في أيّ عصرٍ عشنا سنشعر بالحاجة للحديثِ عن الحب، لتمثلّه الواسع في وجداننا، واختزاله شعرًا ومسرحًا وقصّةً، تلك العاطفة التي تتجاوز الإحساس البشري بالوحدة أو بالعجز، التي تمتاز بأنها تهبنا جميعًا القدرة على التعبير بفرادة ومباشرة ساخنة وشجية.
لا تختلف بذلك الفيلسوفة البارعة حنا آرندت، التي سيعترف الفيلسوف هايدجر بأنها تسند ما سماه الفكر العاطفي في كتاباته، عن جدتي لأبي التي تهرب ليلة زواجها نحو حبيبها وتعبر شط دجلة ثم تكتب: "أرد اشرد بنص ليل/ وأعبر لك شطوط/ واكتب براس الميل/ من كحلي مخطوط".
إحدى سمات تلك العاطفة أو الفلسفة لو جاز تسميتها بذلك هي أنها تمنع العالم من الزوال، من التلف والاندثار وليس ذلك كلامًا بلاغيًا عابرًا إلا لمن لا يأبه بأثر تلك اللحظة على المستوى الشخصي الهام من تاريخه.
ورغم أنّ في الحب رغبات واشتهاءات دائمة لا عواطف فقط، إلا أنها لا تمثل سوى نقاط دلالة فيما يبذل الحبّ جهده للحفاظ عليها، تطويرها، وإقصائها قليلًا من الذهن بغية تجديدها فيكتسب الجسد معنى إضافيًا، وتكتسب النظرة خطًا زمنيًا غابرًا، والقبلة بعدًا كونيًا حتى يشعر العاشق أن قبلته تخص الجميع ليتحدث عنها بلهفة وتشوّق واستمتاع لا مثيل له.
أما ألم الحب فلعلّه من أبرز الآلام التي يتذكرها المرء بزهو ومجد وامتنان. غالبًا ما يتذكر الثوريون والجنود والساسة الوطنيون تضحياتهم بندم وأسف وتوبة، ويستعيد الفنانون والشعراء خطواتهم الأولى ملصقين بها صفات مثل العبث والسذاجة والتسرع، أما أخطاء الحب وزلّاته فيتم تذكرها بدموع صافية تعيد للمرء طفولته المحببة و أمله وحلمه بنقاء العالم.
آلام يتمنى المرء عودتها ثانيةً مهما كلّفه ذلك من أثمان ومشقّة.
يصف امرؤ القيس عذابه في الحب قائلًا :"وأنك إن قسمت الفؤاد فنصفه/ قتيل ونصف بالحديد مكبل".
دون لجوء لأن نفلسفَ البيت الشعري فإنه يصوّر القلب مثل جيش يُقتل نصفه ويعود النصف الآخر أسيرًا و مكبلًا، نجا من الموت لا من الذكرى ذلك القيد الذي سيجعله مشدودًا إلى وطنه الأول إلى الأبد.
الملاحظ أنك لن تجد فرقًا جوهريًا في لواعج الحب بين القرون الغابرة والآن، إذ يظلُّ العاشق يخفق بالقوة نفسه، يطرق مفكرًا ويغالبه النّعاس ثم يفزّ، تظل شكواه من الطريق هي الشكوى نفسها سواء كانت آلة النقل هي الإبل النحيلة أو القطارات المتطورة.
الجوهر الإنساني أشد إضاءة عبر الظلام الذي يتكاثف منذ ألوف السنين، حدّ أننا لم نشهد في عصرنا هذا أو في أي عصر مضى فلسفة أو أمة أو قبيلة تفصل الحب عن الموت، فإنك تجد ذلك عند المتنبي "وعجبتُ كيف يموت من لا يعشق"، كما تجده عند تولستوي "أحب حبًا لم أجربه وسأطلق الرصاص على نفسي". والحقيقة أن الموت يجيء ضبابيًا مثلما يجيء الحب وكلاهما يشكلان أهم روافد الشعر.
تتجاذب الشعرَ على مرِّ تاريخه نظرتان، تعتبره الأولى عملية شاقة ومرهقة وفيها تعقيد كبير وهو ما نجده في قول الفرزدق "إنّ قول بيت من الشعر أشد من قلع ضرس"، والمقولة ذاتها تنسب لإمرؤ القيس أيضًا، و كذلك نجد أن ابن رشيق يقرر "أن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل وأهول ما يكون على العالم"، وهي مقولة تحيل إلى أن النص الشعري يصنع بجهد ووعي لا مجرد عاطفة ذاتية فحسب. إذ يروى عن البحتري أنّه جلس أربعين سنة ليكمل بيتًا، وينقل عن السياب إنّه كان يصاب بما يشبه الجنون عند كتابة قصيدة، وقد يكون هذا ضربًا من المبالغة التي يراد لها أن تصور الصراع الذي يخوضه الشاعرُ مع اللغة أو ضدها من أجل إنتاج فعاليته الخالصة.
نظرة واحدة تكفي لنرى الحبّ وحده من يجعل إنتاج القصيدة أشد سلاسة وصدقًا، سواء عنى الحب تلك العلاقة التي نتعايش معها أو تلك الذكرى الحبيسة أو الرؤية التي نلتزمها في ألا نتخلى عن الحب كجوهر إنساني نقي ينبغي استعادته كل مرة.
لنا أن نسأل أيضًا: ألا ينطوي كل نشاط إنساني مادي أو معنوي على مشقة وصعوبة؟ ألا يتطلّب التميز والتفرد في أية مهنة أو نزوع أو لعبة بشرية إلى سلوك طريق وعر ومغاير؟!
نظرة ثانية هي تلك النظرة التي تربط الشعر بالعفوية والفطرة والمجانية وتحسبه نزوعًا عاطفيًا ومشاعًا، وبالطبع ليس من حق أحد حكر الكتابة الشعرية على نفسه لكننا ملزمون بالالتفات للنص الذكي دون النص التقريري الذي يقول كل شيء مستدرًا للعاطفة السطحية أو مفعّلًا لها، ليبدو كما لو أنه استذكارٌ أو إثباتٌ لوجود الشاعر كفرد بائس أو مغلوب منفي أو جريح أو عاشق، وليس كمبدع خلاق وعالميّ ومتمرد وصانع للمفاجآت.
للشعر الحب الخالص الأبدي اللاذع لغة خاصة وحساسة، وهي غير لغة الأغنية والفيلم الأقرب للنواح الشعبي، إنها لغة يحاول الشاعر تنقيتها وضغطها والتعامل معها بحذرٍ، وباقترابها من اللغة اليومية فهي تفقد شاعريتها ويتحول النص الشعري إلى كشف عادي لا اكتشاف دال وفعال.
ما ينبغي الالتفات نحوه أيضًا أنَّ كون الحبّ حدثًا عفويًا أو فطريًا لا يتحتم استسهال الكتابة عنه وتقديمه كموجزٍ إخباري فالعفوية ذاتها قيمة ورؤية فلسفية تتطلب حساسية فريدة و قراءة مركزة للمناخ الاجتماعي و الثقافي المحيط بها.
الشاعر العاشق حين يُحبّ مرجوٌ منه ومطالب دائمًا بأن يفحص الرؤية التي يفكّر من خلالها، ومطالبٌ بألا يثق باللّغة الّتي يكتب بها.