مثّل الإبداع المسرحي لتوفيق الحكيم (1898-1987) تأسيسا للكتابة المسرحية العربية، وأصبح علامة فارقة في تأصيل الفن المسرحي مكتوبا ومشاهدا. فقد قرأ المسرح الفرنسي وشاهده، خلال بعثته في فرنسا، وتأثر به كثيرا خاصة في أبعاده الفلسفية والفكرية، فلم ينجرف إلى المسرح الجماهيري الهزلي، أو التجاري أو الغنائي.وسعى إلى ترسيخ الفكر والفلسفة مسرحيا، على غرار ما نجده في مسرح إبسن وبرنارد شو وبيراندللو، فقرر بدء تجربته في الإبداع المسرحي المكتوب، بما يسمى بالمسرح الذهني، وهي التسمية التي أطلقها الحكيم نفسه على مسرحه في افتتاحيته لمسرحية بجماليون، وقارب بها مسرح الأفكار Drama of Idea في الغرب، وإن اختلف عنه في كون المسرح الذهني يتخذ الحوار سبيلا، والأفكار أساس العمل، بينما الفكرة تتجلى وتتطور من خلال الصراع في مسرح الأفكار، ما يجعل المسرح يوحي بالفكرة، في ثنايا الصراع، ولا يبوح بها حواريا.
لقد سلك الحكيم مسلكا صعبا في الكتابة المسرحية، لم ينجرف إلى ما هو جماهيري، وإنما أراد تقديم مسرح معمق في الفكر والفلسفة والفن، مستشعرا رغبته بتأسيس مسرح عربي عميق الطرح والرؤية، في مختلف القضايا، دون النظر إلى ردة فعل الجماهير له، أو موقفها من المسرح المقدم من قبله، والدليل على ذلك أن مسرحيته «أهل الكهف» التي عُرضت عام 1938، لم تلق نجاحا جماهيريا، على الرغم من نجاحها أدبيا، من خلال نشرها في الصحافة الورقية، ثم نشرها في كتاب خاص، وإشادة النقاد المعاصرين بها، مثل طه حسين والمازني، ومع ذلك فقد واصل الحكيم مشواره في الكتابة المسرحية، وركز على استلهام التاريخي والديني والأسطوري والموروث، كما نجد في أعماله المتعددة، فقد استلهم الديني في: «سليمان الحكيم» و«أهل الكهف» واستلهم الموروث الحكائي العربي التخييلي كما في «ألف ليلة وليلة» في «مسرحية شهرزاد» والتاريخ العربي في مسرحية «السلطان الحائر» وجنح إلى الموروث الأسطوري الإغريقي فصاغ العديد من مسرحياته منه، مثل: «بجماليون» و«أوديب ملكا» و«براكسا أو مشكلة الحكم» وكلك الأسطورة الشرقية كما في مسرحيات: «إيزيس» و«بين الحلم والحقيقة» وتابع مختلف الفلسفات الغربية، فاستوحى منها الكثير من المسرحيات، مثل الفلسفة الوجودية كما في مسرحيته «مصير صرصار» وكتب أيضا في مسرح العبث مسرحيته «يا طالع الشجرة». لقد كان الحكيم شغوفا بالتجريب المسرحي والنصي والفلسفي، دون اقتناع كامل منه، بمعنى أنه لم يتبن اتجاها مسرحيا أو فكريا طوال حياته، وإنما هو دائم القراءة والاطلاع في الفكر الغربي وفنونه، ومن ثم يتأثر به، ويعيد تقديمه في نصوصه المسرحية المؤلفة، بعكس الكثير من المؤلفين، الذين أخذوا على عاتقهم ترسيخ اتجاه ما، مثل النزعة الاشتراكية أو الفن للفن. وكان هذا يتم دون انتظام زمني، أي إذا استهوى الحكيمُ تيارا مسرحيا أو فلسفيا ما في الغرب، يبدع نصا أو نصوصا عديدة، ثم يتحول منه إلى تيار آخر، وقد صنّف محمد مندور تجربته الممتدة في ثلاث مراحل، الأولى: مرحلة المسرح الذهني، التي تتخذ من المسرح رموزا لمناقشة أفكار ذهنية مجردة، بدلا من الصراع المادي، وقد مرّ ذكرها. والثانية: مرحلة مسرح الحياة، وهي المسرحيات التي كتبها الحكيم إبان الفترة من 1943 إلى 1951 وجمعت في كتابين هما: «المسرح المنوع» و«مسرح المجتمع» وتبرز رأي المؤلف في الحياة الاجتماعية ومشاكلها.
