ذهب (هيجل)(1) إلى أنَّه إذا كان ثمَّة عازفون مَهَرَة لا يرقَى فِكرهم إلى مستوَى مواهبهم، فما كذلك الشِّعر؛ فالشِّعر هو التعبير الواعي عن الروح الإنسانيَّة، واهتماماتها العميقة، وعن صراعها الوجودي. لذا جاءت أعمال (جوته) و(شيللر) في شبابهما أقرب إلى السذاجة، وإنَّما أبدعا آثارهما الشِّعريَّة العميقة الخالدة، التي أصبحت مفخرتهما القوميَّة والإنسانيَّة، إبَّان نضوج فِكرهما، في سِنِّ الشيخوخة. وكذلك الشأن لدَى (هوميروس). وهذا بنقيض التصوُّر الدارج، أن الإلهام الخلَّاق يأتي من حماسة الشباب.
على أن المزج بين تيَّارَي الفِكر والوجدان عمليَّةٌ جِدُّ دقيقة، تتطلَّب موهبةً شِعريَّةً من طراز موهبة (المتنبِّي). وإلَّا كان المنزلَق إلى جِنس الخطابة والنَّثر، وإنْ ظنَّ القائل ما يقوله شِعرًا، وخُدِع السامع عن جِنس الشِّعر ولُغته. وهذا ما حدث للمتنبِّي نفسه في كثيرٍ من شِعره، فصار نَظْمًا مُحكَمًا، لا نبضَ للحِسِّ الشِّعريِّ فيه. يُعجِبك صناعةً وبَيانًا؛ لكنَّه لا يَمُتُّ لحقيقة الشِّعر بصِلَةٍ تُشْعَر. ذلك أنَّ للخطابة شِعريَّتها الخاصَّة، وللموعظة والحِكمة شَجوهما وصداهما في النفس الإنسانيَّة، وما أكثر ما يختلط الأمر على المرء غير الناقد: بين طربه للشِّعر، بما هو شِعر، وطربه للبُعد الخطابيِّ في الشِّعر. قال (ابن رُشد)(2)، ملخِّصًا كلام (أرسطو) في الشِّعر:
«قال: وهنا نوعٌ آخَر من الشِّعر، وهي الأشعار التي هي في باب التصديق والإقناع أدخل منها في باب التخييل، وهي أقرب إلى المثالات الخُطَبيَّة منها إلى المحاكاة الشِّعريَّة. وهذا الجِنس الذي ذَكَرَه من الشِّعر هو كثيرٌ في شِعر أبى الطيِّب، مثل قوله:
ليس التكَحُّلُ في العَينَينِ كالكَحَلِ
وقوله:
في طَلعةِ الشَّمسِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ
ومن أحسن ما في هذا المعنى قول أبي فراس:
ونـحـنُ أُنـاسٌ لا تَـوَسُّـــطَ عـنـدنـا
لـنـا الصَّـدْرُ دُوْنَ العـالمـينَ أو الـقَـبْرُ
تَـهُـوْنُ علـينا فـي المَعالِــي نُفـوسُـنا
ومَنْ خَطَبَ الحسناءَ لم يُغْلِها(3) المَهْرُ».
على أن (ابن رُشد) قد فهِم كلام (أرسطو) عن (الشِّعر التعليمي)، ونحوه في التراث الإغريقي، أنَّه يعني شِعرًا كحِكَم (المتنبِّي)؛ لأنَّ ابن رشد لا يعرف أصلًا طبيعة الشِّعر الإغريقي، ويظنُّ شِعر العالَم كلَّه على غرار الشِّعر العَرَبي. مثلما فهِم، هو وغيره، مصطلح (المحاكاة) في الشِّعر المسرحيِّ الإغريقيِّ على أنَّه يعني (التشبيه)!(4)
(1) انظر: (1988)، المدخل إلى علم الجمال/ فكرة الجمال، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة)، 67.
(2) (1986)، تلخيص كِتاب الشِّعر، تحقيق: تشارلس بترورث؛ أحمد عبدالمجيد هريدي، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكِتاب)، 93- 94.
(3) في المطبوع: «لم يُغْلِه».
(4) ومن هنا جاء الاحتفاء بـ(التشبيه)، عند بعض النقَّاد العَرَب القدماء، بحُسبانه المقصود بمصطلح (المحاكاة) عند (الإغريق). (انظر: الفَيْفي، عبدالله بن أحمد، (2011)، شِعر النقَّاد: استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)، 144- 160). مع أنَّ التشبيه لا يعدو كونه أداةً بلاغيَّةً أوَّليَّةً قياسًا إلى (الاستعارة)، التي تحمل قيمةً بلاغيَّةً، تخييليَّةً وتصويريَّةً، أرقَى؛ ولذا تطوَّر الشِّعرُ العَرَبيُّ- من العصر الجاهلي إلى العصر العبَّاسي- من التعويل على أداة التشبيه إلى التفنُّن في الاستعارات والتوسُّع في استعمالها توسُّعًا غير مسبوق، وإنْ بقي للتشبيه حضوره النِّسبي. وعلى الرغم من ذٰلك فقد لا نعدم حضورًا لافتًا للتشبيه، على نحوٍ يستوقف النظر أحيانًا، حتى لدَى بعض المعاصرين من كُتَّاب (قصيدة النَّثر)، كـ(محمَّد الماغوط). (يُنظَر مثلًا: (2006)، الأعمال الشِّعريَّة، (دمشق: دار المدَى)، «مروحة السيوف» نموذجًا: 231- 238).