يُعد موضوع الاستشراق من أبرز محددات العلاقة المعرفية والسياسية والأخلاقية ما بين الغرب والشرق؛ وذلك لإثارته الجدل وكثرة الدراسات التي تناولته من جهة، ولتباين وجهات النظر حوله من جهة أخرى. وتكمن خطورة الاستشراق باعتباره يتداخل مع شهية الغرب الاستعمارية، بغاية الهيمنة والاستحواذ على دول وقارات بأكملها تحت مزاعم نقلها من التخلف إلى التقدم، لمحاكاة الغرب في تحضره، وبالتالي طمس هوية الشرق وخلق إنسان تابع ومقلد للنموذج الغربي. وعلى الرغم مما تنطوي عليه الدراسات الاستشراقية من استعلاء ونظرة دونية وازدراء تجاه الشرق وثقافته، إلا أن هناك العديد من المستشرقين والباحثين الذين استهواهم سحر الشرق وعوالمه الغرائبية، فجاءت دراساتهم منصفة، واستطاعت إلى حد ما دحض وتفنيد الاستشراق في وجهه السلبي.
عن أسباب عجز المؤسسات العربية في تغيير الصورة النمطية للإنسان العربي في الغرب، وعن الترجمة وعوالمها، وعن تصاعد الجماعات المتطرفة ودورها في تكريس النظرة الاستشراقية في المخيال الغربي، كان هذا الحوار مع الباحثة والمترجمة الإيطالية يولندا غواردي..
كيف بدأت علاقتك باللغة العربية؟
علاقتي بالعربية بدأت منذ كنت طالبة في قسم اللغات في جامعة ميلانو، حيث درست عدّة لغات أوروبية، مثل الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والروسية، وتخرّجت في جامعة ميلانو في اللغة والأدب الألمانيين. ولكي أوسّع معرفتي اللغوية أكثر درست اللغة العربية وتخرجت أيضا في جامعة تورينو في اللغة والأدب العربي. أما السبب الثاني لاختياري دراسة اللغة العربية فيعود إلى عمّي الذي كان يتقن العربية وشجعني كثيرا على ذلك. وبقيت علاقتي مستمرّة باللغة والثقافة العربية عموما، حيث ترجمت نصوص مختلفة منها الرواية والقصة والشعر ومجالات معرفية أخرى، فكانت رواية «غدا يوم جديد» للكاتب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة أول عمل أدبي قمت بترجمته من العربية إلى الإيطالية في سنة 1995، وكان ذلك العمل جزءا من أطروحة تخرجي في اللغة والأدب العربيين. لم يكن عملا سهلاً، لكن استحق كل التضحيات، فقد فازت هذه الترجمة بجائزة «الملتقى الدولي للرواية عبد الحميد بن هَدوقة» في الجزائر سنة 2010، وهي الجائزة التي تحمل اسم الكاتب نفسه. وكذلك تمّ نشرها في إيطاليا عام 2003 في إطار جائزة خاصّة برعاية رئيس الجمهورية الإيطالية آنذاك كارلو أزيليو تشامبي. فكانت بداية موفقة وشجعتني على مواصلة الترجمة ودراسة اللغة والثقافة العربيتين والتعريف بهما في إيطاليا.
ما هي أبرز الصعوبات التي يعاني منها المترجمون من العربية إلى الإيطالية؟
العقبة الأساسية هي أن اللغة العربية محيط مترامي الأطراف ولا تكفي حياة واحدة لمعرفتها بالكامل. لكن هذه العقبة في الوقت نفسه هي التي تبعث في نفسي روح التحدي والاستمرار وتجذبني أكثر للعربية.
