-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

تداخلٌ روائي : ذ . رشيد سكري


  الرواية  تجربة حياة .

   وفيها يكتشف الروائي عوالمه الإبداعية الفسيحة و المترامية .  فالقرن العشرون كان محمولا على منارات روائية أنارت عوالم الفكر والأدب ، واستطاعت أن تبصم المخيال العربي والغربي على حد سواء . بيـْد أن المسار الذي خلفته الرواية العربية ، بمجيء

الروائي المصري نجيب محفوظ ، كان منعطفا تاريخيا حقيقيا في بنائها وبدائلها التاريخية . وأمام صعود الفكر التاريخاني ، منتصف القرن العشرين ، وقسيمه الرواية التاريخية ، كانت للمفكر المجري جورج لوكاتش ، نظرة جديدة لواقع الرواية العالمية ؛ فمن بين أهم ما جاءت به رؤية لوكاتش أن سحب البساط من تحت الحدث التاريخي ، الذي يؤطر الرواية التاريخية ، جاعلا من الفاعلين في السرد إيقاعا شعريا ، يتلاءم والتجسيد الحقيقي للواقع . وفي ذلك يرى جورج لوكاتش أن الرواية التاريخية قريبة من الواقع ، بعيدة عن رؤية كلاسيكية ربطتها بأحداث ذات طابع تاريخي . إلا أن هناك تعاريفَ أخرى تنضاف إلى قائمة توصيفات ، التي تجلل مفهوم الرواية في ارتباطها العضوي بالتاريخ . فخلو الرواية من طابعها الفني ، يعيد إلى أذهانها إصرارها الدؤوب على إعادة إنتاج الوعي السائد . فضلا عن ذلك ، فهي تحافظ على وظيفتها الوعظية والإرشادية والتعليمية .

   وبناء على ذلك ، كان شكري عزيز الماضي في كتابه " أنماط الرواية العربية الجديدة " يبني صرحه المعرفي والفكري على التمييز المعقلن بين كل أنماط الرواية العربية انطلاقا من الرواية التقليدية أو الكلاسيكية ، مرورا بالرواية الحديثة ، وانتهاء بالرواية الجديدة . فالكلاسيكية ، إلى جانب ارتباطها بالبعدين التاريخي والاجتماعي ، فإنها لا تتنازل ، حسب عزيز الماضي ، عن رؤيتها الفنية للإنسان والعالم . و بها كانت لها الجرأة الكافية أن تتخلص من سفيف التعابير ، ومن قيود السجع والبلاغة التقليدية القديمة  . بيد أن الرواية الحديثة انفتحت على مغامرات في طريق مجهول ومبهم المعالم ، فتسرب الغموض إلى بنائها اللولبي والدائري ، حيث إن القارئ يشعر بالخواء ، بما هو سمت نحو إعادة بناء أقنومه الخاص به . إلا أنها لم تتجاوز مبدأ الإيهام بالواقعية ، خصوصا في وصف الأفضية ، التي تدور فيها أحداث النص الروائي .

  هذا الارتباط بالعلية والأسباب ، في الرواية الحديثة ، يعكس مدى تعلقها وتشبثها الجامد والعضوي بالواقع ، مادام هذا الأخير يتناغم معها في وئام وانسجام . بينما الرواية الجديدة أطلق عليها اسم " رواية اللارواية " ، أو رواية الحساسية الجديدة أو الذائقة الجديدة . وفيها تم تحطيم أسطورة الإيهامية بالواقعية  ، وكان البديل هو الدخول إلى عوالم قرمزية تـُعْنى بالجمال المادي والروحي . فضلا عن إعادة تشكيل الواقع على أساس رفض وتحطيم أصنام قديمة ، التي أسست فعل الإبداع الكلاسيكي بكل ألوانه وأطيافه . علاوة على أنه يؤمن ـ أي الواقع ـ  باللايقينية العالم ، حيث الكبير فيه يصغر ، والصغير يكبر ، والمستطيل يثلث بحسب التعبير الوارد في المؤلف النقدي " الزرافة المشتعلة " لأحمد بوزفور . وإن كان هذا الأخير ، يتحدث عن القصة القصيرة إلا أن إعادة تشكيل هذا الواقع لا يمر إلا عبر كل الأجناس التعبيرية اللغوية وغير اللغوية .

  عبر هذه الأشكال ، التي رسمها أحمد بوزفور ، ورسخها في أذهان النقاد الجدد ، بما لها من وشائج ثابتة باللايقينية الأشياء ، التي يصادفها الإنسان في هذا الواقع ، نجد الناقد الفرنسي ميشيل بوتور في مؤلفه النقدي " بحوث في الرواية الجديدة " أشار إلى أن أبعاد الرواية الجديدة متمثل ، بالأساس ، في البعد الموسيقي . وفي هذا الصدد يقول بوتور " إن الموسيقى والرواية ، يوضح أحدهما الآخر، ولابد لنا ، في نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص بالثاني ، وما كان ، حتى الآن بدائيا ، عليه بكل بساطة أن يصبح قياسيا ، وهكذا ، يجدر بالموسيقيين أن ينكبوا على مطالعة الروايات ..." .

