«جميع الأشياء مملوءة بالآلهة» [طاليس]الجملة التي نظن أنها خاطئة تُصحِّح ما قبلها
[1]
تغتني الثقافات وتنهض بالإبداع، بقدرة الخيال على اسْتِنْهاض العقل، وعلى وضعه في سياق الصيرورة والتحوُّل. كما أنها تفتقر وتضعف، بما يطغى عليها من اجترار وتكرار، وما يسود فيها من ابتسار في الرُّؤَى والمواقف، وفي المفاهيم والتصورات، أو حينما يبقى الخيال فيها نائماً، تستغرقه ظلمة الكهوف التي يَغُظّ فيها، مُعْتَقِداً أنَّ الزمن ما تجري به الظلمةُ، وأن الليل لا يَعْقُبُه النهار.
فالزَّمان الذي لا يُوجد فيه الفَرْدُ الفَذُّ، من يأتي بالسُّؤال، من يَسْتَشْكِل القضايا والأفكار، رغم أنَّ الأفكار، كما يقول جيل دولوز، ليست مُتاحَةً دائماً، كون الفكرة، وهي تتخلَّق، وتنبثق، هي صدْمَةٌ في ذاتها، لِما تحتمله من تشويش، ومن تهجيج للعقل، تفرض عليه أن يخرج من ماضيه، من نومه الذي اسْتَغْرَقَهُ، للنَّظر في الشمس بعينين مفتوحتين، بِكُل ما في الضوء من أذًى. فالكَشْفُ، دائماً يُؤْدِي، لأنه جديدٌ، ولأنه يقول ما لا نقول، ويكشف ما لا نعرف، والعادة، بطبيعتها، تأبى الاختراق، ما دام الزمان يدور بما نريده، وكما نُرِيدُه، لا بما علينا أن نصون به طبيعة الزمان ذاته، بما فيه من أشياء لا يراها الجميع، ولا تبلغ الحواسّ جميعها، وتحتاج عقلاً وخيالاً قادرين على النُّزُول إلى قيعان المعارف والعلوم والفنون، لا البقاء في قشورها، وما يبدو لنا سطحاً، نظنُّه عمقاً، كما يحدث للظَّمْآن تماماً.
[2]
لم تكن الثقافة العربية، في ماضيها، محكومة بالمُسْتَقِرّ، بدليل أنَّ امرأ القيس، كان مُحْدِثاً، ليس باعتباره البادئ، بل باعتبار من كانوا قبله انْتَكَسُوا، وهو كان، في غيابهم حضوراً. لا كتابَ ذكَر لنا من يكونون أسلافه، وكيف كتبوا، رغم أنَّ صاحب القُرَشِي في المجمهرات، أتى برواية اعتبرت آدم هو سلف امرئ القيس، فيما رثى به ابنه، وأنَّ الشيطان، وهو سلف آخر لامرئ القيس، بحسب الرواية، مهما كانت مُتخيَّلَة، كان تشفَّى في آدم، شِعراً، ليبدو أنَّ الشِّعْر، منذ أبده، كان نكاية البعض في البعض، وحرباً تجري في أرض مُقْفِرَة جرداء، لم تكن المدينة فيها ظهرت بعد، بل إنَّ امرأ القيس، نفسَه، كان، وهو يقف على الأطلال، يستحثُّ الأحجار لتتكلَّم، لتستعيد ماضيها، تحدثنا عن الحضور في الغياب.
ما يعني، مهما تكن الذرائع، أنَّ الشِّعْر، بدأ حداثة وتحديثاً، وأن امرأ القيس، ليس سلفاً بمعنى التَّابِع، بل هو سلف، بمعنى المُبْتَدِع، من أتى ببناء جديد، وبطريقة أخرى في قول الأشياء، بخطاب ليس هو خطاب من سبقوه، إما يكون طوَّرَه، أو ابتكره، لكن ما وصلنا، كان كاملاً، بمعنى أننا لا نسْتَشْعِر فيه أثر الارتعاشات الأولى للكلام، ولا للشِّعر والإبداع.
[3]
هذه الثقافة التي بدأت ابتداعاً، بدأت «أوَّلاً»، وكان الشِّعْر هو ما ضاهت به الصيرورة، لم تحكم على نفسها بالاكتمال، وأنَّ امرأ القيس هو وثَنُها الذي تُضاهي به القبائل والشعوب، أو أنَّه الإله الذي كان يمشي على الأرض. فَما من أحد من الشُّعراء، مهما كانت قيمته، ممن أتوا بعد امريء القيس، وهو نفسه، «إلا ودخله الخَللُ في شعره ولم يسلم من النَّقدات»، وأنَّ الخلاف، في شأن امريء القيس، الأوَّل والباديء «لم يزل بين الناس فيه وفي غيره أيُّ كان» [الرسالة الشافية في إعجاز القرآن لعبد القاهر الجرجاني].
ما يعني، أنَّ القديم، أو السَّابق، أو حتَّى الأول والمبتدئ، لا يعني أنَّه المُسْتَحْكِم، من يتبعُه غيره، أو أن غيره الأعمى يسير خلف عصاه، يمكن أن يكون أُفُقاً وطريقاً، أن يُشير إلى أرْضٍ أو أراضٍ، يَدُلّ على نَبْع، أو بئر ماءٍ، والباقي، على الغَارِبِ، من يكون بلغ النَّبْعَ أو البئرَ، إمَّا أن يتَّبِعَ، أو أن يبتديءْ، و يبتدع، بل كُلّ حسب طاقته، وقدرته على الخلق والإضافة والإبداع.
[4]
أوَّل النُّقَّاد، في الثقافة العربية، كانوا الصَّيارِفَة، من يُمْعِنُون في الفَرْق بين المُزوَّر والسليم، من أتى تابعاً، ومن هو أصلٌ، أو شمسٌ، وما ترتَّبَ عنها من ظلال. النقد، كان بهذا المعنى، يتوخَّى الأصول، التي سيَبْنِي عليها من بَعْدَهُم القاعدةَ، أو ما سيكون التدوين والتثبيت فيما بعد. وحتَّى في حالة زوجة امرئ القيس الني حكمت ضِدَّ زوجها، فهي حكمت بالشِّعْر، بما في الشِّعْر من صورة، ولم تمسّ غيره مما يجري خارجه، ليكون النقد، في أصله، هو الآخر، استشفافاً للشِّعْر، بما فيه، لا انحرافاً عنه، أو الزَّوَغان بالكلام عن سياقه، لنقرأ به ما نُريد، أو ما هو موجود عندنا بشكل مسبق، جاهز، كقالب نُقْحِم فيه ما ليس منه، بالقوة، لا بالفعل.
اختلال النقد، بدأ مع سوء الفهم، من جهة، ومع سوء الظن والطَّويَّة من جهة ثانية، وما الرغبة في الخصامِ والتَّحامُل، فقط، من جهة ثالثة.
فسوء الفهم، فيه تمحُّلٌ في القراءة، وأن ما يقرؤونه يكون أوسع من الثُّقْب الذي منه ينظرون في الكتاب، الظلمة فيه تطغى على النهار، وهذا وضع الأعمى، مَنِ النهار عنده هو الليل، ما الفرق. أما سوء الظَّنّ والطَّويَّة، فهذه من آفات الثقافة العربية، ليس في ماضيها، فقط، بل في حاضرها، في هذا الرَّاهِن الذي نحن فيه، نرى ونقرأ ونسمع، ونستنكر ما نراه ونسمعه ونقرؤه، لِما دخَلَه من تحامُل، وكَيْد، وتدليس، ورغبة في الهدم، وفي اغتيال الأشخاص، دون فهم ما يصدرون عنه، لا في النص، ولا في النظر. أمَّا الرغبة في الخِصام والتَّحامُل، فهذا ما كان قال عنه الجرجاني في «الرسالة الشافية»: «يُبَيِّن ذلك أن العدُوّ يقصد لدفع قول عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد، ولا سيما مع استعظامه ما بَدَهَه بالمجيء من خلع آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته، والتصرُّف على حكم إرادته، وتحكيم الغير في ماله، وتسليطه إياه على جملة أحواله، والدخول تحت تكاليف شاقَّة، وعبادات مُتْعِبَة».
لذلك، فهم بالعبارة القرآنية «قومٌ خَصِمُون»، لا يسعون إلى معرفة، أو تصحيح رأي، أو مساءلته ونقده، مهما كان، فهم يذهبون إليه باعتباره فاسداً، أو يُوهِمُون بفساده، ظنّاً منهم أنهم أطلقوا رصاصة الرَّحمة عليه، وانتهوا منه، وينسون أن المعرفة والإبداع، لا ترتهن بالتَّحامُل، بل بوضع الإصبع على الجرح، لا جرح الإصبع.
