظل ناقصة ، ما لم يتم
إصدار الجزأين المتبقيين " زمن الأخطاء " و" وجوه " . فضلا عن
ذلك اختار شكري أن يقيم رباطا متينا ، بينه وبين محبيه من القراء والجمهور داخل
طنجة و خارجها ، من أجل الاسترسال في الكتابة ، والذي اعتبره ـ أي الرباط ـ مسلكا
نحو المزيد من العطاء الأدبي ، والتحفيز المادي والمعنوي على مواصلة الإبداع ،
وألا يكتفي من قرارة نفسه برواية ما حدث ،
كصورة طبق الواقع ، وإنما أن يطلق العنان لمخياله الأدبي ؛ كي يسبح في عوالم تفضفض
ما كمن بالنفس ، حسب تعبير محمد برادة في إحدى رسائله .
وفي هذا الصدد ، لا يخلو كتاب " ورد ورماد " لمحمد برادة من
أزمات صحية وصراعات عاشها محمد شكري . ففي الجناح الجديد لمستشفى الأمراض العصبية
بتطوان ؛ " ماريوكا " كان في نزال مع مرض الربو العصابي ، والذي أرغمه على
المكوث للعلاج في المستشفى . إن هذه المرحلة العصيبة ، التي مر منها شكري ، لم تخل
من طرائف ، حيث كانت إدارة المستشفى تترك الكاتب الخروج دون رقابة ، مما أرغمته
ظروفه الصحية الجلوس إلى أقرب مقهى ، إذا به يفاجأ أنه كان بها نادلا ، وهو دون
الحادية عشر من عمره ؛ حيث اشتغل فيها غاسل كؤوس وصحون .
في هذه التجارب ، دائما ، والتي تقاسمها شكري
و برادة في " ورد ورماد " ، كانت المواكبة ، للساحة الثقافية والفكرية المغربية
، حاضرة بشكل قوي ، حيث إن هجوما شنه شكري على مجموعة من المثقفين المغاربة الذين
يسيئون ، في نظره ، إلى تجربته الإبداعية ، وفي مقدمتهم صديقه اللدود ؛ الكاتب
الفرنكفوني الطاهر بن جلون . ومن هذه الزاوية كان ابن جلون قد نشر مقالا بجريدة
لوموند الفرنسية ، والذي بخس فيه الحياة الثقافية بالمغرب ، بل جعل من محمد شكري
مجرد حكواتي ، مما استغله كمصدر ثر للحكاية والتجربة ، الكاتب الأمريكي بول بولز .
لقد أضحت الرسائل ، في هذا
المستوى ، بين الأدباء والكتاب ، حرائق تنقل الرماد ، بل تكشف عن عالم جدير بالغزو
؛ لأن الأسرار تختبئ في هذا البوح الحارق . فمهما حاولنا ملامسة هذا المسكوت عنه
في الثقافة العربية ، إلا ونجد أنفسنا مضطرين إلى تناول هذه المواضيع بنفس أقوى ، وبمتغيرات جديدة ؛ لأن نص الرسالة نص مفتوح
أمام عوادي الدهر ونوائبه.