شكلت العلاقة بين الطب والحداثة سؤالا شغل بال العديد من المؤرخين. فغالباً ما ترافق الطب الحديث في مناطق عديدة من العالم بقدوم الاستعمار، الذي كان له تبعات عديدة على مستوى إعادة تشكيل هذه البلدان. فوفقاً للقراءات ما بعد الاستعمارية، فهي لم تكن سوى مؤسسات للسيطرة والنفوذ وتغيير الأفكار، لكن في موازاة هذا الطرح التقليدي، تبدو هناك محاولات عديدة من قبل المؤرخين والباحثين لإعادة النظر في دور المؤسسات الطبية الاستعمارية في خلق مناخ معرفي وطبي جديد. وبينما لا تنفي هذه القراءات النوايا السياسية التي تقف وراء هذا النوع من المشاريع، لكنها ترى أنّ هذه المؤسسات شكلت وعيا مدنيا آخر، وكان لها دور في خلق مزاج آخر تجاه الحياة والصحة وسياسات الدول. وبالتالي هي تمثل «غنيمة حرب» إن صحّ التعبير، أي بمعنى أن البلدان المستعمرة حصلت على فوائد من المؤسسات الطبية الاستعمارية، تجاوزت البعد الصحي، لصالح انفتاح أوسع على الحداثة. وربما تمثّل هذه الرؤية جوهر كتاب الباحث المغربي لحسن العسبي «غنيمة حرب.. الطب الحديث بالمغرب» 1888ـ1940 المركز الثقافي للكتاب، الذي سيحاول من خلاله إعادة رسم العلاقة بين الطب والمدينة والاستعمار في المدن المغربية. فوفقاً للعبسي، لم يكن المشروع الفرنسي الاستعماري في المغرب مشروعا عسكريا فحسب، بل لعب دورا أيضا على صعيد تنمية بعض جوانب المجتمع المغربي، ولعل هذه النتيجة تعد قراءة جريئة، فالمغاربة، وفقا له، تعرفوا من خلال مؤسسات الطب التي أسسها الفرنسيون على معلومات جديدة طبية مرتبطة بأسباب الصحة الذاتية والجماعية، ما مثل عنوانا من عناوين التغير في الـ150 سنة الأخيرة من حياة المغاربة.
يخبرنا لعبسي أن الكتابة عن تاريخ الطب في المغرب لم تنقطع في القرن الأخير. فقد أصدر الطبيب الفرنسي لوسيان راينو كتابه «دراسات حول النظافة والطب بالمغرب» سنة 1902، من موقعه كمسؤول طبي فرنسي في الجزائر. كما أصدر الطبيب الفرنسي هنري بول جوزيف رينو سنة 1934 كتابا مهما حول تاريخ الطب في المغرب، أو بالأحرى محاولات التحديث الطبية في المغرب خلال القرن 19 أشار فيه إلى أنه اعتمد على كتابات ومؤلفات من يمكن أن يوصف بأنه «أول طبيب مغربي عصري» وهو الطبيب عبد السلام بن محمد العلمي، خاصة كتابه «البدر المنير في علاج البواسير». وهناك كتاب جون لوي مييج حول المغرب وأوروبا الصادر سنة 1961. واستكمالا لهذا الجهد، وغيره من جهود الباحثين المغاربة، سيعتمد المؤلف في قراءته على كم كبير من التقارير التي دونها أطباء فرنسيون، أو دونت من قبل المؤسسات الصحية التابعة للإقامة العامة الفرنسية في الرباط.
احتلال المغرب وعالم المشفى
لقرون شكلت طنجة، المدخل الجنوبي لمضيق جبل طارق، العاصمة الدبلوماسية للدولة المغاربية. وجدت فيها مقرات السفارات الأجنبية منذ القرن السابع، الإنكليزية، والإسبانية، والألمانية، والنمساوية. كما كانت مقرا لنائب السلطان المغربي، ومعه يتم التنسيق لربط الصلة بين السلطان وزيارته في عاصمة ملكه. فكان طبيعيا أن تتم مأسسة خدمات طبية جديدة لفائدة تلك السفارات والأجانب المقيمين فيها، بدليل سماح السلطات المركزية للدولة المغربية بإنشاء مستشفيات فيها، لكن لن تتمكن هذه المشافي من الانفتاح الكبير على الساكنة المحلية لأسباب دينية محضة، مرتبطة بصرامة مواجهة الدولة المغربية لحركات التبشير المسيحية، خاصة أن أغلب تلك المؤسسات الطبية، أنجزت من خلال إطارات تدبيرية وتأطيريه مسيحية.
ومن أقدم هذه المؤسسات في طنجة، بناية المستشفى الإنكليزي هابي هاوس. وقد أنشئت من قبل قساوسة بروتستانت إنكليز من مجموعة الأخوة المسيحية، واختاروا طنجة لأسباب تبشيرية. اقتنوا بيتا كبيرا في منطقة مرشان خارج أسوار طنجة، سيحمل اسم هابي هاوس (البيت السعيد). وستكون طنجة أيضا المجال الذي سيولد فيه أول مختبر للتحاليل الطبيبة، ابتداء من سنة 1910. وقد أنجز معهد باستور طنجة، في العشرينيات، أبحاثا دقيقة حول ما عرف بـ»حمى طنجة» في الأدبيات الطبية الأوروبية. وهي نتيجة لأثر رياح الشرقي القوية في مضيق جبل طارق، التي تؤدي إلى نوع من الحمى سببها خليط من السل والربو.
الدار البيضاء… طب وشوارع جديدة
في حزيران/يونيو 1907، عرفت الدار البيضاء انتفاضة القبائل المحيطة، خاصة قبائل أولاد حدو ومديونة وأولاد علي وأولاد صالح والزيايدية، ضد مشروع شق سكة حديد صغيرة لنقل الصخور. ويعود سبب الرفض إلى أن شق تلك السكة الحديدية سيتم فوق جزء من المقبرة الإسلامية القديمة للمدينة، وكانت نتائج تلك الانتفاضة، التوقيف الكامل لأشغال البناء والإجهاز على كل معالم الوجود الأوروبي، عبر تصفية غالبية العناصر الأوروبية. فقام الأسطول الفرنسي بشن هجوم عنيف في شهر آب/أغسطس، وقتل المئات وفق ما تذكره بعض الروايات، ودفنهم في مقابر جماعية، مع تدمير مساحات واسعة من المدينة القديمة. ومع هذا الاحتلال، شرعت السلطات الفرنسية، في إعادة ترتيب المجال في المدينة القديمة، والدخول في مواجهات مسلحة مع القبائل المحيطة، وتنظيم مجال خدمة الصحة والتطبب. بيد أنّ الطب في هذه الفترة سيكون «طبا عنصريا» مقتصرا على الجنود الفرنسيين والساكنة الأوروبيين. وكان لا بد من انتظار سنة 1913 ليتوسّع دوره، بسبب انتشار وباء التيفوس في المدينة وفي محيطها القروي الشاسع. ويروي لنا في هذا السياق الطبيب العسكري الفرنسي البير أرنست سبيك في أحد التقارير، كيف بدأت أولى الخطوات لإنشاء مستشفى في منطقة السور الجديد في المدينة القديمة. فكانت عبارة عن براريك متراصة، مزدوجة الحيطان الخشبية، مبنية بشكل متين، بأعمدة صلبة، لكنها دون كهرباء، ولا وسائل تدفئة أو تهوية. ومع قدوم التيفوس في 1913، فرض الفرنسيون إلزامية التلقيح، وشرعوا في تطويق الأحياء في المدينة القديمة وتلقيح المواطنين المغاربة من المسلمين واليهود بالقوة بيتا بيتا. وكانت النتيجة سرعة تعافيهم، فاكتشفوا، كما يرى المؤلف، أنّ الطب الحديث الفرنسي ليس سيئا بالضرورة.
لكن الانتقال الأوسع سيحدث مع تكليف الماريشال ليوطي المهندس المعماري الفرنسي بروست سنة 1915، بوضع مخطط معماري للدار البيضاء خارج أسوار المدينة القديمة. وهذا ما عدّ بداية إنشاء أنوية عمرانية مغربية وأوروبية، في الفراغ الترابي الممتد للمدينة الجديدة، وكان من ضمنه إنشاء حي للطبقة المتوسطة من التجار المغاربة، وأطلق عليه حينها اسم (تي أس أف). وفي هذا الحي سيتقدم مواطن مغربي يهودي الديانة، اسمه حاييم بندحان سنة 1916 بمقترح بحبس قطعة أرض وافتتاح مستشفى بطاقة سريرية تصل إلى 138 سريرا، ومما تؤكده وثائق الأطباء، فإنّ معدل الاستشارات الطبية بهذه المدينة قد بلغ 600 استشارة يومية، ما يعكس بالملموس كيف انفتح المغاربة على الطب الحديث ووثقوا به، وهذا مثّل تحولا سوسيولوجيا غير مسبوق في حياة المغاربة وعلاقتهم بالحداثة الطبية.
ولن يتوقف الأمر هنا، بل ستقرر المؤسسة الطبية مواجهة أمراض الزهري الجنسي، من خلال إنشاء وحدة للرقابة الطبية على مجالات ممارسة الدعارة في المدينة القديمة ثم في باقي أحياء المدينة الجديدة ما بعد 1919. وكان الهدف مراقبة الدعارة وتقنينها بدل منعها. ولعل ما يسجل على المؤلف هنا، أنه لا يبحث أحيانا في ما وراء هذه السياسات الصحية. فمثلا يلاحظ في موضوع عزل العاهرات في الدار البيضاء، أن ما جرى شبيه بما فعله الفرنسيون في مدن مثل بيروت وحلب في الفترة ذاتها تقريبا. فالهدف من هذا العزل والمراقبة لحياة الجنس في المدينة، لم يكن لغايات صحية تتعلق بالمغاربة بالضرورة، بقدر ما كان الأمر يتعلق برؤية فرنسية ترى أنه لا بد من إجراءات سياسات العزل هذه، ومنع الجنود الفرنسيين من ارتياد هذه الأماكن، من أجل تعزيز خط المواجهة الأول في انتقال الأمراض الجنسية من آسيا إلى أوروبا. لكن بغض النظر عن مدى تعمّق الباحث في مقاربته الأنثروبولوجية، فإن الأمور الطريفة التي يدرسها تتعلق بقطاع أطباء الأسنان، الذي بدأ بفتح محلات صغيرة في المدينة القديمة مثل الطبيب كاتسولي، لوبلان، الذين اشتغلوا في بداياتهم في اكواخ خشبية، دون كهرباء ولا ماء، ما جعلهم في بداياتهم تلك أقرب للعطارين التقليديين، مع فارق بسيط يكمن في أنهم كانوا يضعون سترات بيضاء.
الرباط… تصميم المدينة طبيا
اختار ليوطي أن تكون الرباط عاصمة الدولة المغربية الجديدة بدلا من فاس، التي مثّلت له برميل بارود مزعج، كونها كانت تضم نخبة النخب المؤثرة في القرار السياسي والعلمي والتجاري والثقافي في المغرب. لهذا سنجده يركز على خلق آلية إدارية مضبوطة لتنظيم خدمات مجال الصحة العامة، خاصة أن الرباط لم تكن تضم سوى بناية عتيقة لمستوصف فرنسي. وتخبرنا وثيقة مسنودة بتقارير عسكرية طبية فرنسية في الرباط، حررها الملازم العقيد الطبيب غريندورج، أنّ أول القرارات المتخذة سنة 1913 هي إخراج المصلحة الطبية الفرنسية من تلك البناية المتهالكة والصغيرة إلى فضاء أوسع مكون من بناية إسمنتية أنجزت في عام 1915. وأطلق عليها ليوطي اسم الممرضة العسكرية ماري فويي، التي ماتت جراء إصابتها بمرض في المغرب. ومع هذا التطور الصحي، أصبحت المدينة مجال تحرك النخب الجديدة الفاعلة والمؤثرة في المغرب. وربما ما ساعد على تقبل العالم الصحي الجديد، كما يعتقد المؤلف، النسيج الاجتماعي للعائلات الرباطية، التي تجر وراءها تقاليد راسخة في السلوك المديني، بعضه أندلسي موريسكي. ولعل هذا التركيز على الرباط انعكس سلبا على مدينة سلا المجاورة لها، إذ أدى تركيز الاهتمام في الرباط، إلى إنشاء مستوصف مغربي صغير في سلا سنة 1913، بحجة أن الخدمة الطبية متوفرة لساكنة المدينتين في الرباط.
فاس… الطب وخلق نخبة وطنية
وعلى الرغم من محاولات تهميش فاس، لن يمنع ذلك الفرنسيين من تطوير الخدمات الصحية في المدينة، انطلاقا من رغبة الاختراق السياسي، لهذا نجد ليوطي يأمر بإنشاء وحدات الطب المتنقل لمواجهة الأوبئة، ولاحقا، وبعد موجة عنف شهدتها المدينة، وقع الاختيار على قصبة قديمة في الشمال الغربي للمدينة، هي قصبة الشراردة عند أحد مداخل فاس القديمة، لبناء مشفى جديد. وبعد 10 سنوات تصاعد عدد المستفيدين من خدماتها من 600 مريض إلى 17 ألف مريض، ما يؤكد أنّ الساكنة قد تفاعلت إيجابيا مع هذه الخدمة الصحية التي جاءت مع الاستعمار، وهو ملمح سوسيولوجي مهم وتغير في المعرفة الصحية العمومية، إذ بدأت تتشكل، في رأي مؤلفنا، ما يمكن وصفها بـ»شريحة اجتماعية مدينية متوسطة» في المغرب بشكل غير مسبوق، وبعض من نخبها ستؤسس جيل الحركة الوطنية منذ الثلاثينيات بوعي مديني.
ولا ينسى المؤلف هنا، الإشارة إلى أن القطاع الصحي الجديد عرف ظهور بعض الأطباء المغاربة المحليين. ومن بينهم عبد الله منصوري، خريج كلية الطب في مدينة ليون الفرنسية سنة 1923، الذي عين المسؤول الأول عن أول مستوصف لمعالجة داء السل في فاس.
وفي الكتاب تفاصيل أخرى عن مستشفيات وجدة وملاحقة بائعات الهوى في شوارعها للحد من مرض الزهري، من خلال إجبارهن على حمل بطاقات خاصة ودفاتر طبية. وحديث أيضا عن مستشفيات مراكش، التي مثلت ولعبت دورا في انعطافة المغاربة نحو عالم آخر (الحداثة). وما يحسب للمؤلف في هذا الكتاب، قدرته على الربط بين تشكّل المدينة المغربية الحديثة وعالم الطب، ما يقدّم قراءة وإضافة مهمة في فهم واقع المدينة العربية في القرن العشرين.
كاتب سوري
القدس العربي