كثيرة هي الكتب والمؤلفات الفارقة التي أثارت جدلاً ثقافياً واسعاً، انتهت إلى ردود فعل غير علمية؛ إما إقصائية، وكأن المجادل لا يملك انتماء لأمته ودينها أو أديانها فيطرد بكل بساطة من دائرة الجماعة ويعزل كلياً وقد يُحرم من عمله ويتم تجويعه، وإما المطارة التي كثيراً ما تجلت في صورها الأكثر بشاعة، القتل، وقد حدث ذلك في كثير من الحالات دون معرفة حقيقية لأطروحات من يبدو خصماً وهو ليس كذلك على الأقل في الجوهر، الوسطاء الذين كثيراً ما يكونون أعداء سياسيين أو دينيين منتمين للبلاط، هم السبب.
فقد مُزِّق عبد الله بن المقفع (724 ـ 759م) شر تمزق في عز شبابه، بسبب أفكاره، وكتابه «كليلة ودمنة» الذي نقله من البهلوية إلى العربية، وكان عارفاً بالثقافات العالمية السائدة في زمنه، فجمع بين الثقافة العربية والفارسية واليونانية والهندية. يعد من أكثر الكتب حكمة ونقاشاً لطرائق الحكم وتسيير الدولة والعلاقة بالرعية. فقد مرر ابن المقفع من خلاله مؤلفه وقناعاته في الحاكم والمحكوم من خلال شخصيتي بيدبا الفيلسوف ودبشليم.
وكانت قصص الكتاب النقدية والوعظية تمر عبر ألسنة الطير والحيوانات. وأكمل أفكاره السياسية في كتاب «الدرة اليتيمة والجوهرة المكنونة» الذي يشكل درساً سياسياً حقيقياً في نظم الحكم والتسيير. لم يتحمل الخليفة أبو جعفر المنصور أفكار ابن المقفع الانتقادية التي كانت لها أصداء كبيرة في المجتمع، فسلمه لعدوه الأول الذي كان حاقداً عليه بسبب سخريته منه، سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، والي البصرة، وأمره بقتله شر قتلة، بنزع أعضائه وشيّها وهو حي، ويقال أيضاً إنه أدخل إلى الحمام وأغلق عليه بإحكام حتى مات اختناقاً. لكن الصيغة الأولى هي الأقرب إلى انتقامية والي البصرة وحقده.
فقد سُمِعَ عنه: «والله لأقطعنه إرباً إرباً وعينه تنظر». كانت مبررات قتله هي زندقته. وهو ما قاله له أثناء عمليات الحرق: «ليس عليّ في المثلة بك حرجٌ، لأنك زنديق قَدْ أفسدت النّاس»، فقد اعتبر من الفئة التي تتظاهر بالإسلام مراءاة وخداعاً. التهمة سهلة ويتقبلها مجتمع كان تحت سلطة خطاب ديني في جوهره سياسي يدافع عن الحاكم الظالم أكثر مما يدافع عن الحق. لا يوجد في آثار بن المقفع ما يوحي بزندقته. الشيء الوحيد، هو أصله المجوسي ودفاعه عنه في الفترة السابقة لإسلامه. ظل يدافع عن براءته حتى وهو أمام فرن الحرق. لم تكن الزندقة هي السبب الحقيقي لاغتياله، وإنما كانت للتغطية. فقد عودوا الجمهور المتلقي باستقبال كل شيء من منظورهم الذي لا يتأسس، للأسف، على معرفة مسبقة، وكأن السجالية عنصر يرفضه الجسد الثقافي العربي؟ وكأنه كُتِب التثبت على المعرفة والتنور في العالم العربي.
وكأن المسافات التي تقاس بالقرون لا قيمة لها. لنا في زمننا ما يشبه ذلك من خلال كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين (1306 هـ / 15 نوفمبر 1889 – 1393 هـ / 28 أكتوبر 1973م)، الذي تسبب في ويلات كثيرة لصاحبه من عزل من الوظيفة، ومتابعات قانونية استمرت زمناً طويلاً، مع أن مناقشات مستفيضة وجادة للكتاب ولأفكار صاحبه المشبع بالمنطق الديكارتي كانت كافية لمنح الأجيال أرقى أشكال المحاورات الغنية والمفيدة.
