الرواية تجربة حياة .
وفيها يكتشف الروائي عوالمه الإبداعية الفسيحة و المترامية . فالقرن العشرون كان محمولا على منارات روائية أنارت عوالم الفكر والأدب ، واستطاعت أن تبصم المخيال العربي والغربي على حد سواء . بيـْد أن المسار الذي خلفته الرواية العربية ، بمجيء
الروائي المصري نجيب محفوظ ، كان منعطفا تاريخيا حقيقيا في بنائها وبدائلها التاريخية . وأمام صعود الفكر التاريخاني ، منتصف القرن العشرين ، وقسيمه الرواية التاريخية ، كانت للمفكر المجري جورج لوكاتش ، نظرة جديدة لواقع الرواية العالمية ؛ فمن بين أهم ما جاءت به رؤية لوكاتش أن سحب البساط من تحت الحدث التاريخي ، الذي يؤطر الرواية التاريخية ، جاعلا من الفاعلين في السرد إيقاعا شعريا ، يتلاءم والتجسيد الحقيقي للواقع . وفي ذلك يرى جورج لوكاتش أن الرواية التاريخية قريبة من الواقع ، بعيدة عن رؤية كلاسيكية ربطتها بأحداث ذات طابع تاريخي . إلا أن هناك تعاريفَ أخرى تنضاف إلى قائمة توصيفات ، التي تجلل مفهوم الرواية في ارتباطها العضوي بالتاريخ . فخلو الرواية من طابعها الفني ، يعيد إلى أذهانها إصرارها الدؤوب على إعادة إنتاج الوعي السائد . فضلا عن ذلك ، فهي تحافظ على وظيفتها الوعظية والإرشادية والتعليمية . وبناء على ذلك ، كان شكري عزيز الماضي في كتابه
" أنماط الرواية العربية الجديدة " يبني صرحه المعرفي والفكري على
التمييز المعقلن بين كل أنماط الرواية العربية انطلاقا من الرواية التقليدية أو
الكلاسيكية ، مرورا بالرواية الحديثة ، وانتهاء بالرواية الجديدة . فالكلاسيكية ،
إلى جانب ارتباطها بالبعدين التاريخي والاجتماعي ، فإنها لا تتنازل ، حسب عزيز
الماضي ، عن رؤيتها الفنية للإنسان والعالم . و بها كانت لها الجرأة الكافية أن
تتخلص من سفيف التعابير ، ومن قيود السجع والبلاغة التقليدية القديمة . بيد أن الرواية الحديثة انفتحت على مغامرات في
طريق مجهول ومبهم المعالم ، فتسرب الغموض إلى بنائها اللولبي والدائري ، حيث إن
القارئ يشعر بالخواء ، بما هو سمت نحو إعادة بناء أقنومه الخاص به . إلا أنها لم
تتجاوز مبدأ الإيهام بالواقعية ، خصوصا في وصف الأفضية ، التي تدور فيها أحداث النص
الروائي .
هذا الارتباط بالعلية
والأسباب ، في الرواية الحديثة ، يعكس مدى تعلقها وتشبثها الجامد والعضوي بالواقع
، مادام هذا الأخير يتناغم معها في وئام وانسجام . بينما الرواية الجديدة أطلق
عليها اسم " رواية اللارواية " ، أو رواية الحساسية الجديدة أو الذائقة
الجديدة . وفيها تم تحطيم أسطورة الإيهامية بالواقعية ، وكان البديل هو الدخول إلى عوالم قرمزية
تـُعْنى بالجمال المادي والروحي . فضلا عن إعادة تشكيل الواقع على أساس رفض وتحطيم
أصنام قديمة ، التي أسست فعل الإبداع الكلاسيكي بكل ألوانه وأطيافه . علاوة على
أنه يؤمن ـ أي الواقع ـ باللايقينية
العالم ، حيث الكبير فيه يصغر ، والصغير يكبر ، والمستطيل يثلث بحسب التعبير
الوارد في المؤلف النقدي " الزرافة المشتعلة " لأحمد بوزفور . وإن كان
هذا الأخير ، يتحدث عن القصة القصيرة إلا أن إعادة تشكيل هذا الواقع لا يمر إلا
عبر كل الأجناس التعبيرية اللغوية وغير اللغوية .
عبر هذه الأشكال ، التي
رسمها أحمد بوزفور ، ورسخها في أذهان النقاد الجدد ، بما لها من وشائج ثابتة باللايقينية
الأشياء ، التي يصادفها الإنسان في هذا الواقع ، نجد الناقد الفرنسي ميشيل بوتور
في مؤلفه النقدي " بحوث في الرواية الجديدة " أشار إلى أن أبعاد الرواية
الجديدة متمثل ، بالأساس ، في البعد الموسيقي . وفي هذا الصدد يقول بوتور "
إن الموسيقى والرواية ، يوضح أحدهما الآخر، ولابد لنا ، في نقد الواحد منهما من
الاستعانة بألفاظ تختص بالثاني ، وما كان ، حتى الآن بدائيا ، عليه بكل بساطة أن
يصبح قياسيا ، وهكذا ، يجدر بالموسيقيين أن ينكبوا على مطالعة الروايات ..." .
