-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

بــَـــوحٌ حارقٌ - ذ . رشيد سكري


في أدب الرسالة تـُطوى أسرار الأدباء . فهي لا تشق طريقها الصخري ، في الحياة الثقافية والأدبية ، إلا ببوح عميق ودفين بالمعاناة ، وارتكاز قوي وفعال على تجربتي الألم والتوتر . فالرسالة أو النظر في الوجه العزيز ، وثيقة تاريخية يُحتفظ بها لما سيأتي من الأيام والأزمان ، تعمل في نقل العواطف الجياشة ، وتسرع من وثيرة الفرح والحبور . أ هو لقاء العشاق والمحبين ؟ أم لقاء فن الكتابة وعلم التاريخ ؟

   بهذا كله تصبح الرسالة شاهدة على عصر ، تسود فيه القلاقل والمحن والانتكاسات . وفي الشأن ذاته ، يرتفع كتاب " ورد ورماد " ، للأديب والأكاديمي محمد برادة ، إلى مصاف النماذج المميزة المعاصرة في الأدب العربي في الجنس الرسائلي . إن التغطية الزمنية ، التي غطتها هذه الرسائل ، والتي استغرقت زهاء عقدين من الزمن 1975ــ1997 ، كفيلة بأن تقربنا أكثر من واقع هذين الأديبين ، اللذين بصما تاريخ الأدب المغربي بروائع ، تخص مختلف الأجناس الأدبية ، من الرواية إلى حدود الترجمة مرورا بفن القصة القصيرة . وأسوة بباقي الأدباء ، الذين جعلوا من أدب الرسالة واسطة للكشف عن أسرار الثقافة والعلم ، نجد العلاقة التي ربطت بين السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي وجاك حسون ، والتي تسلط أضواء نيونية عن سفريات مكوكية بين فرنسا والكيبك ، مقتفين بذلك أثر علماء النفس والاجتماع عبر العالم من خلال مؤتمراتهم ، التي تعقد في كل بقاع المعمور . بينما الرسائل التي جمعت بين دهاقنة الفكر العربي ؛ محمد عابد الجابري  وحسن حنفي ، كانت بمثابة حوار يؤلف بين المغرب والمشرق . وكانت مجلة اليوم السابع ، التي تصدر في فرنسا ، في كثير من أعدادها ، تعمل بانتظام على نشر هذا الحوار ذي التوجه الفلسفي الموسوم برهانات سياسوية تهم العالم العربي من خلال إثارة القضايا الساخنة والمصيرية ، المتعلقة بالليبرالية والناصرية والعلمانية . كما شكل الانتصار للوحدة العربية ، في نظرهما ، يعد مخرجا حقيقيا للأزمة ، التي يتخبط فيها العالم العربي .

  وسعيا وراء تلك التحولات ، التي همت منعطفات في تاريخ السرد المغربي ، تجيء نصوص " ورد ورماد " لتحتفي بالفضاء كعنصر بان للعملية الإبداعية . حيث إن الصداقة تتحقق تحت ظلال الأمكنة ، التي يتردد عليها مجنون الورد في طنجة الأسطورة . فمهما حاول شكري أن يخفي افتنانه بهذا الفضاء الساحر والآسر ، إلا أن رعشات اليد ، وهي تتلمس طريقها إلى الكأس الأخيرة ، تشي هذا التلاحم الأبدي بين الجسدين ؛ فجسد طنجة من جسد محمد شكري . يقول مجنون الورد : " استيقظت منذ قليل . أكتب لك بيد راعشة . مازلت في كأسي الأولى . الصيف عفن . لا أستطيع الاستمرار في الكتابة . الدوخة والغثيان . هذا يكفي . حتى عنوانك سأكتبه بعد أن تزول الرعشة " .

  " ورد ورماد " سفر بوح في المظروف ، فبين الكاتبين صداقة تعدت المألوف والبديهي ؛ لتدخل ظلالا زيزفونية ، وتكشف عن مستور هذه العلاقة . فضلا عن ذلك جاءت " إشارة " في مقدمة الكتاب ، كدليل صارخ على بداية سفر مجهول في رحاب الرسالة . يقول محمد برادة : " أول مرة تعرفت فيها على محمد شكري ، التقيته خلال عطلة صيف 1972 بشارع باستور بطنجة ... كان يمسك برسن كلب كبير يمشي بتلقائية وسط زحمة الناس " . إن هذه البداية جاءت كنسغ غير مألوف ؛ لتنفتح على إبداعات محمد شكري ، بدءا ب " الخبز الحافي " ، حيث كانت المبادرة في اتجاه الشرق ، وبالضبط الوجهة بيروت بلبنان ، حيث امتنعت دار الآداب من نشر فصول هذه السيرة الذاتية ، نظرا للجرأة التي كتبت بها ، واقتحامها مساحات شاسعة من المسكوت عنه في المجتمع المغربي آنذاك .

