يهدف الباحث المغربي الميلود عثماني في كتابه الجديد «التخييل موضوعا للتفكير» (الدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع المادرس 2022) إضاءة مفهوم التخييل والكشف عن أدواره المعرفية أو الإبستمولوجية وصلاته المتعددة بالعلوم الإنسانية، وما يطرحه من إشكالات مفهومية ومنهجية وإجرائية، وتجاوزا له يدعو إلى اعتماد مقاربة مندمجة لإشكالية التخييل، بإعادة استكشافه في التراث الفلسفي التحليلي، والسعي نحو تشييد ضوابط لفهمه وتحليله، إضافة إلى الكشف عن تحولاته وتمدده، من خلال تحليل صلته واندماجه في كيانات طارئة مثل النصوص الترابطية والرسوم المتحركة والسينما وغيرها، كما يروم إلى إرساء مفهوم التخييل التاريخي تبعا للمنظور المابعد حداثي، رغبة منه في إبراز أن صلة التاريخ بنظرية ما بعد الحداثة لم تنتج لنا رواية تاريخية جديدة، فقط، بل منحتنا براديغم مختلفا يستند إلى منظور مناقض للبراديغمين الكلاسيكي والحداثي. ونظرا لتشعّب الجوانب والإشكلات التي يطرحها مفهوم التخييل، قسّم الميلود عثماني كتابه إلى ثمانية فصول.
عالج في الفصل الأول الطبيعة الإشكالية لمفهوم التخييل، وسعى إضاءة مفهوم التخييل، نظرا لما يعتري الاستعمال الحالي له من تنوع، كما أنه فضفاض، وقد يقود إلى غموض ولبس، سواء في المجال الفلسفي أو في الحياة الاعتيادية وتأثير ذلك في أفعالنا وأقوالنا، لذلك يجب وضع معايير لتحديده وتحديد موضوعاته وتصنيفه، وما جدواه، وما يترتب عنه دلالة وتلقيا ووظيفة.
أما في الفصل الثاني، فقد تطرق إلى التخييل والنظريات النقدية الحديثة، عرض فيه أربع نظريات نقدية متعلقة بالتخييل (الفلسفية والسيميائية والسردية والسبرانية) بغية استكشاف فعل اشتغال هذه الخطابات وهي تبتكر عوالمها، وتحدد طبيعة فعل الإبداع وأسس إنتاج الحكايات، مع الوقوف عند نوعية الآثار الناجمة عن هذه الابتكارات، في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية، بين الطريقة التي تتميز بها هذه الحركة من حيث هي ميزات إنجازية ودينامية وتجديدية بالنسبة للشخص المنتج التخييلي أو قارئه على السواء. وتبين له أننا في مواجهة لغة تنتج موضوعاتها وتأويلاتها وتجاربها الخاصة. وانتهى إلى أن هذه الموضوعات مستقلة عن أطرها المرجعية، لأنها ليست سوى أبنية (نظرية وذهنية) شيدها فعل التخييل وأرساها.
وحاول في الفصل الثالث الإسهام في الجدل الدائر حول مفهوم التخييل ودوره المعرفي أو الإبستمولوجي؛ الجدل الذي برز، منذ أربعين سنة خلت واستمر بكيفية متواصلة، في حقلي الأدب والعلوم الإنسانية. مبرزا رهانات هذا المسعى وأين تكمن أهمية التخييل، بالنسبة للعلوم الإنسانية، وكشف عن العلاقة الموجودة بين التخييل والبعد الخيالي، وكذلك صلة التخييل بالمد المثالي.
ودعا في الفصل الرابع، بشكل صريح، وتبعا للمعطيات الواردة في الفصلين الأول والثاني، إلى اعتماد دراسة مندمجة لإشكالية التخييل، مجاراة منه لاتجاه عام سارت، وما تزال تسير فيه وإليه كثير من العلوم الإنسانية، وشدد على أن هذا النوع من المشاريع يجب أن تشد إليها الرحال أملا في روية النشاط التخييلي من زوايا متعددة لكن متكاملة.
واختار في الفصل الخامس أن يقدم مقترحا مفاده إمكانية معالجة التخييل والفلسفة والتاريخ، انطلاقا من منظور إبستمولوجي، قصد التفكير في أوجه الشبه التي تربط هذه التخصصات الثلاثة، على مستوى نماذج بناء معارفها تباعا، انطلاقا من مجموعة من التساؤلات: هل ثمة حوار ممكن بين هذه التخصصات؟ ما المقصود بالمعرفة بالنسبة للتخييل والفلسفة والتاريخ؟ وما هي الكيفية التي تبنى بها المعرفة في هذه التخصصات؟
واقترح في الفصل السادس تحليلا للأسباب التي جعلت الواقعية الجهية المنسوبة لديفيد لويس ذات تأثير بالغ في نظرية التخييل وتقدير أهميتها كذلك، وتساءل: ما مدى أصالة نظرية ديفيد لويس بخصوص التخييل؟ وهل حالة الاتصال بين العوالم الممكنة وعوالم التخييل يمكن للمرء الدفاع عنها؟ وهل ما نزال قادرين على اعتبار هذه المقترحات مثمرة بالنسبة لنظرية التخييل؟ وهل يمكننا أن نرى سمات امتداداتها المستقبلية؟
وتتبّع في الفصل السابع واحدة من نبوءات بول ريكور الأشد إثارة، الواردة في كتابه «الزمن والمحكي (ج 2) حيث نبهنا رىكور إلى ضرورة أن نثق في انتظارات القراء، وأن نتيقن من أن العديد من الصيغ السردية التي لا نعلمها، لحد الآن، هي في طور الولادة والنشأة. وهي أمور تدل على أن الوظيفة السردية يمكن أن تأخذ أشكالا متنوعة، لكنها لن تفنى أبدا. وصيغة التخييل الأدبي التفاعلي واحدة من هذه الصيغ التي بلورتها العبقرية السردية الإنسانية المعاصرة.
وعالج في الفصل الثامن والأخير إشكالية مفهوم التخييل التاريخي، من خلال وضعه في إطاره التاريخي والإبستمولوجي الذي من شأنه أن يضع حدا للخلط الناشئ حديثا، في التفكير الأدبي العربي الذي فهم خطأ مفهوم «التخيل التاريخي» كما اقترحه الباحث العراقي عبد الله إبراهيم، ومن أجل تجنب لكثير من المغالطات سواء على مستوى التنظير أو التحليل.
وفي خاتمة الكتاب ، صرح الميلود عثماني بأنه دافع عن مقاربة سياقية للدينامية التخييلية، مع تفادي أي حديث عن قضايا الأدب وأدبية الأعمال الروائية وغير الروائية المتصلة بالتخييلية، لأن هدفه هو معرفة ماهية التخييل، من المنظور المشار إليه، والسعي إلى إرساء أسس معرفة لفهم الأعمال التخيلية ومحتوياتها، وإمكانية تأويلها وتفعيلها بعيدا عن المنظور الذي يحصر النشاط التخييلي في مجرد نشاط لعبي محض. وعليه اعتبر الميلود عثماني المواد التخييلية، سواء أكانت لغوية أو ما فوق لغوية، أنظمة رمزية وأكسيولوجية تسعفنا على تحسين فهمنا للعالم والمعنى الذي نضفيه على أفعالنا وتعبيراتنا، تماما مثل الوضعيات التي نصادفها في مجرى وجودنا.
كاتب مغربي