(1)
عمل المغرب، في تشييد نظام تاريخ تطوره السياسي، على تبني مبدأ التعددية الحزبية السياسية باعتبارها فرضية عمل استراتيجية في التعبير عن تنوع مكونات المجتمع البشرية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ وعن اختلاف الآراء وتباين الأفكار وسجال النظريات والتصورات...فرسم كل ذلك في شكول هيئات وتنظيمات. ولتحقيق هذا الغرض، أنشئت
مجموعة من الأحزاب طبعت بميسمها هذا المسار التاريخي الحديث بطابعها الخاص الذي لايكاد ينفصل عن عقيدتها الإيديولوجية وشروط نشأتها والظروف التي تحكمت في تأسيسها. وكان من الطبيعي، وأخذا بعين الاعتبار سياقات الحقب الزمنية التي مر منها المغرب، أن يحدث التنافس بين هذه الأحزاب، وأن تتصارع فيما بينها، وأن تتشوف إلى حيازة السلطة النسبية المطروحة في المجتمع لضمان حقها في الوجود، واختبار قوتها وأهليتها في ساحة الصراع، وفحص كفاية قدرتها على تسيير الشأن العام وتدبير أموره عندما يسمح الشرط التاريخي بذلك.
وكان القصد المباشر من هذه الحركة الحزبية في المجتمع يتجسد في محاولة بلورة مفهوم ملموس للديمقراطية التمثيلية والتعددية السياسية ليصبح هذا المفهوم ركنا أساسيا من أركان الدولة الوطنية.
فإلى أي حد استجابت الانتخابات الأخيرة لهذا المطلب؟
(2)
في الاستحقاقات الانتخابية( المحلية، الجهوية، التشريعية) التي جرت يوم 8 شتنبر 2021 في المغرب، وبالعودة إلى نتائج صناديق الاقتراع المعلنة رسميا، تصدرت ثلاثة أحزاب هذه النتائج:
التجمع الوطني للأحرار
الأصالة والمعاصرة
الاستقلال
وعقب الإعلان عن هذه النتائج، أصدرت الأحزاب الثلاثة بلاغا مشتركا تفصح فيه عن نيتها في التحالف وعن رغبتها في التنسيق على جميع الأصعدة والمحطات كانتخاب الجهات والمجالس الترابية بمستوياتها المختلفة. وهو ما حصل بالفعل. إذ وزعت الجهات، مثلا، بالتساوي المطلق بين تلك الأحزاب الثلاثة المتحالفة بمعدل أربع (4) جهات لكل حزب. وسارت على النهج نفسه في قضية انتخاب المجالس في الحواضر والقرى والمداشر. بما يشبه استحكام السلطة المطلقة على مجموع التراب الوطني.
(3)
قد تبدو هذه الوقائع طبيعية ومنطقية ولا تشوبها شائبة بالنسبة للذي يتابع الأحداث السياسية في المغرب. ففي نظره هذه الوقائع متساوقة مع محصلة نتائج صناديق الانتخابات الثلاثية، من جهة، وتعكس سلامة التعبير الحزبي الحر عن الرأي، من جهة أخرى.
لكن المتمعن في كيفية اشتغال مفهوم التعددية وخلفيته القانونية والدستورية تسترعي انتباهه الملاحظات التالية:
+ هيمنة الأحزاب الثلاثة على المشهد السياسي في المغرب
في تقديرنا، فإن هذه الهيمنة تتناقض، جملة وتفصيلا، مع روح التعددية، المشار إليها في بداية هذه الورقة، ومع كنه تصور الديمقراطية التشاركية.
+ إزاحة قوى المعارضة والقوى الحية من جغرافية الخارطة السياسية
وتنم هذه الإزاحة عن انتهاك صريح لمقتضيات الدستور الذي ينص على مشروعية هذه القوى وما تختزنه من طاقات إبداعية وكفاءات وطنية، وعلى حقها المشروع في التأطير والمشاركة والتمثيل والمراقبة وإبداء الرأي في كل مسألة مسألة. كما تعكس هذه الإزاحة، على المستوى الأخلاقي، الشره النفعي الدفين والجشع الشديد في الحرص على تولي المناصب وتقلد الوظائف والعض عليها بالنواجذ وحصرها في دائرة حزبية مغلقة.
+ الإخلال بالترتيب التمثيلي للأحزاب
إذا علمنا أن أحزاب المعارضة قد أحرزت درجة متميزة ومعتبرة في السلم الترتيبي للانتخابات، فإن المراهنة على إبطال حقيقة وجودها التمثيلي في الممارسة الإدارية والتدبيرية للمؤسسات، موضوع الانتخابات، يتضمن، بصورة واضحة، قصدية الإجهاز على كتم أصوات الناخبين المعبر عنها لفائدة هذه الأحزاب والتحفظ ظلما على نسبة مقاعدها بالقوة والفعل. وبالتالي، ممارسة نوع من الحجر على إرادة المواطنين والمواطنات، وتشميع باب الأمل في وجوههم، ومحو أثر مداد إصبعهم، وتكميم حريتهم والتضييق عليها، وإفساد عنصر المواطنة في كينونتهم.