  جاءت هذه الرسائل ، بين شكري وبرادة ، لتعبر عن مقاومة من نوع خاص ؛ مقاومة السديم المضطرب ، والشعور بالعبث في حياة مليئة بالخواء المادي والروحي . إلا أن اللجوء إلى ضمادة الخمر والمسكن النسائي ، حسب برادة ، ينعش الداخل ، ويملأ البطارية لما سيأتي من قليل الأيام . فالكتابة ، في ظل هذا العدم ، كانت متنفسا حقيقيا للأديبين . علاوة على ذلك ، نجد أن محمد برادة كان حريصا كل الحرص على المستقبل الأدبي لمحمد شكري من زاوية المواكبة الحقيقية ، عبر المظروف ، لمختلف إبداعاته . فسيرته الذاتية العطرة المتشكلة من ثلاثة أجزاء " الخبز الحافي " و " زمن الأخطاء " و " وجوه " ، كانت تعج بكلمات ريفية يستعصي فهمها في المشرق ، لذا اقترح برادة على شكري أن يحذف كل المفردات ذات الصلة بالخصوصية البيئوية في الريف شمال المغرب . يقول في " ورد ورماد " : " أقترح حذف الكلمات المكتوبة بالريفية و الاكتفاء بأن نقول : قال بالريفية ما معناه ..." .

  وفي ذات المسعى ، كان يرى برادة أن الكتابة ، من خلال هذه الرسائل ، تحريض مستمر على فضح وتعرية واقع موبوء وحرون . لذا سعى جاهدا من موقعه ، وبعلاقاته الكوسموسية بين الشرق والغرب ، إلى أن يذلل أمام سيرة محمد شكري ، عقبات النشر والتوزيع ؛ كي تعرف طريقها الخبيب إلى القراء . وما من إسهام في تبني هذا الطرح ، إلا وتجد الكاتب محمد برادة يتابع التحفيز لمواصلة الكتابة على درب الألم والمعاناة ؛ لأن السيرة الذاتية لمحمد شكري تظل ناقصة ، ما لم يتم إصدار الجزأين المتبقيين " زمن الأخطاء " و" وجوه " . فضلا عن ذلك اختار شكري أن يقيم رباطا متينا ، بينه وبين محبيه من القراء والجمهور داخل طنجة و خارجها ، من أجل الاسترسال في الكتابة ، والذي اعتبره ـ أي الرباط ـ مسلكا نحو المزيد من العطاء الأدبي ، والتحفيز المادي والمعنوي على مواصلة الإبداع ، وألا يكتفي من قرارة نفسه  برواية ما حدث ، كصورة طبق الواقع ، وإنما أن يطلق العنان لمخياله الأدبي ؛ كي يسبح في عوالم تفضفض ما كمن بالنفس ، حسب تعبير محمد برادة في إحدى رسائله .

    وفي هذا الصدد ، لا يخلو  كتاب " ورد ورماد " لمحمد برادة من أزمات صحية وصراعات عاشها محمد شكري . ففي الجناح الجديد لمستشفى الأمراض العصبية بتطوان ؛ " ماريوكا " كان في نزال مع مرض الربو العصابي ، والذي أرغمه على المكوث للعلاج في المستشفى . إن هذه المرحلة العصيبة ، التي مر منها شكري ، لم تخل من طرائف ، حيث كانت إدارة المستشفى تترك الكاتب الخروج دون رقابة ، مما أرغمته ظروفه الصحية الجلوس إلى أقرب مقهى ، إذا به يفاجأ أنه كان بها نادلا ، وهو دون الحادية عشر من عمره ؛ حيث اشتغل فيها غاسل كؤوس وصحون .

   في هذه التجارب ، دائما ، والتي تقاسمها شكري و برادة في " ورد ورماد " ، كانت المواكبة ، للساحة الثقافية والفكرية المغربية ، حاضرة بشكل قوي ، حيث إن هجوما شنه شكري على مجموعة من المثقفين المغاربة الذين يسيئون ، في نظره ، إلى تجربته الإبداعية ، وفي مقدمتهم صديقه اللدود ؛ الكاتب الفرنكفوني الطاهر بن جلون . ومن هذه الزاوية كان ابن جلون قد نشر مقالا بجريدة لوموند الفرنسية ، والذي بخس فيه الحياة الثقافية بالمغرب ، بل جعل من محمد شكري مجرد حكواتي ، مما استغله كمصدر ثر للحكاية والتجربة ، الكاتب الأمريكي بول بولز .

لقد أضحت الرسائل ، في هذا المستوى ، بين الأدباء والكتاب ، حرائق تنقل الرماد ، بل تكشف عن عالم جدير بالغزو ؛ لأن الأسرار تختبئ في هذا البوح الحارق . فمهما حاولنا ملامسة هذا المسكوت عنه في الثقافة العربية ، إلا ونجد أنفسنا مضطرين إلى تناول هذه المواضيع بنفس أقوى  ، وبمتغيرات جديدة ؛ لأن نص الرسالة نص مفتوح أمام عوادي الدهر ونوائبه.     

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا