-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

التخييل بالثقافة في الرواية! محمد جليد

 


ما التصور الذي يحكم توظيف الثقافة، بأبعادها المختلفة، في الكتابة الروائية؟ وهل ثمة اختلاف، من حيث هذا التوظيف، بين تجارب الأجيال السابقة وتجارب الحساسيات الجديدة؟ وكيف يحضر التاريخ والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا واللغة وغيرها في الكتابة الروائية الحديثة؟ تمثل الإجابة عن هذه الأسئلة، من خلال روايتي «لا تنس ما تقول» للروائي المغربي شعيب حليفي و»الأحقافي الأخير» للروائي العماني محمد الشحري، مدخلا أوليا لفهم العلاقة بين الرواية ومحيطها الثقافي العام.


منذ مدة، أخذت الرواية تعزز سلطتها الإبداعية بروافد غير التخييل، وتبني كتابتها ومعمارها النصي بلبنات خطابية مغايرة كانت، على العموم وإلى وقت قريب، غريبة عن الخطاب الروائي، أو محدودة التوظيف على الأقل. ليس القصد هنا استفادتها من الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، كالشعر والمسرح والسينما وغيرها، أو الأجناس التعبيرية الأخرى كالصحافة مثلا، وإنما انفتاحها على مختلف الحقول المعرفية والعلمية، كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا والعلوم الدقيقة، والنهل منها لتعزيز أنساقها وفضاءاتها السردية وتمتين بنائها اللغوي والخطابي وترصيص هويتها الفنية والجمالية.. ومن أبرز التجارب الرائدة، على سبيل المثال لا الحصر، كتابات عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني. وفقا لهذا التصور، يمكن استقراء روايتين حديثتي العهد بالصدور؛ الأولى بعنوان «لا تنس ما تقول» للروائي والناقد المغربي شعيب حليفي، والثانية بعنوان «الأحقافي الأخير» للكاتب الروائي العماني محمد الشحري. تتمثل الرواية الأولى الفضاءَ الثقافي لمنطقة الشاوية المغربية، بما تحمله من تواريخ وحكايات وعوالم محبوكة بفتنة الأساطير والملاحم والخرافات، إلخ. وعلى النحو ذاته، تستلهم الرواية الثانية مدونات التاريخ والأنثروبولوجيا والأدب لتأسيس سرديتها وتخييلها.