على الرغم من العلاقات التاريخية والتقارب الجغرافي ما بين إيطاليا ودول المغرب العربي، إلا أن أدب هذه الدول لا يحظى بحضور كبير في إيطاليا، ما هي الأسباب؟
هناك أسباب كثيرة أدّت إلى ظهور هذه الصور النمطية وأبرزها أسباب أيديولوجية. أهمها أن هناك صورة نمطية لدى العامّة مدروسة ومخططا لها وهي تقديم شعوب المغرب العربي على أنهم أقلّ «عروبة» من شعوب المشرق العربي. وهذه الصورة تم التخطيط لها في عهد الاستعمار الفرنسي للمنطقة، الذي كان يهدف إلى مسح الشخصية العربية لهذه الشعوب، وبالتالي القضاء على اللغة العربية وثقافتها، من أجل بسط سيطرته في كل الميادين، والجزائر خير دليل على ذلك.
وهل الترجمة من العربية إلى اللغات الغربية باتت ضرورة، خاصة بعد توافد مئات الآلاف من العرب والمسلمين إلى أوروبا بعد اندلاع ثورات الربيع العربي؟
على الرغم من أن عدد الترجمات للأدب العربي في السنوات الأخيرة زاد في إيطاليا، خاصة ترجمات لروايات معاصرة، تبقي معرفة الثقافة العربية من خلال الإنتاج الأدبي لدى المتخصصين فيها فقط. يقال إن الترجمة جسر يربط بين ثقافات الشعوب، لكن لما نتكلم عن الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإيطالية وننظر إلى ما يحدث حول هذه الترجمة نجد عناصر أخرى علينا أن نأخذها بعين الاعتبار، أي أن الترجمة عمل سياسي، وبالتالي هي مرتبطة دائما بظروف سياسية مرحلية وبالرَّقابة المفروضة والذاتية. وعلى كل حال لا يحظى الأدب العربي بالاهتمام الذي يستحقه في أوروبا. في رأيي المشكلة هي أن دور النشر الإيطالية تقوم بإصدار أعمال لكُتاب في أغلب الأحيان حازوا شهرة بعد ترجمة أعمالهم إلى الفرنسية أو الإنكليزية. وطبعا، اختيار الكاتب يخضع لاعتبارات سياسية، وهذا قد حصل مثلا عند بدء الحرب على سوريا، حيث قامت دور النشر الأنكلوفونية والفرنسية بنشر عدد كبير من الكتب لكتاب سوريين، لذلك فالترجمة من العربية ضرورية، لكن يجب أن يكون هناك مشروع لإيصال هذا الأدب للقارئ الإيطالي بطريقة واضحة من كل النواحي، وليس فقط ترجمة روايات تقدم صورة نمطية للثقافة العربية.
ما أسباب عجز المؤسسات الثقافية العربية عن تغيير الصورة النمطية للعرب والمسلمين في الغرب؟
عدم اهتمام هذه الحكومات بآدابها يرجع إلى عقدة نفسية أكثر منه إلى عائق تنظيمي أو مادّي. فالمسؤولون هناك يجهلون القيمة والقدرات التي تملكها هذه الآداب من جهة، ومن جهة أخرى ربما لا يؤمنون بالنتائج التي يمكن أن تحقّقها هذه الآداب إن وجدت الدعم والتشجيع، ورغم كل العوائق التي سبق ذكرها إلاّ أنه في السنوات الأخيرة تغيّرت تلك النظرة إلى الأدب المغاربي بعض الشيء. وحدث هذا بعد فوز بعض كتاب المغرب العربي بجوائز أدبية مرموقة، فبدأ الاهتمام بهذه الآداب، أذكر على سبيل المثال جائزة البوكر. لكن لا ننسى أنّ جائزة البوكر بالذات تأسست في الغرب، بمعايير الثقافة الغربية، يعني مرّة أخرى نجد حضور الأيديولوجيا الغربية، فهي التي تختار الكاتب المغاربي والمواضيع وتقرّر مَن يفوز بالجائزة.