+ حالة التنافي في المناصب
صحيح أن حالات التنافي في المناصب لم يشر إليها المشرع إلا بكيفية جزئية كتلك التي يعين فيها الجمع بين صفة نائب برلماني وصفة رئيس مجلس جماعة يفوق عدد سكانها 300 ألف نسمة. والحال أن حالات التنافي في تولية المناصب ينبغي أن تكون قاعدة عامة وإجراء شاملا لكل أصناف مناصب المؤسسات بما فيها المؤسسة التنفيذية. إذ من شأن العمل بهذه القاعدة وأجرأتها أن يساعد على:
= التجسيد الفعلي لمبدأ تكافؤ الفرص
= فسح المجال لظهور نخب جديدة
= تفعيل التكوين المستمر في حقول التفكير، والتحليل، والابتكار
= تعميم تصور الديمقراطية التشاركية والمدنية...إلخ.
فالمعنى المستنبط من هذه القاعدة وكيفيتها الإجرائية يحد من الجمع بين عدة مناصب في يد شخص واحد. وخير مثال دال على ما نقول يتجلى في الجمع بين رئيس الحكومة( أو منصب وزير وغيره) ومنصب مجلس جماعة ترابية. فبالإضافة إلى الوضع الاعتباري المتعلق بكل منصب على حدة، فإن جسامة المسؤولية التي عهد بها الدستور إلى رئيس الحكومة قد تتعارض كليا مع حيازة أي منصب من المناصب المعينة في الجماعات داخل المدينة أو القرية. فمناط الحكم، في هذه المسألة، هو الاستحواذ على شيئين يؤدي أحدهما إلى نفي الثاني بفعل علة المرتبة والاختصاص والحيز والتقابل. وبعبارة أخرى، إن الحد بينهما بعيد في التعريف ويكاد ينقطع. ولهذه الغاية، يجب أن يسري فحوى هذه القاعدة على جميع أنواع المناصب وأنماط الوظائف، بصرف النظر عن المؤسسات التي تنتسب إليها.
= تكرار صيغة الهيمنة في الولاية وتداولها.
نقصد بذلك التشابه الكبير في نسبة الهيمنة بين الولاية الحالية المحتملة وبين الولايتين السابقتين عليها منذ 2011. فقد شاهدنا كيف استطاع حزب واحد، بوجهين مختلفين، أن يهيمن على معظم الهيئات والمؤسسات الترابية، والجهوية، والوطنية. وأن يتغلغل، بكل قوة، في مفاصل الدولة. وأن يستبد بقرار السلطة وخاتم مستنداتها. ومثل أي وليد ناشىء، تدرج من الحركة إلى الحزب إلى السلطة، انتشى بذلك أيما انتشاء في الخطاب والممارسة والأهواء. وتحول الحدث عند الأنصار والمريدين إلى نصر مكين وفتح مبين وغنيمة لا تخطئها العين.وعلى نقيض ما يدعيه في مرجعيته، انساق هواه مع المغالبة وانشد، ومال القسطاس عنده إلى قسمة ضيزى وامتد.وتماهى الحزب والعصبية والقبيلة وارتد. وكأن لسان حاله يقول:
و ما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
فصار بذلك إلى:حزب غزية.
وهي نسبة إضافة تضمر كل أنواع الحرب والغزو والسبي والغنيمة والنقيعة. وكأن الأمر يتعلق، من جهة أخرى، بيوم من أيام العرب كيوم اللوى الذي يشير إليه دريد بن الصمة.
وقياسا على ذلك، نلاحظ اليوم تكرار هذه العملية، مع الأحزاب الثلاثة، بكل حيثياتها وتمظهراتها على الرغم من اختلاف الممثلين على ركح اللعب في فضاء مسرحها وأحداثه الجارية.
هذا التماثل في الهيمنة بين الولاية السالفة بنسختيها والولاية الحاضرة يحدث الشك في مفهوم التعددية، ويدنو من هدم أساس الديمقراطية التشاركية-التمثيلية التي تطمح الدولة إلى إقراربنائها.ولذلك لايسهم البتة في تطور مسار النموذج الديمقراطي المنشود الذي يتطلع إليه أبناء المغرب في الحال والاستقبال.
وعليه، فإن هذه الملاحظات الأولية المتعلقة بالانتخابات تدعونا إلى التأمل في كيفية تكريس التعددية السياسية بجميع أبعادها والإعلاء من مفهومها، وتقييد نزعة الهيمنة والغلبة في أفق التشطيب عليها، وترسيخ الديمقراطية التمثيلية-التشاركية، واستحضار روح الدستور عند التفكير في بعض المسائل المحورية كمنصب رئيس الحكومة ووظيفة المعارضة، وتعميم حالات التنافي على كل الحقول وآلياتها الإجرائية، وإعادة النظر في المنظومة الانتخابية وقوانين المجالس والجهات الترابية بما يتلاءم والمسار الديمقراطي السليم في المغرب.