   إن في كلمة موسيقى ما يشير إلى التغريد و الغناء ، وباستطاعتها ـ أي الموسيقى ـ أن تتشكل من داخل الرواية ، على اعتبار أن الشخصيات ، التي تتردد في العمل السردي ، هي كائنات موسيقية ، تصدح بالأنغام والرقص على إيقاع الأحداث . يتضح ، من خلال ذلك ، أن ميشيل بوتور ربط بين شيئين اثنين بين الوجود الموسيقي في الرواية ، وبين وجود القوى الفاعلة ، التي تعمل على تبلور السرد الروائي . وهذا مما أدى إلى التمييز بين الاستمتاع والدراسة والتأليف ، وبين الوجود الكينوني للقوى الفاعلة في الرواية . ومن هنا تشرئب ، هذه الأخيرة  ، من خلال هذه العلائق ، على كافة الفنون التي يتواصل بها الإنسان مع واقعه وبيئته وفي مقدمتها الرسم والتشكيل . نستخلص مما تقدم ، وبما جاء به بوتور في كتابه " بحوث في الرواية الجديدة " ، هو بمثابة دعوة صريحة إلى تداخل الأجناس التعبيرية ، مادامت تهدف إلى التواصل بمختلف أشكاله وألوانه .

   تتمثل خصوصية هذا التداخل الأجناسي ، في العمل الروائي ، من زاوية التأريخ الحقيقي لأحداث بصمت الفترة ، التي يكشف عنها الروائي في روايته . هكذا يمكننا القول إن الرواية الجديدة كان ميسمها التأريخ للعصر ، كشكل من أشكال التداخل المعرفي ، الذي تعرفه العلوم الإنسانية برمتها . وفي ذلك ، سيكون الأمر طبيعيا إذا قلنا إن نجيب محفوظ ، في الرواية العربية ، مثل صورة واضحة الأبعاد عندما وضع التأريخ ، لمصر الفراعنة ، كإحدى اللبنات الأساسية ، التي دشن من خلالها  مشروعه الروائي . فالمزية ليست في خلق عوالمَ سردية مجانية تنسج خيالا ، وتخلف وراءها زوابع فكرية لا ينطفئ أوارها ، وإنما المزية الحقيقية هي تسليط الضوء على حقبة من الرؤية المادية للتاريخ . حيث إن نجيب محفوظ ، حسب الدكتور صلاح فضل ، جرب الرواية التاريخية ، كمدخل ، لينتقد الحياة المعاصرة ، وتوثيقه الشفيف للواقع المصري ؛ أسوة بما أبدعه جرجي زيدان ، عندما اتخذ التاريخ العربي مصدرا  ثرا لا ينضب معينه من الحكي .

    ومما يزيد من إشكالية هذا التداخل ، في التجربة المحفوظية في الرواية العربية ، تجاوزه مستمر و دؤوب للأساليب المستعملة انطلاقا من باكورته الروائية الأولى " عبث الأقدار" . وفي هذا الصدد يقول صلاح فضل في كتابه " عوالم نجيب محفوظ " مايلي : " إذ كان وقتها متشبعا بأنماط من التعبيرات اللفظية الفخمة ، التي كان نجيب محفوظ يحفظها عن ظهر قلب ، ولم يدرك وقتها ضرورة خضوع وسيلة التعبير لطبيعة موضوع الرواية الذي تناولها ... " . في هذه الانعطافة ، ولتجاوز جيل الأساتذة ، الذين بصموا تجربة نجيب محفوظ شكلا وبناء ، وفي مقدمتهم طه حسين وسلامة موسى و علي الجارم وغيرهم ، نجد المرحلة الواقعية التي أعطاها محفوظ قدرا أوفر في تحسين وتكثيف الأسلوب الخاص بالرواية . فمن الطبيعي أن تجئ رواية " الحرافيش " كملحمة جسدت هذا المنعطف في الكتابة عند نجيب محفوظ . فالتداخل الروائي لم يقتصر فقط على الانتقالة السلسة ، في الإبداع ، من طور إلى طور فحسب ، وإنما تعدى ذلك ليشمل النصوص النقدية الموازية والمواكبة لروايات نجيب محفوظ ، ليعانق في الأخير ، حسب صلاح فضل دائما ، المرحلة الجمالية والشعرية في اللغة ، حيث أصبحت هذه الأخيرة تعج بعبارات وتراكيب يسكنها الرمز والدلالات السيميولوجية ، والسيميائية المبهرة بالألوان والأطياف ، التي تعري الواقع المصري .

  و أخيرا ، يظل التداخل الروائي عنوانا كبيرا للتطور والإبدال ، الذي يطال التجربة الروائية عند نجيب محفوظ ، بما هو فسح المجال  لتطوير آليات النقد  ، التي تباشر النصوص الإبداعية . وهذا تجسيد لسنة التطور الهادف من خلال الكشف عن نصوص تسافر عبر الزمن الثقافي ، وتخترق بذلك ، الطبقات الجيولوجية للفكر الإنساني الباعث للنمو والخلق والبناء الهادف ؛ بدعوى أن الثقافة تبني أجيالا تحترف النقد البناء .                           

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا