استقر إل النّور (أبويعزى) بجبل إيروكان، بعدما اختار خلوته وسط الغابة، فابتنى لنفسه بيتا وبستانا وبجوارهما المسجد والجامع، ثم بيوت المريدين الذين حفروا الآبار وشرعوا في استصلاح قطع أرضية هنا وهناك لزراعتها إعلانا ببداية جديدة للحياة هناك. لم يتأخر فتزوج من ميمونة، أولا، وهي يتيمة الأبوين تعيش مع أختها لدى خالتها، ترعيان قطيع الماعز.
أصبحت الشهور الثلاثة لفصل الربيع، من كل سنة، موعدا مفتوحا لقدوم المتصوفة والفقهاء والعلماء من سلا وفاس وسبتة وأزمور، كما باتت نهاية مارس محطة ركب الوافدين من الفقراء والبسطاء من تامسنا ودكالة وركراكة وأغمات ومراكش... جميعهم يجلسون أياما وأسابيع في ضيافة الشيخ الذي أطلق على أول أبنائه اسم يعزى، فصار أبا يعزى عند علماء وصلحاء سبتة والأندلس ثم فاس، والذين شاع بينهم في تقليد اجتماعي وثقافي جديد، أن يتم نعث الشخص بكنية جديدة تُنسبه إلى ابنه البكر، بينما بقي المغاربة من الفئات العامة ينادونه بسيدي الشيخ قبل أن يصبح " مولاي بوعزة" ، وهو ما بقي شائعا حتى الآن.
وبدق وتده وإرساء قواعد "زاويته" وخلوته، امتلك أبو يعزى أرضا يفلحها وبهائم وجبائح نحل كثيرة وشراكة مع آخرين في فلاحتهم، كما كان يتلقى الفتوح والزيارة حتى يستطيع إطعام الواصلين والزائرين، وقد تعوّد أن يواصل الحياة كما عُرف بها، لا يأكل إلا من النبات ولا يلبس إلا الخشن. يختلي في خلوته، ويستقبل زواره ويطعمهم بيديه أحسن الطعام ويريهم حينما يشاء مما اشتهر به من علاقته الفريدة بالحيوانات، وخصوصا الأسود والأفاعي، كما شاع عنه مداواة من جاءه مريضا، بطرق ذلك العصر.
من حين لآخر، يرتحل إلى فاس، وربما إلى سبتة وأزمور.. وهي أسفار وحيدة. ولم يُسمع أنه حج أو كان إماما، بل لم يكن يتحدث مع مخاطبيه باللغة العربية أو دارجها وإن كان، في الغالب، يفهمها، وإنما كل كلامه كان بالأمازيغية التي يجيدها. كما لم يشهد أحد أنه درّس أو أفتى، وكيف له ذلك وهو يعكس نموذج الإنسان الشعبي البسيط والأمي، لم يكن يحفظ من سور القرآن سوى سورة الإخلاص والمعودتين، كما أورد أكثر من شاهد.
في وصفه وشُهرته: أجمعوا في وصفه كونه كان شيخا من الأبدال، شهرته بالمغرب الانقطاع عن الخلق، وإجابة الدعوة، والفراسة الصادقة الجادة، لم يكن يتكلم إلا الأمازيغية التي كانت منتشرة باعتبارها لغة الكلام الأصلية، فاحتاج إلى من يترجم كلامه وأصبح له واحد أو أكثر برفقته، كما عيّنله إماما للمسجد ومؤذنا.
شهرته أنه كان أسود اللون، طويل القامة سامقا في السماء، نحيفا ليس بوجهه نبات. معتدل الصوت، كثير الحياء والعبادة بعكازة في يده.أما لباسه في كل مراحل حياته، فيعكس الحالة الاجتماعية لفقراء المغرب خلال القرن الثاني عشر الميلادي، وأيضا زهده في كل شيء. يلبس بُرنسا مُرقعا أسود اللون، يصل إلى تحت ركبتيه، وجُبة من تليس مُطرّق.ثم لبس البرنس الأبيض وعلى رأسه شاشية من عَزَف.
أما أكله، فكان من الطبيعة، لا يأكل ما يأكله الناس، وإنما أشياء من الحشيش تعوّدَ أكلها. وأن قوُته من ورق الدفلى على ما هو مشهور به من المرارة والكراهية، يأكله مسلوقا بلا ملح ولا زيت. وإذا حضره أحد أكل معه منه فيُساغ كما يساغ له، ويجده كسائر البقول المأكولة.وكان قد حجب نفسه عن الشهوات، وامتنع عن اللذات في الدنيا.
قال التميمي: "شاهدت معيشته ورأيت الخادم تصنع له ذلك؛ كانت تأخذ قُديرة صغيرة مثل التي تصنع للأطفال الصغار، فتجعل فيها قليلا من اللبلاب، فإذا طبخ ذلك، حفّنت بيديها حفنة من دقيق البلوط الشعري وتخلط ذلك. فإذا جاء بعد صلاة المغرب، قدمته إليه، فأخذ بيده ملعقة ولعق بها ما في القديرة، فكان يكتفي بذلك". كما شاهده التميمي حينما زاره بمراكش أثناء حبسه بالصومعة، فوجد معه "أقراصا مطبوخة من دقيق البلوط كان يتقوّتُ بها، وهي سُود مثل الأقراص التي تُحرق لعمل الموري".