والثالثة: مرحلة المسرح الهادف، وتضم مسرحيات كتبها الحكيم بعد تغيير الحكم في يوليو/تموز 1952، وجاءت صدى لفلسفة جديدة وروح جديدة، وأبرزها مسرحيات: «الأيدي الناعمة» و«الصفقة» و«أشواك السلام» وفي نظر مندور لا يسعى الحكيم في هذه المسرحيات إلى الكشف عن بعض حقائق الحياة، أو تقديم نقد لبعض أحداثها، بل يسعى إلى ترسيخ فكرة عملية قيادية في الحياة وتجسيدها في عمل درامي.
بالطبع هذه المراحل لا تسير في مراحل زمنية متتابعة حسب مسيرة الحكيم في الحياة، وإنما هي متداخلة في ما بينها بشكل كبير، وتعطي دلائل عديدة حول سمات مسرح الحكيم في منظور التحيز، وأبرزها: أن الحكيم كان مستشعرا بأهمية دوره في تأسيس الكتابة المسرحية الإبداعية، وقد أحسن صنعا أنه ولج هذا المجال من بابين أساسيين: الفن المسرحي والفلسفة، فقد تعرف على المسرح منذ صغره، وخلال صباه في الإسكندرية، وكتب مسرحيات عديدة مُثّلت بعضها على المسرح، مثل مسرحية «خاتم سليمان» التي قدمتها فرقة عكاشة عام 1924 وعندما أوفده أبوه للدراسة في فرنسا عام 1925 لاستكمال دراساته العليا في القانون؛ انصرف لمشاهدة العروض المسرحية والاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية والاطلاع على عيون المسرح العالمي وقراءة الأدب الفرنسي والفلسفة، ثم عاد إلى مصر دون الحصول على الدكتوراه، ليتوفر على الكتابة المسرحية والمشاركة في الإدارات الثقافية والفنية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية. فاختزن توفيق الحكيم جماليات المسرح الفرنسي في ذاكرته البصرية والوجدانية، مضيفا لها معرفته العميقة السابقة بفرق المسرح وعالم الفن في مصر، مدركا خلال رحلته في باريس أهمية تأطير الكتابة المسرحية بمرجعيات فلسفية، وأنه من الخطأ الاكتفاء بتصوير الواقع فقط، أو التعبير عن مشاكله دون نسق فكري وفلسفي يقرأ الشخصيات والأحداث والصراعات من خلاله؛ ما جعله نهما في قراءة الفلسفة، وتجلياتها في الفنون والإبداع، مثلما كان نهما في كتابة الإبداع المسرحي وإن لم يمثّل الكثير منه، فالمهم في وجهة نظره وجود تراكم في النصوص المسرحية تشبع خيال كل عاشق للمسرح، وتجعله لا ينظر إلى المسرح بوصفه تسلية وملهاة، وإنما هو إبداع جاد مقدم على الخشبة، ومدون في الكتب، ويشمل سائر ألوان المسرح الجاد. فلم يترك الحكيم اتجاها فكريا ومسرحيا إلا وكتب فيه، فتنقل بين موضوعات المسرح الإغريقي وأساطيره، والأساطير الفرعونية وتاريخ مصر القديمة، ثم المسرح الاجتماعي، والوجودي والعبثي والاشتراكي، وغير ذلك؛ مما جعله رائد المسرح العربي بلا منازع، وصاحب العباءة الأكبر في الكتابة الإبداعية المسرحية.
أيضا، فإنه حرص على الكتابة بالعربية الفصحى في أعماله المسرحية كافة، باستثناءات قليلة، وتوصل أيضا إلى اللغة الوسطى بين العامية والفصحى، التي صاغ بها مسرحيته «الصفقة» وإن لم يكرر التجربة في نصوص أخرى. إلا أننا نرى أن استخدامه للفصحى كان أمرا محمودا، فقد كان مدركا أن الفصحى تتيح مساحة كبرى للقراءة في العالم العربي، ومن الممكن عند إنتاج المسرحية تمثيلا أن تعاد صياغتها بالعامية المحكية أيا كان القطر أو البيئة التي ستمثل فيها، خاصة أن نمط مسرحيات الحكيم يتراوح بين النخبوية في طروحاتها الفلسفية، والجماهير المثقفة في قضاياها الاجتماعية، لذا تحتاج إلى الجمهور الواعي الجاد، الحريص على مشاهدة فن راق. وهي أيضا – كنصوص مكتوبة – ماتعة لكل عاشق للأدب المسرحي؛ نظرا لقدرة الحكيم على تحقيق السردية العالية، والحوار الثري، ومناقشة قضايا الواقع من خلال عوالمه المسرحية العديدة.
كاتب مصري