في رواية شعيب حليفي، يستند تمثل الثقافة إلى أبعاد متعددة، البعض منها محلي، والآخر وطني أو كوني. تقوم المكونات الثقافية المحلية على توليف مختلف المقومات الإثنية والأنثروبولوجية والاجتماعية والتاريخية وغيرها، وهي لا تروم إبراز خصائص الانتماء والهوية في مدينة الصالحية، أو فضائها الموسع تامسنا، حسب، بل تسعى عن قصد إلى تمييزها عن مختلف الخصائص الهوياتية في المجتمع المغربي خاصة، أو العربي عامة، سواء من حيث توظيف عناصرها اللسانية واللغوية أو السلوك والطبائع الموروثة عبر القرون. في حين، يستند البعد الوطني والكوني على جعل إيمان الشخصية الرئيسية شمس الدين الغنامي – حتى بعض خلانه كجعفر المسناوي صاحب النزوع الثوري اليساري وسعيد الحربيلي الذي ينتمي إلى أزمنة كثيرة، كما يقول عنه السارد – إيمانا مركبا يأبى الانفصال عن الجذور، لكنه ينفتح على العالم، ويتصل به ويتواصل معه عبر بوابة الترجمة واللغات (الإنكليزية والإسبانية والبرتغالية) التي يتقنها.
من هنا، يمكن القول إن تمثل الثقافة يرتكز في الرواية على تشبيك الأنثروبولوجي والسوسيولوجي والتاريخي في هذا النسيج السردي الذي يتوخى الاحتفاء بالإنسان والمكان. يقف السارد، عبر الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، عند طبيعة البنية الاجتماعية، التي ما تزال ترتكز على النظام القبلي؛ ومن ثمة، عند طبيعة الذهنية المتحكمة في الفكر الفردي والجماعي لـ»أولاد بويا صالح» حسب تعبير السارد. وأهم عنصر في هذين البعدين هو حضور الروحي، في بعديه الديني والصوفي خصوصا، بوصفه إطارا روحيا محددا لبعض السلوكات والممارسات الفردية والجماعية، منها مثلا اختلاء البطل شمس الدين ووالده سليمان الغنامي في كهف مستور، بحثا عن لحظة صفاء، أو قرار البطل وأصدقائه بإعادة بناء ضريح بويا صالح. لكنه يقف – عبر البعدين ذاتيهما- عند بعض التحولات التي مست هذه الذهنية، نتيجة تأثر الأفراد بمظاهر العصر وعوامل الرأسمالية والتقنية، لعل أبرزها تجمعات المقاهي وما يتصل بها من ممارسات اجتماعية جديدة، منها أساسا ما يسميه السارد بـ»قتل الزمن». أما التاريخي، فيفتح بوابته على مدار زمني يمتد لعشرة قرون، مستعيدا أنفاس سبع رحلات لسلالة الحرابلة، كما يقول الكاتب والناقد المغربي محمد الهرادي. هنا، لا تقدم الروايةُ السرديةَ التاريخيةَ بحرفيتها المملة، وإنما تحفر في ما ضاع وخفي من وقائعها وحقائقها عبر استحضار الرواية الشفاهية، كما انتبه إلى ذلك الناقد والروائي السوري نبيل سليمان في مقالة نشرها مؤخرا. والرواية نفسها تفصح عن هذه الرغبة في تقويم التاريخ، وهي تقول على لسان إحدى شخصياتها: «لا أريد كتابة التاريخ لأني لست مؤرخا. التاريخ نهر من الزور ولن أغتسل بمياهه الآسنة». هكذا، تأتي الرغبة في تصحيح التاريخ محمولة على ظهر سُنُد مغايرة، حيث تعيد نسج الوقائع والحقائق على ضوء الذاكرة والرواية الشفاهية، والحكاية الخرافية وغيرها.
ولا تختلف الرواية الثانية «الأحقافي الأخير» لكاتبها محمد الشحري، جوهريا، عن الرواية الأولى. تبدأ الرواية بمحاولة العميد علي بن حميد بن راشد الآنفي التنقيب في سيرة نشوان الحمرمي، قصد فهم الالتباسات المحيطة بشخصيته. وكما جرت العادة في السرد البوليسي، يقود الساردُ القارئَ، عبر سلسلة من الحلقات الغامضة المؤلفة من وثائق وملفات وتسجيلات وتدوينات، إلى حدث تاريخي بارز شهدته البلاد قبل عقود من الزمن، كانت غايته تحرير الإنسان وتحقيق العدالة وطرد المحتلين الإيراني والبريطاني. هكذا، يجد القارئ نفسه أمام شخصيات أخرى يمتد وجودها وعلاقاتها في الداخل والخارج، حيث تبرز شخصية علي سعيد الأحقافي كفاعل رئيس في الأحداث، باعتباره رئيس الفرقة الثورية التي ستلقي القبض على بطل الرواية الطيار نشوان الحمرمي ذي الأصل الإيراني، الذي يبحث العميد في سيرته. من هنا، تتداخل الأحداث وتتشابك، ليكتشف العميد أنه ابن الأحقافي، المتمرد الذي قتل في جبهة القتال؛ وبذلك، يصل السارد بالقارئ إلى محطة الأحداث النهائية التي تقول بوحدة أصل ومصير الحاكم والمتمرد، الدولة والمجتمع، المركز والهامش. ما يلفت النظر في هذه الرواية، بصرف النظر عن ثيمتها السياسية الواضحة المتجلية في استعادة ثورة ظفار التي امتدت من سنة 1964 إلى سنة 1976، هو حضور البعد الثقافي، بتجلياته المختلفة، كمؤطر للتخييل وموجه له، وكذا توظيفه توظيفا مقصودا لإغناء الجانب المعرفي في الرواية، إذ يمكن أن يوسم هذا التوظيف بـ»التخييل بالثقافة» حيث تتمثل أبعاده الأساسية في ما يلي:
أولا، البعد الأنثروبولوجي، وهو يقوم على سعي الكاتب – الضمني أحيانا والصريح أحيانا ثانية – إلى إثارة إشكالات مرتبطة بالقبيلة، سواء في علاقتها بنظامها وتقاليدها وأعرافها الموروثة، أو في اتصالها بالبنية الاجتماعية والاقتصادية، إلخ. يتجلى هذا البعد أساسا في العنوان، حيث تحيل تسمية «الأحقاف» على مفهوم ذي حمولة دينية وتاريخية مكثفة، بما يمثله ذلك من ذاكرة مشحونة وتمثلات ذهنية تصوغ الذات الإنسانية بخصائص فريدة، كأن الهزيمة التي ألحقت بالأحقاف المعاصرة تمثل استعادة للأحقاف القديمة التي طمرتها عاصفة رملية. ويتخذ هذا البعد مظهرا مباشرا، كما في الصفحة 146، عندما يسائل الكاتب الجدوى من النظام القبلي والعشائري، كما يتمظهر سرديا عبر وصف مقومات الحياة الإنسانية والمجتمعية وتقاليد الأحقاف (الرعي، السكن في الكهوف، كرامة المرأة، عادات الأسر في الترحيب بالمرأة المطلقة، الامتناع عن ضرب المرأة، افتخار الذكور بالانتساب إلى الأمهات، التضامن، السكن الجماعي، الفخر بالعشيرة والقبيلة، الإباء والعزة، التعلق بالأسلحة…).