لا غرابة إذا قلنا إن الزمن العربي لا يتحرك، وإذا تحرك، لا يفعل ذلك إلا لمزيد من التقهقر إلى الوراء. فكل ما يحدث فيه يؤكد ذلك. ننزعج طبعاً عندما نتحدّث عن تخلفنا الصعب، ولكننا نعرف بشكل صارم وجدي أن الخروج منه يقتضي بالضّرورة استنفاراً حقيقياً لكل الوسائل العقلية. فالتخلف ليس قدراً مرتبطاً دائماً بالفقر أو الحاجة بالمعني المادي للدول. المشكلة في العالم العربي هي في العقل النائم والمسترخي أبداً، مكتفياً بإعادة إنتاج نفسه باستمرار، وفق رؤية تبسيطية يتحكم فيها الاستهلاك. من بين تمظهرات تخلف هذا العقل، الرقابة والمصادرة والمنع. نفهم جيداً أن يُمنع كتاب أو مقالة أو مجلة لشيء ما قد لا يتناسب سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، أو أن الرقيب قرر أن هذه المادة أو تلك ستضر بالشعب أو بأجزائه الهشة، لكن أن يظل الكتاب ممنوعاً قرابة القرن، وصاحبه مات وتحول إلى رميم، والظرفية التي أنتجته انتهت والذين أمروا بالمنع أو قاوموه قضائياً انتفوا كلهم من هذه الدنيا، بينما بقي المنع مستمراً كالوباء إلى وقت قريب، ولم يُرفع المنع قط على كتاب «في الشعر الجاهلي» بشكل رسمي إلى اليوم، مثل سجين تحول مع الزمن إلى علامة لا معنى لها، أو مجرد رقم بليد لا يحيل إلى إنسان يموت كل يوم قليلاً، نُسِيَ في زنزانته إلى يوم موته، فيعثر عليه بالصدفة الغريبة عمال السجن وهم ينظفون المكان حفنة من العظام.
كيف نسمي هذا بغير كلمة الجهل التي لا تكفي لنعت هذه الحالة؟ هذا بالضبط ما حدث لكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» الذي نشره صاحبه في 1926، وتناول فيه قضية انتحال الشعر الجاهلي، وشكك في صدقية الرواة المحكومين بالسياسية ونظام الحكم. وكان من وراء العديد من الآراء التي تميزت بالجرأة الشديدة والصراحة والرفض، وانتقد بصرامة الرؤى التعلمية السلفية التقليدية. وتحت الضغوطات المتكررة التي تبنتها فئة أغلبها تقليدية الفكر، من أمثال مصطفى صادق الرافعي الذي وصلت نقاشاته إلى درجة الشتيمة، والخضر حسين، ومحمد لطفي جمعة، والشيخ محمد الخضري، ومحمد فريد وجدي، ومحمد أحمد الغمراوي، وغيرهم، ومؤسسة الأزهر، عوّضه بعد المصادرة بكتاب شبيه هو «في الأدب الجاهلي». هو نفسه الكتاب الأول بعد أن حذف منه المقاطع الأربعة التي أخذت عليه، وكتب له مقدمة جديدة سحب منها شكوكه الكبيرة، مع أن المعرفة شك، وإلا سقطت في تكرار ما قيل قبلها. وظل الكتاب الثاني «في الأدب الجاهلي» هو الذي يسري بين المدارس حتى نسي الكتاب الأول نهائياً، وكـأنه لم يوجد قط. وكلما ذُكرت مؤلفات طه حسين، كثيراً ما نزع منها كتابه «في الشعر الجاهلي». هذا ما حدث في الكتاب المدرسي في الكثير من البلدان العربية. وظل الكتاب ممنوعاً من 1926 تاريخ صدوره لأول مرة إلى 1996 عندما أفرج عنه الكاتب الكبير المرحوم غالي شكري، عندما خصه بعدد مميز من مجلة القاهرة التي كان يشرف عليها، وأعاد طباعة الكتاب في المجلة، مع الملف القضائي والسجالي الذي صاحبه. حتى الأسرار العسكرية الأكثر خطورة والانقلابات والاغتيالات، متوسطها العمري خمسون سنة، بعدها يصبح بإمكان المؤرخين التعرف على تفاصيلها السرية ودراستها.
فما هو هذا الخطر الذي يشكله كتاب «في الشعر الجاهلي» على الناس وعلى الأجيال المتعاقبة منذ العشرينيات إلى تسعينيات القرن الماضي، سوى تخلّف يتنامى بوتيرة مخيفة؟ أليس هذا علامة من علامات الانهيار العظيم الذي يمس العالم العربي اليوم في الصميم؟ فكل العناصر البسيطة ليست إلا حلقات صغيرة نتيجتها ما يحصل على أراضينا وبشكل مفجع. مجتمع العقل يتراجع في كثير من البلدان العربية التي كانت إلى وقت قريباً منارات ثقافية حية.