[5]
الثقافة التي تخلق الآلهة والأوثان، وتُحيط حاضرها بماضيها، هي ثقافة هشَّة، عاجزة، لا تملك حرية نفسها، ولا فكرة أو سؤال لها، وهي ثقافة عالَة، قبل أن تكون عالَةً على غيرها، فهي عالة على نفسها، لأنها، لا هي بداية، ولا هي نهاية، ولا شيء فيها يقول ما تكون، وكيف تكون، وما المعارف والأساسات التي تقوم عليها، خصوصاً فيما يتعلَّق بالإبداع، الذي هو، دائماً، إضافة، وهو خروج من ظلال وعباءات الأسلاف، مهما كانت قوتهم، وما لهم من حضور وتأثير. وكثيراً ما يكون هذا الحضور والانتشار والتأثير، بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة، وتُخفي ما فيها من نغم وموسيقى وأصوات وألوان، وأنواع، وأشجار وأزهار وطُيوب وروائح وعطور، بل وحروب، أيضاً.
أبو القاسم الشابي، في زمنه، كان غير ما هو عليه في غيابه، كان الخزندار، شاعر تقليدي، هو الشجرة التي أخفت كل شيء، والشابي، حتَّى في محاضرته حول «الخيال الشعري عند العرب»، التي لها أهمية خاصَّة في فهم خيال الشِّعر العربي الذي انتقده الشابي، وانتقد شُعراءه، لم يحضرها إلا الشابي ولحليوي الذي كان سيُدير الجلسة. لا اعتبار لشاعر، سيصبح هو الشجرة، بعد تسعة وعشرين عاماً من التَّجاهُل والنِّسيان. بماذا نُفَسِّر هذا الجحود، وبأي معنى، لا نكتشف الشِّعْر ولا الشَّاعر، إلا بعد غيابه، أم أن «المُعاصرة [حقّاً] حجاب»، كما كتب البغدادي في مقدمة «خزانة الأدب»!!؟
[6]
النُّفَرِيّ، نسبة إلى بلدة نُفَر بالعراق، هو، قبل الشابي، وغيره ممن عادوا إلى الحياة بعد اغتيال المُعاصرة لهم، هو واحد ممن اسْتَعْصَى نَصُّهُم. ما كتبه ليس خطاباً، بل هو نصّ، والمسافة شاسعة بين الاثنين، من حيث المفهوم. فهم نصٌّ، مُشَوِّشٌ، مُرْبِك، مُحيِّرٌ، بقدر ما يَشُدُّك يُزْعِجُك، وبقدرك ما يُفْهِمُك، يُعمِّي فَهْمَك ويُرْبِكُكَ، مُريبٌ ومُحيِّر، لم يُدْرِك هذا بعض من كتبوا عنه بجهله، لأنهم لم يمتلكوا زمام النص، ولا جنسه، أو بما هو عمل وأثر شعري جاء خارج النَّسَق، وخارج البناء، وخارج التصوُّر النقدي العربي، وخارج تصوُّرات الذهنية الثقافية العربية، بل خارج العقل والخيال العربيين، ليكون وحدَه، ما ألقى به في غياهب الاغتيال، والتَّجاهُل والنسيان، ونسي من فعلوا هذا، لعجزهم، وفقرهم في المعرفة والنظر، أن مثل هذه المشاريع، والتجارب، والأعمال العظيمة الكبرى، لا تموت، بل تُؤَجَّل فقط، في انتظار زمنها الذي فيه ستظهر، لأنها، في عُرْف المعرفة والإبداع، تأتي من المستقبل، وهي أمامنا، وليست خلفنا.
[7]
من يُبَجِّلون اليوم شعر الإنشاد، وشعر الشِّعارات، وشعر السياسة، وشعر المُناسبات، وشعر «القصيدة»، لا شعر العمل والأثر، وهذا هو جوهر ما علينا الدخول فيه، لفهم شعر من نضعهم موضع الآلهة والأوثان، يكتفون باللحظة التي فيها يحدث الانفعال، وتتأجَّج المشاعر والعواطف، كما حدث مع الشابي نفسه الذي اختزلته المدرسة في «إذا الشعب يوماً أراد الحياة»، ومع شوقي في قصيدة دمشق، ومع محمود درويش في «سجل أنا عربي»، ومع الجواهري، في ما كان يُنْشِدُه المُتظاهرون له من أبيات في شوارع بغداد، ومع عبد الله البردوني، فيما هجا به وضع اليمن، وفي بابلو نيرودا، إذا شئنا أن نُوسِّع الوعاء أكثر، دون أن نقرأ هؤلاء فيما تبقَّى منهم، في شعرهم كاملاً، لا في بعض سيرهم، أو في بعض ما قاله عنهم بعض النقاد، بل ما قلناه نحن، لأن هؤلاء، حتَّى لا نقتلهم، ونرمي بهم داخل كليشيهات راسخة، حياتهم، هي قراءتنا لهم باستمرار، وفق ما نبلغه من معرفة ووعي، وفي سياق ما يجري من شعر اليوم، ومن نظرية، وتطور وصيرورة في الشعر والنظر، وفي المفاهيم والتصوُّرات، لا أن نُجمِّدَهُم في لا وعينا داخل قوالب استقيناها من هذا الناقد أو ذاك، وصرنا به نحكم على ظلمةٍ في قبر، نظنُّها النُّور، دون أن نعي ما نجْنيه، ليس على الشِّعْر، بل على الثقافة العربية، في عقلها وخيالها، في نُظُم المعرفة والإبداع التي تحكم بنياتها، وما تُنْتِجُه من دوالّ ومداليل.
[8]
عقل مُنْهَك، عينه خلفَه، في ماضيه، كيفما كان هذا الماضي، وفي مفاهيم يستقرّ عليها، لا يعود يخرج منها، تبقى عنده هي نفسها، حتَّى والعالم يتغيَّر، والشمس ليست هي نفسها، بين البارحة واليوم، وهذا من أسباب تخلُّفِنا عن الثقافات واللغات والحضارات الأخرى، ليس في الإبداع، بل في التبعية والاحتذاء، والسير على خُطَى الآخرين. سلفية في الذهن، وفي الفكر، تختبيء خلف الحداثة والتحديث، تدور حول نفسها، معتقدة أنها تسير إلى الأمام، فيما الوراء هو ما يحكم دورانها، تُراوح نفس المكان، لا تَجوزُه، وتُحاكم الفكر والإبداع والخيال، والعقل اليقظ، بفكر وخيال وعقل نائم، حتّى الحُلُم فيه، لا يتغيَّر، ولا يتنوَّع، لأن مشدود إلى زاوية نظر واحدة، لا غير.
وإذا كان أوفيد، قبلنا، بقرون ساحقة، والعالم لم يتَّسِع، ولم يتنوَّع، بهذا الاتِّساع والتَّنوُّع اللذين نحن فيهما اليوم، يرى أنَّ «معرفة [أو اكتشاف] العالم، تعني إذابة صلابته»، فسيكون مُخْجِلاً لنا نحن من جئنا بعد بقرون، أو نجعل العالم صلْباً، نبنيه بآلهة وصُلْبان، أو بأوثان نحن من صنعناها، كما تصنع الجماهير الزُّعماء. ولعلَّ في الحديث «مُوتُوا قَبْل أن تموتُوا»، ما يمكن أن يُخَفِّف عنَّا وَطْءَ ما نحتمله من عبء عقول استغرقها اليقين، وأحاطت نفسها بالمُسلَّمات، وبمفاهيم اسْتَكانت لها، وصارت عندها ديناً، أو مثل الدِّين الذي لا يجوز المَسّ به.