إن في كلمة موسيقى ما يشير
إلى التغريد و الغناء ، وباستطاعتها ـ أي الموسيقى ـ أن تتشكل من داخل الرواية ،
على اعتبار أن الشخصيات ، التي تتردد في العمل السردي ، هي كائنات موسيقية ، تصدح
بالأنغام والرقص على إيقاع الأحداث . يتضح ، من خلال ذلك ، أن ميشيل بوتور ربط بين
شيئين اثنين بين الوجود الموسيقي في الرواية ، وبين وجود القوى الفاعلة ، التي
تعمل على تبلور السرد الروائي . وهذا مما أدى إلى التمييز بين الاستمتاع والدراسة
والتأليف ، وبين الوجود الكينوني للقوى الفاعلة في الرواية . ومن هنا تشرئب ، هذه
الأخيرة ، من خلال هذه العلائق ، على كافة
الفنون التي يتواصل بها الإنسان مع واقعه وبيئته وفي مقدمتها الرسم والتشكيل .
نستخلص مما تقدم ، وبما جاء به بوتور في كتابه " بحوث في الرواية الجديدة
" ، هو بمثابة دعوة صريحة إلى تداخل الأجناس التعبيرية ، مادامت تهدف إلى
التواصل بمختلف أشكاله وألوانه .
تتمثل خصوصية هذا التداخل الأجناسي ، في العمل
الروائي ، من زاوية التأريخ الحقيقي لأحداث بصمت الفترة ، التي يكشف عنها الروائي
في روايته . هكذا يمكننا القول إن الرواية الجديدة كان ميسمها التأريخ للعصر ،
كشكل من أشكال التداخل المعرفي ، الذي تعرفه العلوم الإنسانية برمتها . وفي ذلك ، سيكون
الأمر طبيعيا إذا قلنا إن نجيب محفوظ ، في الرواية العربية ، مثل صورة واضحة الأبعاد
عندما وضع التأريخ ، لمصر الفراعنة ، كإحدى اللبنات الأساسية ، التي دشن من خلالها
مشروعه الروائي . فالمزية ليست في خلق
عوالمَ سردية مجانية تنسج خيالا ، وتخلف وراءها زوابع فكرية لا ينطفئ أوارها ،
وإنما المزية الحقيقية هي تسليط الضوء على حقبة من الرؤية المادية للتاريخ . حيث
إن نجيب محفوظ ، حسب الدكتور صلاح فضل ، جرب الرواية التاريخية ، كمدخل ، لينتقد
الحياة المعاصرة ، وتوثيقه الشفيف للواقع المصري ؛ أسوة بما أبدعه جرجي زيدان ، عندما
اتخذ التاريخ العربي مصدرا ثرا لا ينضب
معينه من الحكي .
ومما يزيد من إشكالية هذا التداخل ، في
التجربة المحفوظية في الرواية العربية ، تجاوزه مستمر و دؤوب للأساليب المستعملة
انطلاقا من باكورته الروائية الأولى " عبث الأقدار" . وفي هذا الصدد
يقول صلاح فضل في كتابه " عوالم نجيب محفوظ " مايلي : " إذ كان
وقتها متشبعا بأنماط من التعبيرات اللفظية الفخمة ، التي كان نجيب محفوظ يحفظها عن
ظهر قلب ، ولم يدرك وقتها ضرورة خضوع وسيلة التعبير لطبيعة موضوع الرواية الذي
تناولها ... " . في هذه الانعطافة ، ولتجاوز جيل الأساتذة ، الذين بصموا
تجربة نجيب محفوظ شكلا وبناء ، وفي مقدمتهم طه حسين وسلامة موسى و علي الجارم وغيرهم
، نجد المرحلة الواقعية التي أعطاها محفوظ قدرا أوفر في تحسين وتكثيف الأسلوب
الخاص بالرواية . فمن الطبيعي أن تجئ رواية " الحرافيش " كملحمة جسدت
هذا المنعطف في الكتابة عند نجيب محفوظ . فالتداخل الروائي لم يقتصر فقط على
الانتقالة السلسة ، في الإبداع ، من طور إلى طور فحسب ، وإنما تعدى ذلك ليشمل
النصوص النقدية الموازية والمواكبة لروايات نجيب محفوظ ، ليعانق في الأخير ، حسب
صلاح فضل دائما ، المرحلة الجمالية والشعرية في اللغة ، حيث أصبحت هذه الأخيرة تعج
بعبارات وتراكيب يسكنها الرمز والدلالات السيميولوجية ، والسيميائية المبهرة
بالألوان والأطياف ، التي تعري الواقع المصري .
و أخيرا ، يظل التداخل
الروائي عنوانا كبيرا للتطور والإبدال ، الذي يطال التجربة الروائية عند نجيب
محفوظ ، بما هو فسح المجال لتطوير آليات
النقد ، التي تباشر النصوص الإبداعية .
وهذا تجسيد لسنة التطور الهادف من خلال الكشف عن نصوص تسافر عبر الزمن الثقافي ،
وتخترق بذلك ، الطبقات الجيولوجية للفكر الإنساني الباعث للنمو والخلق والبناء
الهادف ؛ بدعوى أن الثقافة تبني أجيالا تحترف النقد البناء .