«الترجمة أداة للتبعية بحكم وجود حضارات غالبة وأخرى مغلوبة على أمرها، ويكون لها اتجاه واحد، أما الترجمة التفاعلية، فهي إرادية تقوم بها أمة لتغني زخمها الثقافي وتستفيد من تجارب الغير لتسابق وتتفوق، أعتقد أننا خرجنا من إكراهات ما بعد الكولونيالية، الآن علينا اختيار نماذجنا الترجمية، وهذا حضاريا يكفي».
هكذا يرى المترجم الجزائري عيساني بلقاسم، صاحب كتاب «الفكر الترجمي.. حيثيات المعنى الحائر بين الأنا والآخر» التطورات المتسارعة للفكر الترجمي في الفترة الأخيرة على مستوى كثافة التأليف وتطور النظرية معا، ليؤكد أن معيار التقدم والرقي هو المعمار الترجمي، الذي تم تشييده في كل لغة، ويتساءل: ماذا ننتظر لننطلق نحن ونجسد كينونتنا المميزة ونفرضها علامة فارقة بين الأمم؟!
رفض مترجم كتاب «شيطان النظرية» للفيلسوف أنطوان كومبانيون، الذي نال عنه جائزة المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر 2017، الأخذ بفكرة (تقريب المسافات بين الحضارات والثقافات) قائلاً: «لا أقاسم هذا الرأي، ما زالت هناك حواجز هائلة بين الثقافات، تمثلها الصراعات والأفكار المسبّقة وعدم تفهّم اختلافية الآخر، وما زالت هناك الحاجة إلى الترجمة، الفارق أن الاطلاع على الآخر يتم من خلال الشذرات الإخبارية والتعاطي الإعلامي، لكن المنطلقات الحضارية للشعوب ما زالت في طور الاكتشاف، الذي يؤكد هذا الفهم هو التعاطي الترجمي الكثيف بين اللغات الحية».
في هذا الحوار نقترب أكثر من فكر الأكاديمي الجزائري، ودور المترجم الثقافي والحضاري..
هل يمكنك تبسيط مفهوم الترجمة؟ وما أثر المترجم في المنجز الإنساني باختلاف أوعيته الثقافية؟
الترجمة في تعريفها العرفي هي تحويل لمعاني نص مكتوب من لغة إلى أخرى، وعادة ما تكون اتجاه اللغة الأم، تتم بأمانة، لكن بمرونة خطاب سياقي يستظهر مجمل الجوانب التي عكسها النص في لغته الأصل، يقوم بها مترجم نعتبره كاتبا من الدرجة الثانية، ليس ببعد المنزلة، بل ببعد المرحلة، وهو الناقل الوحيد لسر المعرفة، كون العالم تتقاسمه ألسن عدة يجعل دور المترجم محوريا علميا وثقافيا وتقنيا وحضاريا، هو المشرف والمراقب على أي إطلالة كونية بلغة الغير، ولهذا أصبح معيار التقدم والرقي هو المعمار الترجمي الذي تم تشييده في كل لغة.
ما تعقيبك على قول شارل لوبلان، إن الترجمة هي «ترجمة للتفكير في العصر الذي تأتي منه قبل أن تكون ترجمة لنص من النصوص»؟
الترجمة ليست نقلا وحسب، ذلك أن المترجم قارئ في المقام الأول، هاضم لما يقرأ، ويفكر في ما يطالع وما يعتزم ترجمته، ثم هو كاتب في مرحلة تالية، يصوغ العبارة بمتطلّبها الدلالي، من هنا هو مفكّر على مستويين، فهو مراجع ومؤوّل ومستنبط، لاعبا عدة وظائف في الوقت نفسه، إذ يمهر نصه المترجم بكل معرفته القبْلية مع جهد التحبير وجودة الأسلوب، فهو كينونة معطاءة منتجة للمعرفة.
كيف يمكنك وصف واقع الترجمة في المنطقة العربية؟ وفي نظرك، ما هي العقبات التي تصادفها الترجمة الأدبية؟
الترجمة في المنطقة العربية تتراوح بين البؤس ومحاولة النهوض، فنحن نلاحظ سباقا محموما لترجمة كل المنجزات الحضارية في وقت معلوم، ببرمجة منضبطة في الكثير من الدول، وتشكل دول الخليج استثناءً عربيا في الاهتمام بالترجمة، بل رصدت لها جوائز مجزية، وأصبحت تنفتح أكثر على لغات خارج تلك الموروثة عن الاستعمار، لأن الحضارة المعاصرة يؤثثها الجميع، وليس فقط اللغات المسيطرة. الترجمة الأدبية هي أصعب أنواع الترجمات لمحمولاتها الجمالية الجمة، وتخييلها الواسع الذي يمتح من تصورات لا تتجانس حتما مع الثقافة المترجَم إليها، كما أنها مجال واسع للتداخلات التناصية، وهذا يستدعي إلماما يحيط بكل سياقات الثقافة المشكّلة للنص، كل هذا يجعل ترجمة الأدب صعبا، لأنه يستدعي قدرا غير قليل من الفنية، هذه الأخيرة حاكميتها للذوق والمعرفة، وهذا يستدعي معايشة طويلة للعمل الذي نعتزم ترجمته.
هناك من اختزل فعل الترجمة في (نقل النص من بيئة إلى أخرى) ما هي رؤيتك؟ وما الفرق بين الترجمة التأسيسية، المترجم الناقل والمترجم المقرّب؟
مصطلحات التأسيس والناقل المقرّب كلها تصنيفات اجتهادية يتبناها البعض ويرفضها البعض الآخر، أنا أتبنى الترجمة مصطلحات مغايرة: هناك الترجمة التمثّلية، والمُجهضة، وأرفض منطق التخطئة في الترجمة المحترفة، أو لنَقُل المتخصصة، لأن الفعل الترجمي في عمقه تفاوض حول المعنى، وهذا يعني إمكانية وجود عدة صيغ للجملة الواحدة، هنا تظهر عبقرية المترجم في مجمل تخيّرات، ينبغي له الاختيار بينها، أخيرا الوعي الترجمي يستدعي القول إن المترجم ليس مجرد ناقل، لأن اللغة بتعقيداتها والثقافة بتصوراتها تمانع في ذلك، وطابع التعقيد هو الذي يحكم الجهد الترجمي.
إلى أي مدى يستطيع المترجم أن يراعي البعد الثقافي للنص الأصلي الذي يعمل على ترجمته؟
وهل نستطيع أن لا نراعيه! القفز فوق الفروقات الثقافية يعني ترجمة حرفية سقيمة لا يستقيم عودها أبدا، الثقافة تمتلك اللغة، وهناك عبارات نقول عنها غير قابلة للترجمة intraduisible فيكون تمثلها عبر النماذج النظيرة.
يقول طه عبد الرحمن عن عمل المترجم: «ليس هو توسيع الإمكانيات الفكرية للذات بقدر ما هو معرفة الآخر في خصوصيته الدلالية» ما تعليقك؟
توصيف طه عبد الرحمن صحيح لكنه من بديهيات الترجمة، طه عبد الرحمن بالغ في نحت المصطلحات مثل القول الثقيل والاختلاس والتحصيل والتوصيل والتأصيل وتحصيل الإذن إلخ، مما انتقدته فيه من خلال كتابي «الفكر الترجمي» فكل هذا تنظير ذهني لا يصدقه التطبيق.
قال محمد أركون: «أكاد أراهن على أن نهضة العرب المقبلة سوف تتوقف إلى حد كبير على مدى نجاح مشروع الترجمة أو فشله» في نظرك كيف السبيل لتحويل الترجمة من مجرد أداة للتبعية إلى وسيلة تأصيل للهوية؟
الترجمة أداة للتبعية بحكم وجود حضارات غالبة وأخرى مغلوبة على أمرها، ويكون لها اتجاه واحد، أما الترجمة التفاعلية، فهي إرادية تقوم بها أمة لتغني زخمها الثقافي وتستفيد من تجارب الغير لتسابق وتتفوق، أعتقد أننا خرجنا من إكراهات ما بعد الكولونيالية، الآن علينا اختيار نماذجنا الترجمية، وهذا حضاريا يكفي.
يقال إن للترجمة الفضل الكبير في تقريب المسافات بين الحضارات والثقافات. ماذا بقي من هذا في عصر باتت فيه (الثقافة خارج السيطرة) على حد تعبير زيغمونت باومان؟
لا أقاسم هذا الرأي، ما زالت هناك حواجز هائلة بين الثقافات، تمثلها الصراعات والأفكار المسبّقة وعدم تفهّم اختلافية الآخر، وما زالت هناك الحاجة إلى الترجمة، الفارق أن الاطلاع على الآخر يتم من خلال الشذرات الإخبارية والتعاطي الإعلامي، لكن المنطلقات الحضارية للشعوب ما زالت في طور الاكتشاف، الذي يؤكد هذا الفهم هو التعاطي الترجمي الكثيف بين اللغات الحية، فماذا ننتظر لننطلق نحن ونجسد كينونتنا المميزة ونفرضها علامةً فارقة بين الأمم؟