[9]
«القصيدة»، «البيت»، «القافية»، «الوزن»، وغيرها من التسميات، لا يَدَ لنا فيها، من يختبر سياقاتها الفكرية والجمالية، سيجدها صَدًى لزمانها، ولمعانيها، ولثقافتها، ولهذا الماضي العظيم الذي ابْتَدَع هذه العمارةَ، وهذا المعمار، قبل أن أن يُغْلِقَه، ويضع له حدوداً، ويُقَيِّد العقل العربي بها في كل زمان ومكان. الخليل، استنبط العروض، ولم يفرض العروض على أحد، قال، بحسه الموسيقي الرياضي، وهو عالم في اللغة وفي الموسيقى، هذا ما تفتَّقت عنه قريحة العرب، حتَّى وهم لا يعرفون الأوزان، بل «توهَّمُوها»، كما يقول ابن رشيق القيرواني، في كتابه «العمدة». لأن الوزن، في جوهره، إيقاع، موسيقى، ما نكتب به دون أن نعيه، وليست عملية حسابية أو رياضية، أو سلسلة من الصوامت والمُتَحرِّكات، أو صيغاً صرفيه نسير على هديها، دون أن نعي ما للخيال والصور الشعرية، وبناء الجمل والتعابير، من دور في «النَّظْم»، وفي البناء، أو في «النحو»، في معناه العام، الذي هو، عند الجرجاني «خادم لنظم المعاني، وليس خادماً للألفاظ»، والمعاني، لا تحدث دون تراكيب وصور، ودون كلام بعضه يأخذ برقاب بعض.
[10]
هل ما نكتبه، اليوم، «قصيدةً»، بأي معنى، وبناء على أي «بناء» أو معمار، وهل الثقافة العربية عاجزة أن تُسمِّي، وتمتلك ما تُسمِّيه، يكونُ هي، وتكونُ هو، لا تكون الصَّدَى، وماضيها الصوت، هل ما يكتبه سليم بركات «قصيدة»، وما كتبه الرحل «رفعت سلام» «قصيدة»، وهل ما يكتبه قاسم حدَّاد «قصيدة»، وما يكتبه محمد السرغيني «قصيدة»، وما كتبه أدونيس في «الكتاب أمس المكان الآن» «قصيدة»، وما كتبه درويش في «الجدارية» «قصيدة»، بغض النظر عن درجة حضور الشفاهة والصوت في بعض هذه الأعمال، قياساً بوعيها الكتابي، وبما تتوسَّعُ به من دوالّ !!؟
وهل الشِّعْر هو «القصيدة»، ولم اختزلنا الشِّعْر في «القصيدة»، علماً أنَّ الشِّعْر ليس جمعاً ولا مُفردَ «قصيدة»، بل هو جامع أنواع في العربية، «القصيدة»، هي نوع من أنواعه. فكيف، بابتسار غير مقبول، أخْفَيْنا الكثير خلف الواحد، واعتبرنا الجزء كُلْاً، وسمَّيْنا الشِّعْر ب «القصيدة»، وبها ترجمنا حتَّى كلمة poésieب «قصيدة»، وحَكَمْنا على العالَم بتعريف ابن منظور، الذي حصر العربية في النصف الثاني من القرن الثَاني الهجري، ولم يتعداه إلى ما بعده، لِما رآه دخل العربية من اختراق وتوسُّع لم يقبلهما.!!؟
[11]
هل نحن، اليوم، الآن وهنا، في زمن الكتابة، أم في زمن الشفاهة والكلام واللسان، زمن التقنية التي أتاحت لنا الطباعةَ، والتَّصرُّف في التَّفْضيَّة، وفق ما تقتضيه توزيعات البياض، وما نذهب إليه من تعبيرات لسانية وغير لسانية. من يتفحَّص الشِّعْر العربيّ، عند رواد ما سُمِّيَ ب «الشِّعر الحر»، وعند من اختلفوا عنهم ب «قصيدة النثر»، الشَّفاهة والصوت والخطاب، لم تسمح بالكتابة، أو أنَّ الوعي الشفاهي الإنشادي، هيمن على الوعي الكتابي، دوالّ تنتصر للصوت، تُعليه، تعطيه الكلمة، في مُقابل المكتوب، أو المكتوب هو تدوين، نَقْل للسان على الصفحة، والصفحة فيه هي مُجرَّد حامل support وليست دالّاً، كما نجد في كثير من حالات «الكتاب أمس المكان الآن»، لأدونيس، وربما لهذا السبب، سمَّتْه خالدة سعيد، «قصيدة الكتاب»، في كتابها «جُرْح المعنى»، وفي قراءتها لديوان أدونيس «مفرد بصيغة الجمع»، اعتبرت أن أدونيس، لم يتخلَّص من الوعي الشفاهي.
