خمسون مرت على العدد الأول من مجلة " أقلام " المغربية ، بما هي عبرت ، لعقود ، عن طموح وآمال في التغيير نحو الأفضل . الالتزام ، و الأخلاق ، والدفاع عن المواقف كان هو الخط التحريري الذي التزمت به المجلة تجاه قرائها . فكانت مواجهة الواقع ، إحدى الوسائل الكفيلة لإبلاغ الصوت ، الذي ظلت تدافع عنه المجلة منذ صدور العدد الأول ، قبل توقفها ، لتستأنف مسارها من جديد بعد ذلك . والميزة الأساسية ، التي انفردت بها المرحلة الثانية من عمر المجلة ، أنها وسَّعت من طاقم هيئة التحرير ، بل أصبح مستقلا لتضم أسماء لامعة في المشهد الثقافي المغربي ، فإلى جانب محمد عابد الجابري الفيلسوف ومحمد زنيبر نجد عالم اللسانيات الدكتور ادريس السغروشني ، فضلا عن المؤرخ وعالم الاجتماع محمد القبلي ، بالإضافة إلى الدكتور والطبيب عبد الكريم العمري المتخصص في الأمراض المعدية . إنها شلة من المثقفين المغاربة ، الذين حملوا لواء التنوير والنقد بهدف البناء ، والتخلص من إرث استعماري أثقل كاهلهم ، فانفتحت تجاربهم الإبداعية على أسئلة السياسة والوطنية والقومية .
إن
إنشاء مجلة " أقلام " المغربية صادف ، في بحر الستينيات من القرن الماضي
، أنشطة اتحاد كتاب المغرب ، الذي كان ينظر إلى الواقع المغربي نظرة ملؤها السعي
نحو خلق واجهة ثقافية جديدة ، تقطع الصلة مع واقع موبوء أمهضه سياسة الاستعمار،
وذلك عن طريق طمس الهوية المغربية ، وتكريس التبعية العمياء اجتماعيا واقتصاديا
وسياسيا وأخيرا ثقافيا . وفي خضم هذه الريح العاتية ، التي تتقاذف مصائر البلاد
والعباد ، ارتأت مجلة " أقلام " إلا أن تعطي أولوية للمثقف المغربي ،
الذي دخل غمار التحدي الحقيقي في مغرب ما بعد الاستقلال ، بهدف استكمال التحرير
ونشدان الحرية ؛ وتأسيسا لمشروع ثقافي واعد ، من خلال المثقفين المغاربة العضويين أمثال
: محمد عابد الجابري و عبد الله العروي ، ومحمد القبلي إلى جانب عبد الكبير
الخطيبي و محمد إبراهيم بوعلو واللائحة طويلة
...
كان الوعي ،
بأهمية التخلي عن الصورة النمطية السلبية ، التي انطلت على المثقف المغربي ، أمرا
في غاية الأهمية ، وذلك عن طريق رفض الانغلاق على الذات ، وجعل الانفتاح فانوسا
يضيء عوالم الجهل والتخلف
، ويقضي على تبعات الاستعمار. إن "
أقلام " راهنت على التحدي بخلق أسباب ثقافة جديدة ، تعمل على بلورت تصورها
طيلة أعدادها ، التي وصلت إلى حدود بداية الثمانينيات إلى خمسين عددا ، قبل أن
تستأنف مجلة " فكر ونقد " الخط التحريري الذي دشنته مجلة " أقلام
" . ففي طيلة هذه الأعداد نجد مواضيع تعبر عن حساسية جديدة تجاه الذات و
الموضوع ، بما هو يراهن على التنوع والاختلاف .
فمن
بين أهم المواضيع ، التي استأثرت اهتمام المجلة ، في عددها الأول الصادر في ماي
1972 ، نجد مقالين ؛ أولهما للمناضل اليساري عمر بنجلون تحت عنوان " القضية
الفلسطينية ودور المثقف المغربي" ، وثانيهما
للدكتور محمد الأخصاصي الذي عنونه ب " " القضية الفلسطينية ؛ كيف
نعرفها ؟ وكيف نعرف بها ؟ " . فالأستاذ عمر بنجلون اعتبر نصرة القضية
الفلسطينية وجها من وجوه التحرير ، إذ يقول " فإنه من اللازم كذلك أن ننطلق
من حقيقة بديهية ، ألا وهي الموقف بالنسبة للقضية الفلسطينية فكريا وعمليا لا
ينفصل عن الموقف بالنسبة لقضايا التحرير " (1).
فبعد
نكبة 1967 ، تصاعدت لغة التكتيك ، التي ترمي إلى تصحيح الأفكار المهيمنة على الفكر
القومي والتخلص من وثنيته ، فمن بين النقط الحاسمة التي دافع عنها عمر بنجلون ، في
هذا المقال ، هي : حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، بعيدا كل البعد عن
المزايدات الأيديولوجية ، التي تفرغ القضية من محتواها ، كما وجه نداء قويّا إلى
كل الفصائل المتناحرة ، التي تمثل الشعب الفلسطيني إلى توحيد الجهود والصفوف ، لرفع
لواء الوحدة والتضامن من أجل نصرة قضية التحرير . أما بالنسبة للدور الذي سيلعبه
المثقف المغربي ، في خضم هذا المعترك الحامي الوطيس ، هو التعريف بصراع سياسي مفتعل
، ومدعم من طرف الامبريالية العالمية ، بغية خلق وطن مستقل ليهودية العالم ،
وبالتالي زرع كيان دخيل في قلب الأمة العربية ، هدفه القضاء على آمال الشعب
العربي . فالمثقف المغربي ، بهذا المعنى ،
معني بهذه التحولات العالمية في ظل الانتماءات الحزبية ، الساعية نحو فرض أمر
الواقع في مختلف المنابر الوطنية والدولية .
أما
الدكتور محمد الأخصاصي ، في مناظرة حول " فلسطين " التي ألقيت ، بجامعة محمد الخامس في نونبر 1971
، بكلية العلوم ، تحمل عنوانا " القضية الفلسطينية ؛ كيف نعرفها ؟ وكيف نعرف
بها ؟ " ، فإنه ركز على المواثيق الدولية ، التي منحت للشعب الفلسطيني الحق
في تقرير مصيره . وفي هذا المضمار بسط الأخصاصي أهمية الثورة ، التي يخوضها الفلسطينيون
في تحرير أراضيهم من الاحتلال ، وبناء مجتمع ديمقراطي شعبي يتسع للعرب واليهود على أرض فلسطين (2) . وبهذا كانت
المواجهة مفتوحة بين طرفين غير متكافئين ؛ كيان استعماري مجهز بأحدث الوسائل والتقنيات
فتكا وتدميرا ، ومجتمع أعزل شـُتت وهُجّر ، من بلده قسرا ، إلى أكثر من وطن فوق
هذه الأرض . بالموازاة مع ذلك ، فلهذه المواجهة ، حسب محمد الأخصاصي ،
أبعاد ثلاثة أهمها :
أ ـ البعد القومي : صرح الكاتب أنه ثمة
ارتباط عضوي بين المصيرين ؛ العربي والفلسطيني
؛
ب ـ البعد الطبقي : ومن أهم مرتكزاته ، تحرر
الطبقة العاملة والمثقفة من القبضة الحديدية التي تمارسها قوى مساندة للمد
الإمبريالي في المنطقة العربية ؛
ج ـ البعد الأممي : يعرف هذا البعد بالقضية
الفلسطينية من زاوية الصراع بين الشعوب التواقة إلى التحرر وتقرير مصيرها، و قوى تريد فرض هيمنتها على الموارد الطبيعية ،
واستغلال النفوذ ، بهدف التحكم في البلاد والعباد .
فمجلة
" أقلام " المغربية ذات الخط التحريري المنفتح ، على كل القضايا الوطنية
والدولية ، كانت نقطة مضيئة في الساحة الثقافية المغربية والعربية ، حيث كان سندها
، الأول والأخير ، هو التفكير الحر و
الديمقراطي ، بمختلف تمظهراته السياسية والاجتماعية
والثقافية ، بل أضحت منارة لمنبر حر طيلة عقدين من الزمن تقريبا ، إذا لم نستثن
مرحلة نكوصها وتوقفها عن الإصدار ، بفعل عوامل مادية بالأساس .
فالمثقفون
المغاربة كانوا ، ولايزالون ، دائما في قلب العاصفة ، التي تنخر كيان الأمة
العربية ، بإمداداتهم المعرفية والفكرية الرامية إلى تنوير الرأي العام الوطني و
العربي والدولي أيضا ، مادام واقعُهم السياسي ، لازال صالحا للإمداد و للإبداع .
إحالات :
(1)
عمر بنجلون " القضية الفلسطينية ودور المثقف
المغربي " مجلة أقلام المغربية ، دار النشر المغربية ، ماي 1972، ص.3
(2)
محمد الاخصاصي " القضية الفلسطينية ؛ كيف نعرفها ؟
وكيف نعرف بها ؟ " ، مجلة " وأقلام " المغربية ، دار النشر
المغربية ، ماي 1972، ص.21