هذا شاعرٌ يهوديٌّ غير صهيونيّ نستطيع أن نحبّه، بل أن نعشقه، وإنْ مَقتَهُ الصهاينة ونبذوه ونعتوه على مألوفهم بـ"كاره نفسه"، كأنّه ممنوع على أيّ يهوديّ أن ينطق بالحقّ والحقيقة، وأن يغلّب شعوره الإنسانيّ على ما عداه من مشاعر، كالتعصّب الدينيّ و"العرقيّ" و"القوميّ" المُخْتَلَق والزائف والمستند إلى الخرافة والوهم، فضلًا عن وضع الذات في خدمة الاستعمار الغربيّ، الأميركيّ والأوروبيّ. الإنسان وليس غيره والإنسانيّة ولا سواها، والحقّ والحقيقة، وإنْ "على قطع العنق"، كما يقال.هذا هو إيريش فْرِيد/ Erich Fried (1921 ـ 1988)، الشاعر والروائيّ الذي ولد في فيينا في عائلة يهودية، ومات والده أثناء تحقيق الغستابو معه، فهاجر إيريش في عمر السابعة عشرة إلى لندن التي مكث فيها سنوات طوالًا، مترجمًا شكسبير، وتي إس إليوت، وديلان توماس، وآخرين، إلى الألمانية، ومنضمًّا إلى القسم الألمانيّ في إذاعة "بي بي سي"، حيث دعم الشيوعيين المنشقِّين، وسياسة الانفراج الدولي التي تبنّاها كينيدي، قبل أن يعيد فْريد حساباته عقب حرب فييتنام التي خصّها بمجموعته الشعرية "وليكن... فييتنام... وليكن" عام 1965، وكل ما يتعلق بالسياسة الأميركيّة، متأثّرًا بالحركة الطالبيّة، وناحيًا منحىً متطرّفًا في نقده للإمبريالية الغربيّة. أنطولوجيّة "قصائد بلا حدود" تشهد على مناهضته أيْ شكل من أشكال الاستلاب والارتهان، معتمدًا نهجًا إنسانويًّا (Humanist) مغلَّفًا بنزعة طوباويّة وسخرِية حادّة.
إيريش فْريد من أشرس المدافعين عن القضيّة الفلسطينيّة والمناهضين لـ"إسرائيل" مناهضةً تامّة، رافضًا "خبث تحويل مسار الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين" وإقامة المستوطنات فيها، مطلقًا في قصيدته "إلى يهود فلسطين" (1949) صرخته المدويّة: "عمّا تبحثون هناك/ في فلسطين/ عن القتل؟/ عن نسيان جروحكم عبر جروح الآخرين؟/ عودوا الآن قبل فوات الأوان/ عودوا قبل أن تكتمل الفضيحة/ هناك ضحايا في الطرقات/ ستصرخ في وجوهكم يومًا". فهو لم يؤمن قطّ بـ"الكذبة الخرقاء"، بحسب تعبيره، التي تزعم حقّ اليهود في فلسطين، كما لم يسلّم يومًا بسياسة البحث عن مكان آمن لضحايا النازية، قائلًا: "لم يخترع الفلسطينيّ أفكار النازيّة الشريرة، ولم يشارك في قتل يهود أوروبا، فلماذا يُرغم على تحمّل وزر تلك الخطيئة؟!".