[12]
ثمَّة ما يفضح هذه السطحية في وعينا الثقافي بالنقد وبالسؤال، وبالبداهة التي لا نُقاومها، بل هي ما يُقاومنا، وتنزع عنَّا الوعي، لتُلْقِي بنا في لا وعيها، وهو ما كان كتبه إيطالو كالفينو في إحدى وصاياه، للتعبير عن هذا الابتذال الذي مسَّ الثقافة والإبداع والخيال، وأنهك العقل الذي صار يستجيب ويُجيب، ولا يستطيع توليد السؤال، أو الفكرة والقضية، فالإعلام نمَّط العقل، سَيَّجَهُ، أطْبَقَ عليه، أدخله في قفصه الاستهلاكي، القائم على ترويج المعلومات وإذاعتها، دون تفحُّصها وتدقيقها، المُهم هو القذف بها في وجوه الآخرين، دون حساب العواقب. يقول «في عصر تنتصر فيه وسائط الإعلام الواسعة الانتشار والسريعة بشكل يفوق الخيال، مُهدَّدة بتسطيح كل اتصال وتحويله إلى سطح واحد مُتجانس، وظيفة الأدب، هي الاتصال بين أشياء مختلفة، لأنها، ببساطة، مختلفة، ليس لِثَلْم حِدَّة الاختلاف بينها، بل لزيادة الحِدَّة حتَّى تبعاً للميل الصادق للغة المكتوبة».
العصْر الذي نحن فيه، هو عصر الفاست فود، أو ثقافة الفاست فود، كل شيء مُعلَّب، مصنوع، مُعَدٌّ ومُهَيءٌ، لم نعد نحتاج إلى جهد في البحث والتقصِّي، والصبر فيما نصل إليه من نتائج، بالقراءة والتأمُّل، وطرح الأفكار والأسئلة، نُجيب، بدون وازع للجواب، والسؤال، في الأصل، غير مطروح. هذا واقع ثقافتنا، اليوم، ثقافة تتعثَّر في تلابيبها، لا هي ثقافة غرب، ولا هي ثقافة شرق، ثقافة هجينة، ترتدي كل الأقنعة، تلبس كل الألوان، لا لون ولا طعم لها، تكتسي بالضبابية والالتباس في الموقف وفي الرؤية، بل لا رؤية لها، عمياء، تقطع الطُّرُق دون أن تميز فيها بين ما هو أفق، وما هو هاوية.
[13]
ما في حواري الذي صدر بمجلة «ميريث الثقافية»، هو اختزال وتكثيف لمشروع شعري نظري، يعود إلى أربعين سنة من عمري الثقافي، أو حضوري في المشهد الثقافي المغربي، وقد كان كتاب «رهانات الحداثة أفق لأشكال محتملة»، الصادر عن دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1996، تعبيراً عن هذا المشروع، رغم ما كان فيه من غموض، ورغبة في الانتقال بالشِّعْر من «القصيدة» إلى الكتابة، أو إلى العمل الشِّعري، ومن يريد أن يكتب، أو يُلاحظ، أو يُعقِّب، أو ينتقد، أو يشْتُم، حتَّى، لا بُد أن يعود إلى ما كتبتُه، منذ هذا التاريخ، أو قبله، شعراً وتصوُّراً، وأن يعود إلى أطروحتي التي صدرت في طبعتين «حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المُعاصر»، وما جاء بعدها من كتب، ويقرأ الأعمال الشعرية، من «حامل المرآة» إلى «كوميديا العدم»، بكل ما في بعض هذه الأعمال الشعرية من أجزاء. أما أن يَبْتَسِرَني البعض في حوار، فهذا جهل، لا تحتمله المعرفة، لا يقبله العقل المستقيم الناضج، الذي تشبَّع بقيم النقد والمُساءلة والحوار.
[14]
نُسيء للشِّعْر باختزاله في شاعر، أو في بلدٍ، أو في تجربة، أو في جغرافية بعينها. هذا المعنى انتهى، والشِّعْر، هو مَجَرَّة، اكتشافها في تنوُّعات فضاءاتها، وسهولها وهضابها، وفي أراضيها، بكل ما فيها من لين وشِدَّة، هو ما يفتح أعيننا على الشمس، دون أن تُصاب بجرح أو خدش، أو يُصيبها العَمَى، فالضوء المُفْرِطُ المفاجيء يعمي ويُعَتِّم.
ليس الشِّعر السياسة والمناسبة، الشِّعْر، كما يراه بورخيس، هو شعرٌ بالجمال، بما يطفو في أنفسنا من «متعة الكلمات» و «متعة موسيقى الكلمات»، لأنَّ في الشِّعْر، الذي نقرؤه بالمُخيِّلَة، رغم تأكيد بورخيس على العقل، نجد «كل أصوات البشرية».
[15]
يُتيح لي هذا أن اعتبر من رآني مُكْتَفياً بما هو وطني أو محلِّي، أخطأ الطريق إليَّ، أنا الغارق في أفق الإنسان، في ثقافة الكون، في تراث البشر منذ بدء الخليقة إلى اليوم. لا يكفي أن نختلف مع الشخص، في أن نقول عنه ما لم نفهمه، أو ما لم نقرأه في شعره وتصوره، هذا ليس اختلافاً، بل هو تمحُّل، تشويه للحقيقة، وقول شيء لا علاقة له بالواقع. والثقافة العربية، تعتاش على مثل هذا التعميم، بل التعويم، وتبني عليه نتائج، وحقائق، هي تضليل، ولا صلة لها بالنص، لا من قريب، ولا من بعيد. وهذا ما يدخل في الخرافة، وفي الاعتقاد الفاسد الذي يميل إليه الإنسان بماضيه البعيد، كما يميل إلى تفسير الأشياء بهذه الخرافة، وبهذا الاعتقاد، فقط، لإخفاء جهله، وينسى، أو لا يعرف، لنكون دقيقينن، كما يقول طاليس «إنَّ النفس مُحَرِّكَة للأشياء»، وهي في ثقافتنا وفي فكرنا العربيين، مُجمِّدَة للأشياء، مُرسِّخَة لها، تستكين إلى الثبات والاستقرار، ولا ترغب في الصيرورة والاستمرار.
وقد كان أنكسمندريس، أكَّد أنَّ العِلَّة المادية الأولى والعنصر الأول للأشياء هو اللانهائي، كما كان تكلَّم عنه سمبليقيوس. ونحن، بقينا نميل إلى ما ينتهي، ويُحْسَم، كل بداياتنا، هي دليل على تخبُّط وارتباك، فيما الإغريق أدركوا منذ قرون طويلة أن «اللانهائي دائم وأزلي».
[16]
لِمَ وحْدَنا، من كَتَمْنا الشمس والهواء في زجاجة، واعتبرنا ما يكون خارج الزجاجة، لا هو شمس، ولا هو هواء. لِمَ نحن، فقط، من مِلْنا إلى الاغتيال الرمزي، وابتكرنا كل الأسلحة لهذا الاغتيال، ولم ننتبه إلى أنَّنا نُطْلِق الرصاص على أَقدامِنا، ظنّاً منا أننا نغتال الخصم، أو العدوّ، أو من نتوهَّم أنه الخصم والعدو. ولِمَ الوعي عندنا شقيّ، بئيس، ينقلب على نفسه، يتقهقر، لا يمشي إلا بمقدار ما تزحف به السلحفاة نحو الضوء، والجوُّ نهارٌ!!؟
أجدني، في هذا البيان، مدفوعاً إلى الموسيقى، التي هي أكثر حرية من الشِّعْر عندنا، ومن الثقافة نفسها. في ألبوم [أون ذا كورنر]، الفوضى والنِّظام يتحركان في نفس الوقت، على نفس الوتيرة. الطَّبْلَة والسِّتار والفنك، تتصادى فيما بينها، ما شكَّل في هذه اللحظة الإبداعية الفارقة، ما اعتبره الموسيقيون «غابةً كونية»، موسيقى خيالية، بقدر ما نلمسها تتعذَّر علينا، تنفلت، ونبقى وكأننا إزاء حلم، لا هو صحو، ولا هو نوم.
لم في الشِّعْر وحده، وفي ثقافتنا وحدها، نرفض التجديد، ونميل إلى الأسلاف نختفي خلفهم، دون أن نقول أعطابهم، وننتقد ما عندهم، لنكون نحن، فهل نحن ضِدَّ ما قرأه سقراط في مدخل معبد دِلْفِي «اعرف نفسك بنفسك»، أم نحن ضِدَّ أن نعرف، ونظن أنَّ ما عرفناه، يكفي لنكون عرفنا كل شيء !!؟