قصيدة "لقاؤنا" للأديبة د. مهى جرجور، ألحان وتوزيع وغناء الموسيقار كاروزو لوجين، تنقسم هذه القصيدة إلى ثلاث مراحل، يمكن تصنيفها بين الماضي البعيد، والحاضر، واللحظة المستمرة نحو المستقبل، إخترتُ هذا التصنيف لأنه يتناسب مع القصيدة بأكملها،
فتنقسم بدورها وأحداثها إلى خلفية الشاشة وتتكون من صور داخل برواز في البداية وبعدها صورة لكلمة حبّ باللغة الانجليزية، وتاليًا مقطع فيديو متحرك، تشكل هذه الخلفية مرحلة الماضي البعيد والّتي بدورها تشكل ذكرى بالنّسبة إلى الحاضر، أما المرحلة الثّانية هي النّصّ حيث يشكل الحاضر (لأن القصيدة تبدأ ب "لقاؤنا تلك المرّة") وهذه إشارة إلى أن وقت كتابة النّصّ هو الحاضر بالنسبة إلى الماضي/الذكرى أو الحدث، أما المرحلة الثّالثة عبّرت عنها الموسيقى وهي لحظة الآن المستمر نحو المستقبل وذلك لأن الموسيقى إيقاعها فرح، لا يدل على قسوة الماضي ولا على الحلول الّتي قدمها الحاضر، ولكنها تدل على لحظة فرح وسعادة وانتصار، ممتدة من بداية القصيدة حتّى آخرها.- مرحلة الماضي البعيد: كما قلنا سابقًا بأن هذه المرحلة تعبّر عن أحداث أصبحت من الماضي وما يبقى
في بالنا من الماضي نسميه ذكرى، وتبدأ الخلفية بصورة تتكوّن عناصرها من صورة لفتاة
وشاب يبدو أن الحبّ يجمعهما في برواز وضع على طاولة أو رف للصور وما الصور إلا
لتخلد ذكرى، صورتهما جمعت نقيضين منسجمين الأبيض والأسود (ألوان أساسية)، ويحيلنا
الأبيض والأسود إلى ثنائيات كثيرة كالليل والنّهار، الخير والشّر، وغيرها،
والمفارقة هنا أن هذه الصورة بالأبيض والأسود رسمت معالم الفتاة والشاب ضمن برواز لونه
بني، أما في الصّورة الثّانية الواقعة إلى يسارها، فنرى صورة كلب بني أيضًا، وهذا ما يظهر محاولة تأطير العلاقة الّتي
تجمعهما بإطار الوفاء الّذي بات الآن مفقودًا. أما المشهد التالي، فهو عبارة عن
مقعد خشبي قديم في الحديقة، ولكن نلاحظ وجود جلد خروف على اليمين أبيض وعلى اليسار
أسود، وبربطها مع الصورة الأولى الّتي كانت تجمعهما في البرواز، نلاحظ حالة انفصال
بين اللّونين يمكن أن تكون اشارة إلى انفصال على عدة مستويات كالانفصال عن مكان
اللقاء الّذي جمعهما أو انفصال عاطفي أو يمكن أن يأخذ بعدًا آخر كتمهيد الى الانفصال
عن هذه الذكرى، ووضع أيضًا أحرف باللغة الانجليزية تمثل كلمة love أي حبّ بالعربية، ولكن هنا نلاحظ انكسار في
حرف (v) أي أن هذا الحبّ بينهما انكسر
ولكن هناك رابط أعمق من ذلك أو اشارة ألا
وهي أن انكسار هذا الحرف تحديدًا أي حرف (v)
الّذي لا صوت مشابه له بالعربية، فان انكساره في اللّغة الانجليزية يفقد الكلمة
معناها، والحرف المشوّه داخل الكلمة يفقدها وظيفتها كلغة تواصل بين الأفراد. ويلي هذا المشهد، مقطع
فيديو أو شريط متواصل من مشاهد تجسد حالات من الفراق، الحزن، الألم، الحسرة،
التذكر، الوهم، والهجر، إلى أن ينتهي بمشهد رجل مغادر يمشي على طريق باردة ومثلجة،
وبجانبي الطريق أشجار غادرتها أوراقها، وأمامه الرؤية تبدو ضبابية، وكأن هذا المشهد
يوضح بأن النهاية محصورة بالرحيل على مستويات عدة.
- مرحلة الحاضر: عبرت الكلمات المكتوبة عن هذه المرحلة، أي مرحلة الحاضر وذلك لما تحمله من
منطق في التعبير عن هذا الحدث الماضي وعن طريقة عرضه من السبب الى النتيجة، فاستخدام
الحجج والتسلسل المنطقي إنما يعبر عن وصف الحالة من بعد عن فوضى المشاعر أو تأججها
أو يعبر عن حياد تجاهها، ليبدأ النّصّ بعنوان "لقاؤنا" وللنّصّ ترابط
فائق لذا يحتاج الى قراءة مفصّلة، فكلمة لقاؤنا فيها رسم (ل و ا وا) والّذي يلتقي
رسم الألف فيه بصورة الجدار، وتكرار الألف يوحي بوجود الجدران الكثيرة الّتي تحول
بينهما.
"لقاؤنا تلك المرّة" عبارة تشير إلى أن اللقاء الأخير حصل منذ
مدّة وانتهى إلا أنّ أثره لا يزال واضحًا في صاحبة النّصّ كونه "لم يسفر عنه
بيت أو قصيده" وهنا البيت يمكن أن يكون بيتًا يجمعهما أو بيت من بيوت القصائد
الكلاسيكية، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على نهاية العاطفة الّتي تحرك المحب
وتدعوه إلى نظم الشعر والتعبير عن تلك المشاعر الّتي يشعر بها، وهذا ما يظهر
واضحًا من خلال عبارة "لا قلم إمتشقت بعده لا فكرة تمطّت أمامي أو صهلت صهيل
الأحبة" مؤكدة بذلك انتهاء الحبّ، وما يحمله من معاني الشغف والتحفيز على
الإنتاج والإبداع، ومعهما خفت وهج المشاعر، وخفتت الرغبة في الاستمرار في لقاء طال
الجمود فيه، فتكوّنت بذلك الفرصة المؤاتية لإعلان موت اللقاء، مسوّغة ذلك بتوقف
الحالة النفسية الّتي من المفترض أن يهيئ لها اللقاء، بكل لحظاته: الما قبل
والخلال والما بعد عن فعل فعلها، فخرست بعدما توقفت عن الصهيل، وهنا لا تخفى معاني
الصهيل الرمزية بما تحويه عن تعبير عن المزاج الجيد والسعادة والفرح بالمحبوب. أي
إنها باتت في حالة فقدان وفراغ. وعليه، ينتشر الحقل الدلالي لغياب طال أمّده، ثبتته
كلمة"تمطّت" الّتي جعلت الرحيل حلاً وبابًا نحو تغيير ما لواقع حاضر بات
مختلفًا عمّا كان عليه في الماضي. وبهذا السبب، يظهر سبب سقوط الجدار الأول الّذي
يحمي مملكة كلمة "لقاؤنا".
أما المقطع الثاني من النّصّ "لقاؤنا تلك المرّة إعتمد لغة
أخرى" وهذه الجملة تحيلنا إلى المشهد
الثاني من الخلفية، حيث صورة المقعد وعليه كلمة (love) وقد انكسر منها حرف (v)
وهذا يشير الى عدم وجود لغة تواصل وهي الأساس في العلاقات الإنسانية ككل، ويمكن من
خلال الربط بينهما أن نستنتج لغة لا تمت للانسانية بشيء كلغة "الكسر أو العنف"
أو لغة قلبت مفهوم الحبّ الى ضده وهو الكره، فتصبح اللغة المعتمدة في هذا اللقاء
لغة الكره وهنا نجد الانقلاب الى الضد وليس الاعتدال لأننا أمام مشهدية عنفية،
وهذا النزاع بين لغة القلب ولغة العقل يظهر بشكل واضح في القصيدة فالكاتبة تتبنى
لغة العقل في عرض المشكلة وحلها أما الآخر تمسك بلغة المشاعر أو الانفعال وليس لغة
القلب لأن القلب مصدر الحب ولكن الآخر استخدم الكره والعنف وهذا سيشار إليه في
نهاية القصيدة، ويكمل المقطع "لا تشبه لقاءاتنا السابقة لا وطن فيها ولا
معرفة" إذا هذا اللقاء كان مختلفًا وغريبًا عن اللقاءات السابقة الّتي من
المفترض أن تكون لقاءات حبّ، لان المقارنة بين السابق واللاحق تجعلنا نضع الضد،
تكررت (لا) ثلاث مرات مما يستدعي الوقوف عندها. فلا النافية هنا تؤدّي دورًا
محوريًا، لأنّها نقطة تفصل هذا اللقاء عن كل اللقاءات السّابقة، وتنفي التشابه بينه
وبين أي منها. تتحرك (لا) في النص وتحرّك إيقاعه الداخلي؛ فنستشفها بشكل صريح في
المقطع الأول والثاني، وبشكل ضمني في الثالث. أضف إلى ذلك أنّ رسم حرف (v)
المكسور في الصورة يقترب من رسم (لا) إلى حدّ بعيد، فيمكننا تشكيله بحرف
"لا" ليتحول الغياب الكامن في كلمة (lo e)، مفسرًا سببه في تكرار اللا
في متن القصيدة، ويقدّم دليلاً إضافيًّا على تحطيم جدار آخر في مملكة "لقاؤنا"،
ويطفئ بصيص الأمل بالعودة، حيث يفتقد الوطن، وتفتقد المعرفة ويحلّ الغياب المتمثل
في غياب الاحتواء، والأمان، والانتماء، والحبّ، وفقدان الهوية وغيرها من الدلالات
الّتي تعتبر أركانًا أساسية لبناء العلاقات، فإذا فُقدت تفقد العلاقة كل معانيها،
وصار الآخر/الحبيب سابقًا، غريبًا لأن المشاعر خمدت وانعدمت. وبهذا، تبوح القصيدة
بالسبب المنطقي الثاني للرحيل، لأن هذا اللقاء لم يعد على مستوى المتوقع منه.
وفي المقطع الأخير "لقاؤنا تلك المرّة إمتهن مهنة أخرى نهب الطريق
إليّ أرداني قتيله"، التكرار الثالث لعبارة "لقاؤنا تلك المرّة" لتكون
تأكيدًا على أنّه اللقاء الأخير وإعلان لانهيار آخر جدار تستند عليه كلمة
"لقاؤنا" لتكتمل في المعنى، "إمتهن مهنة أخرى" أي إن وظيفة
الكلام لم تعد وسيلة اتصال وإنما وظيفة القاتل المخيف، الّذي توجّه استخدام الفعل
"نهب" في "نهب الطريق إليّ" الّذي حقق بثقله فعل الموت، وحدّد
موقع الطرف الثاني في اللقاء بموقع (قتيلة) في عبارة "أرداني قتيله"،
ولا يخفى ما يحمله هذا الموقع من معاني الغدر والضعف والهزيمة. وأتى هذا متناسبًا
مع حركة الجملة الّتي رافقت العرض محاكية الرصاصات في ظهورها من ناحية يسار الشاشة
إلى يمينها، لتصيب القلب وتدميه.
- مرحلة اللحظة المستمرة نحو المستقبل: ترتبط هذه المرحلة بالموسيقى المرافقة
للقصيدة، وهي موسيقى راقصة، ومفرحة لسامعها، وإيقاعها الّذي ينشر السعادة والفرح
والبهجة، يحيلنا الى مرحلة تحرير هذه الذكرى من بروازها، وبصورة أكبر تسلط الضوء
على قضية انسانية وهي العنف.
وفي الختام، تفتح هذه القصيدة باب العلاقات الانسانية، وإذا أشارت هذه القراءة
إلى علاقة حبّ، وفراق كان لا بد منه، ولكن في عمقها تطرح قضية انسانية وهي تعنيف
المرأة وخاصة التعنيف المعنوي من الرجل الّذي لم يستوعب بعد وجودها كانسان مثله
لديها حقوق، وحرف "لا" المحوري
في القصيدة يجب أن تتمسك به كل امرأة وتقوله بقناعة العقل.
قراءة مشرقة وقصيدة أكثر إشراقا
ردحذف