ثانيا، البعد التوثيقي التاريخي، وهو يتأسس على مصدرين أساسيين، تأتي في مقدمتهما الوثيقة التاريخية التي تساعد على إعادة بناء الأحداث التاريخية، أو اتخاذ موقف نقدي منها (الحرب، الثورة، الربيع العربي، الاستعمار الغربي، إلخ). ورغم أن السارد لا يكشف عن وثائقه الأساسية، ربما بسبب ما تمليه الكتابة الروائية من قواعد وضوابط ناظمة للسرد، إلا أنه لا يتوانى – كلما سنحت الفرصة – عن الإشارة إلى الأرشيف البريطاني المتاح في الجامعات، باعتباره مرجعا يسلط الضوء، في المقام الأول، على التدخل الغربي في شؤون الدول وتغيير مصير الشعوب والمجتمعات، ويفضح مدى الاستغلال الذي مارسته القوى الغربية للثروات الطبيعية والبشرية في المنطقة (في الحقيقة، يمثل هذا الجانب بعدا مستقلا بذاته يمكن دراسته انطلاقا من مقولات النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية). أما المصدر الثاني، فيتجلى في الرواية الشفاهية؛ أي في الذاكرة، التي تتناول الحرب، بوصفها الحدث الرئيس في الرواية، إذ يفعّلها السرد على لسان شخصيات متعددة، منها نشوان الحمرمي، سالم بن سلم (أبو الجبل أو البطل الأسطوري) والدة العميد الآنفي، إلخ.
ثالثا، البعد الأدبي، الذي يحتل مساحة مهمة في الرواية، وهو متعدد الجوانب، فيه ما هو أدبي، وما هو لغوي، وما هو فني. نصادف الجانب الأول ابتداء من الصفحة 18، حينما يشير السارد إلى مسألة اللغة العربية وأهميتها بالنسبة للناس، بعد أن سرت الإنكليزية في شرايين الدولة وعروق المجتمع، وإلى ضرورة خلق جائزة خاصة بها كإجراء للحد من الاحتجاج ضد تفضيل الإنكليزية عليها، باعتبارها لغة عالمية. ويتمثل الجانب الثاني في الفن، الذي يتجلى أساسا من خلال اهتمام نشوان الحمرمي بالرسم بالفحم. وتبقى الكتب الجانب الأبرز ضمن هذا البعد، حيث يصادف القارئ أول ذكر لها، من خلال الإشارة إلى مكتبة الحمرمي واهتمامه بجمع الكتب وحضوره المعارض، إلخ. ويورد السارد عناوين الكتب التالية التي تجمع بينها ثيمة السجن: «شرق المتوسط» «القوقعة» «تلك العتمة الباهرة» «تازمامارت» «يا صاحبي السجن» «شرف». ويمكن أن ندخل في هذا الباب إشارات إلى مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» وسيرة نشوان الحمرمي الموسومة بـ»الذات والذاكرة» وقصائد الشاعر البحريني قاسم حداد، وتسلي أبي الجبل بقراءة الجريدة (خاصة ملحقها الثقافي) وحديث بعض الشباب في المقهى عن برنامج «شاعر المليون» وباقي الجوائز الأدبية، واستضافة الشاعر سعد العراف للروائي خليل خليل من أجل تأليف رواية مادحة للحكومة، إلخ.
ختاما، هل نحن أمام تحول جديد يعي أهمية تكثيف الأبعاد الثقافية المختلفة في السرد الروائي؟ ليس الأمر كذلك. فعلى سبيل المثال، ظل توظيف التاريخ حاضرا بقوة في الرواية، بل كان معينها الأول، كما هو الشأن في أعمال جورجي زيدان. ولم تكن الرواية، في يوم ما، منفصلة عن محيطها الثقافي العام، أو عن الحقول المعرفية المختلفة، أو حتى عن هموم المجتمع. هكذا كان الأمر في روايات عبد الكريم غلاب والظاهر وطار ونجيب محفوظ وحنا مينة وغيرهم. لكنها آخذة اليوم في مساءلة روافدها الكبرى مساءلة نقدية صارمة لا تهادن الثابت، وفي تفكيك مضامينها الراسخة وهدم يقينياتها المطلقة، رغبة منها في بناء وعي جديد يعيد صوغ تصورات الكتابة والتخييل على أسس موسعة من جهة، وبلورة مشروع ثقافي يستشرف المستقبل من جهة ثانية.

كاتب مغربي

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا