يقر العديد من المختصين أن النص هو عبارة عن وسيط لغوي بين فكر المؤلف وفكر القارئ، ما يجعل عملية الفهم ممكنة كما يقول المفكر الألماني شلايرماخر، «إنني افهم المؤلف بقدر توظيفه للغة، فهو من جانب يقدم استعماله للغة أشياء جديدة ويحتفظ من جانب آخر ببعض خصائص اللغة التي يكررها وينقلها». كما يرى أمبرتو أيكو أن تيار الهرمسية ينهض على فكرة اللانهائي وفكرة «السر» فكل كلمة هي سر وكل جملة تحيلنا إلى سر آخر، وكأن لذة الفهم واستنباط المعنى في عدم الوقوف عند دلالة محددة.
ومن ثم جاء الاعتقاد بأن هذا الفكر الهرمسي سارية بذوره إلى اليوم، لكن بتسميات معاصرة. وإن كان ثمة من سمة لديوان الشاعرة الجزائرية رزيقة بوسواليم، فهي المخاتلة و تجاوز العقلانية واللامعقول، بالانصراف عن مكبلات اللغة وإكراهات الواقع، واختراق المعنى المنطقي للعبارة، من خلال تحويل الكتابة إلى غنى وفرادة، بعيدة عن مساحيق الصور الشعرية النمطية وتجلياتها المكتسبة، بتشكيل انفعالاتها المزدحمة فوق بياض الورق، لتجعل من قصيدة النثر والومضة، ذرائع للأسرار الكامنة في قسمات نصوصها بمختلف تمظهراتها، سواء في علاقة بالذاكرة والشعور أو في علاقة بالمتخيل.
في المقابل تعتمد على الإيقاع البصري كعين ثالثة، من خلال الاتكاء على صياغة مشاهد فنية، من منظور منصرف تماما عن الكينونة الحقيقية للأشياء، معتمدة المغامرة والمراوغة للاحتفاء بكائنات حبرية متعددة، تتماهى مع الذات الشاعرة المكابدة، والمشغولة باللحظة الآنية المتأرجحة بين تراجيديا الواقع، ورصد دقيق لعوالم متسعة في الذهن، بكل ألغازها التي تطفو وتغوص من خلال الصور والإشارات الدلالية العميقة. ولعل هذا التقلب المتزامن مع الحركة، يعد ضربا من التمرد على كل الضوابط الخطابية، لكن دون عشوائية أو تكلف. فقد صيرت لغتها الخصبة عبر فن الاحتفاء اليومي والمتداول بذلك الانفتاح على السرد الشعري المتواطئ مع سجيتها الأولى.
فتجييش الحواس كضرب من الإقلاع إلى عالم أرحب، يزخر بالكائنات المنظورة والخفية على حد السواء.
في هذا المنجز الشعري تتعدد الثيمات وتتجاوز العمل التقني المعهود لتتحفنا الشاعرة بمنجز فني يخضع لتفكيرها وخيالها، فهو رؤيتها لذاتها وللعالم، عبر إعادة اكتشافها باستمرار، وما تفرزه في أعماقها من كنه الأشياء، المستخلصة من الجماد والنبات والكائنات الحية، بذلك الانشداد السريع بالحركة التشكيلية أو بالأحرى التجريبية، ومشاهد أقرب إلى الفوتوغرافيا في إعادة إسقاطها، لتوزعها في نصوص متفردة، بتغيير تلك الوظائف المنتظرة منها في قالب رموز، أبانت عن بعض المظاهر الاجتماعية والفكرية المقترنة بالعاطفة والقلق والانتكاسات، والمقيمة في الذاكرة والوجدان، لتدون مجرياتها في صيغة أدبية متفردة، بذلك التكثيف اللغوي والعميق. فلا يمكن أن نغفل الإشارة الدلالية الأولى وهو عنوان الديوان الذي يتبنى مختلف الهوامش المتماهية مع انتباه القارئ بالمتضادات المطروحة في هذا العمل.
والمتعارف عليه أن قصيدة النثر تمتلك بنية مفتوحة على الأنواع الأدبية الأخرى، ما أضفى على المنجز جماليات متعددة بكسر الثوابت وحالة الخصوصية الأدبية.
ولعل الشاعرة كانت حاذقة في تعرية كائناتها، فأسبغت عليها الصوت والصورة، لتبتكر انفعالاتها في محاذاة الحدث والشعور واللقطات التي ما فتئت تتعاطى معها كقصائد بصرية مخضبة بالمخيلة الشعرية، لكن بعنفوان يهذب العين والبصيرة في آن واحد. ويلّوح بأسرار تتهجى تلك المفارقات في التعاطي مع النص الشعري، كفن يضمر الكثير من التوتر اللذيذ والغائر في لج اللغة وعوالم الكائنات في جنوحها و انزياحها على عاتق الشعر.
كاتبة تونسية
https://www.alquds.co.uk/