وتحدث العزفي عن "أكله لشجرة الدفلى على مرارتها وفظاعتها، ويُسميها الأطباء شجرة الجمار. يُقال هي من سمومه مثل رهج الفأر للفأر. هكذا شاهده الجم الفقير والعدد الكثير، ونقل بعض الوافدين عليه أنه أخذها من فيه فأكلها حلوة عذبة، بل قال بعضهم إنه أخذ منه شيئا فجعله في عصيدة الشعير فاستحالت عذبة حلوة". وذكر أبو الصبر أنه رآه يأكل الدفلى ويعالج بها، بعد مضغها، لغير ما نوع من الأدواء. أما ابن ابن عربي الحاتمي فقد روى عمن حدثه وقال بأنه " كان يمدُّ يده إلى ما وجده من نبات الأرض، من أعظمه مرارة، فيُطعمك إياه كأنه حلواء". ويعتبر الشيخ ابن عربي أن أبا يعزى صاحب تجربة غذائية عرفانية.
وشُوهد الشيخ يجمع له الخبازى فيطبخ ويجفف ويرفع، فإذا أراد أن يأكل منه جعله في القدر فيأخذ منه لقمة أو لقمتين وهو يزأر كالقاهر لنفسه وهو يقول لها: ليس لك عندي إلا هذا.
ويمكن ربط هذا بحادثة وقعت له في أول حياته، بالمرحلة الأولى، حينما كان راعيا للأغنام وكان واحد من أرباب المواشي يسلمه رغيفين كل يوم، يأكل واحدا ويعطي الرغيف الثاني لرجل منقطع بالمسجد الذي كان يحبُّ الذهاب إليه، ثم جاء رجل آخر وانقطع بالمسجد، فدفع إليه بالرغيف الثاني، وتحول إلى الأكل من نبات الأرض وهو يرعى، كأنه يتشبه بالأغنام، وهو يقول لنفسه:" ما أصنع بأكل الطعام ونبات الأرض يغنيني".
وعلى عكس ما اشتهر به في أكله، كان أثناء استقراره، يطعم "من يقصدونه، بالزيارة من الآفاق، بأطيب الطعام، والعسل ولحوم الظأن، وأطعمة الدجاج والفواكه الطيبة، ولا يأكل هو شيئا من ذلك لأنه كان لا يشارك الناس في شيء من معايشهم، وإنما يتقوّتُ من نبات الأرض وعيون الدفلى". وكرمه هذا هو ما يتحدث به كل من زاره. كما ذكر أبو الصبر أيضا أن أبا يعزى أعطاه جُبة في سفر من أسفاره إليه، وهي من تلّيس مضلع رقيق يشبه الأكسية الغلاظ.وقال التادلي: ورُئيَ في النوم بعد وفاته وهو يطير في الهواء مع رجال الجو، فقيل له: بما نِلتَ هذا يا أبا يعزى؟ فقال: بإطعام الطعام".
أما عن استقراره وسكناه، والتي اختارها بإيروكان، فقد كانت بجبل تاغيا، لا يجاوره بموضعه أحد من الناس، وكانت داره التي يسكنها من غير باب ولا غلق. وكان له دكان بغربي المسجد في الركن القبلي في الصف الأول، وموقع المسجد الذي يصلي فيه أمام باب الدار، أما الغابة فقريبة من ذلك كله. وكان الزوار يجتمعون عنده كثيرا، ومن عاداته في مسجده إذا صلى العشاء الآخرة، دخل المحراب من يصلي بالناس جماعة في المسجد، وهو عامر بأهله، ويصلي من لم يدخل المسجد خارجا من المسجد برهة من الليل. ثم يخرج الإمام وينصرف الناس. فمنهم من ينام في المسجد، وبعضهم خارج المسجد حولها وبالبعد منها.وكان الشيخ يصعد في أعلى الجبل يدخل في الشعراء (الغابة)، حيث خلوته التي يختلي فيها، ولم نجد عند أحد خبرا عنها أو كيف يتعبّد فيها.
تزوج ميمونة أم ابنه البكر يعزى، وماتت وهي في الحج ثم تزوج أختها أم العز ، كما كانت له زوجات أخريات، كما يُستنتج من قول العزفي في دعامته:"فأمر الصغرى من أزواجه بأن تقرب إلى رغائف البر بالعسل" .
كان أبو يعزى، كما يقول الصومعي، لما استقر بجبل تاغيا قد ملك الأرض والماشية والأبقار وبات مشاركا لغيره، كما كانت له مجابح نحل كثيرة تنتج عسلا لا مثيل له. وكان إذا حرث يعطي، بعد الحصاد، تسعة أعشار للمساكين ويُحبِّس العشر الواحد لنفسه، وهو يقول:" استحي أن أمسك تسعة أعشار وأصرف العشر للمساكين فإن هذا من سوء الأدب مع الله عز وجل".
عاش أبو يعزى وساح واستقر في ثلاث جغرافيات متقاربة من ناحية مراكش إلى تامسنا ثم تادلا، وهي كلها مجال يشكل دائرة أصل سكانها من الأطولوليين كما تحدثت بذلك الكتابات اللاتينية القديمة، وهم "قبائل كيتولية يُحتمل أن تكون قد شغلت الساحل الأطلنتي ما بين سلا وموكادور كما يوحي بذلك نص بيلينيوس الأكبر. ارتكز نشاطها على قنص وترويض الحيوانات المتوحشة والمتاجرة بجلودها(...) لأنهم كانوا يشغلون مجالا يعج بالحيوانات الضارية"[ ص 128 و129 الفصل الثالث العالم المتوسطي قبل الإسلام ص.ص 81- 141 ؛ ضمن كتاب: تاريخ المغرب تحيين وتركيب . إشراف وتقدين محمد القبلي . الرباط، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب. المغرب ، السحب الثاني ، 2012 ]