هناك إشكالية في التفريق ما بين الاستشراق والمنهج العلمي؟ يا ترى ما هي الأسس الحقيقية لكل منهما؟ وأين يتقاطعان؟
الاستشراق منهج علمي يعتمد على فكرة دونية الآخر. وعلى كل حال، علينا أن نضع مفهوم المنهج العلمي تحت النقاش، لأنه مفهوم أسسه الأكاديميّون الغربيون لأسباب تاريخية. لذلك يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هناك ثقافات أخرى في العالم لديها مفهوم مختلف عما يعنيه المنهج العلمي الغربي. وهذا لا يخص الثقافة العربية وحدها. على سبيل المثال: لما تمت كتابة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يكن بين الموقعين كلّ دول العالم الحالية، وبالتالي ذلك الإعلان عبّر فقط عن نظرة الدول الموقّعة. الشيء نفسه حدث عندما قامت مجموعة مكوّنة من الذكور فقط يعني لم تكن ولا امرأة بينهم باختراع مفهوم المنهج العلمي، وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: أي نوع هو هذا المنهج العلمي؟ والجواب بسيط هو منهج علمي ذكوري غربي.
يعتقد بعض الباحثين والأكاديميين أن الاستشراق الإيطالي أكثر موضوعية من الاستشراق الغربي عامة والأمريكي بشكل خاص، فهل هذا صحيح؟ وما هي أسباب ذلك؟
اسمح لي أن أخالفك الرأي، ليس هناك مستشرقون طيّبون أو موضوعيّون، والمستشرقون الايطاليون ليسوا استثناء، سواء في الماضي أو في الحاضر. وأذكر أنّني قرأتُ مؤخّراً حوارا في مجلة عربية أجرت حديثا مع أحد هؤلاء المستشرقين الجدد، وقد أنكر هذه الحقيقة للأسف. وعلى كل حال، المستشرقون الإيطاليون لديهم مشكلة كبيرة، خاصة لدى الجيل القديم، فهم لم يفكّروا أبداً بطريقة نقدية في الماضي الاستعماري الإيطالي. هناك عبارة نمطية سائدة تقول «الإيطاليون ناس طيّبون» واستمرار فكرة هذه العبارة، للأسف، ساهم في إخفاء جوانب سلبية من الماضي الكولونيالي الإيطالي من ناحية، ومن ناحية أخرى عرقل دراسة تلك الحقبة بعيون نيوكولونيالية نزيهة.
وهل للفاتيكان – على اعتباره مرجعية دينية عالمية – دورٌ في ذلك؟ أم ماذا؟
لا يخفى على أحد أن للفاتيكان تأثيرا كبيرا على كل ما يحدث في إيطاليا، سواء في المجال الديني أو الثقافي أو المجالات الأخرى.
هل الاستشراق وما أفرزه من تنميط مجحف بحق الشخصية العربية والإسلامية كان السبب وراء «أسلمة التطرف» وبالتالي أدى ذلك إلى بروزه كردة فعل لدى الكثيرين في العالم الإسلامي؟
من الممكن أن يكون للاستشراق دور وراء الردّ العنيف للشخصية العربية تجاه الغرب، لكن ذلك ليس هو السبب الوحيد، هناك مسائل أخرى محلية مرتبطة بالواقع السياسي والتاريخي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، يتم استغلالها من عدة أطراف داخلية وخارجية.
وهل تصاعد الجماعات المتطرفة في العالم الإسلامي مؤخرا، وما قامت به من عمليات إرهابية في الغرب خاصة، ساهم بتكريس رؤية الاستشراق تجاه العالم العربي والإسلامي؟
الكثير من الغربيين لا يرى ولا يسمع شيئا عن العالم العربي إلا ما تبثه وسائل الإعلام الغربية خلال النقاشات السياسية. وهذا يعني أنه ليست هناك برامج قيّمة تعالج مجالات أخرى مثل مجال الثقافة العربية، وبالتالي قد تكون هذه الحالة ساهمت في إعطاء فضاء أكثر لهذا النوع من الاستشراق.