وجدانيات:
جهة الجنوب الحزين، أشقُ صدر الريح شمالا، أتبع بوصلة القلب حيث كيمياء الأرض وفيزياء الأرواح، الأرض اللتي أطعمتنا كل تفاعلات وتناقضات الكون. إلى الجدة (الخنساء) وذئب سنجار ممتداً بعويلهِ من (عين ديوار) وناعور والبحرة الخاتونية والقامشلي، مروراً بالمدن وانتهاءً بجرادق السُكارى، ومستمراً في التيه، يبحث عن رائحة المكان في حقائبه القديمة.
ماذا لو قلتُ كقارئ: أتعبتنا أيها الراوي، حتى ضاق النفس بغبار الجزيرة الذي غطى سماء الراين، وصبغ لونه بأحمر هدار وسم البدو وترف والآخرين من ضحاياك، حين خرجوا من فضاء الرواية إلى حيز واقعنا. يخيل لي أن هناك هوة بين الأسطورة والقصص البدوية الشعبية، حتى أثبتَّ عكس توقعاتي باستحضاركَ الأسطورة السورية بطريقة عجائبية مزجتها بالألوان البدوية، يحقُ لقارئ جيد أن يكتبَ أنها ملحمتك الشخصية وهي ملحمتهُ كشريك لك في المتعة، والتعرّف على تلك الأمكنة! ونحن نعبر إلى الشمال/ شمالك، سأخبرك: أن البحر لم يبتلع الغرقى، بل الحياة ملّت أجسادهم المخدرة، وخبزهم الكفيف لحظة الارتطام بالأحلام، وماذا لو قلت: أني شاهدت ألعاب أطفالهم الطافية على الموج وهم نائمون حيث تداخلت أحلامهم مع المياه الحزينة، وعزفت على ثقوب أجسادهم سمفونية الفوات. في سلالة العجاج والمجرّة البدوية تلمس رائحة الطليان، وحموضة الحليب والحدار المحمّل بالغنائم، وتربطُ ذلك بتلك الحضارات والأساطير، أنكيدو، جلجامش وليس بعيدا عن ميزوبوتاميا وقريبا من التراجي والزبون وهباري الـ(ترف) جميلة بنات البدو «يا يما بري مهيرتي/ أكبر وأنا خيالها/ واشري لها جلالنن حمر/ ومشنشلن ويبرالها». أصبحت من حيث لا أدري أحن أكثر إلى الجنوب، حيث أعيش فاجعة الشمال.
الموت:
عالج المطرود في رواية “سلالة العجاج” ثيمة الموت، فكان نشيجا حارا، ارتبط بذاكرة الجموع عبر القصص والأمثال المتوارثة، والنعوات: «ذيب الليالي يا مشوح/ غابت عليك الشمس روح»، و«دمع العين مدرار/على وليفن مؤنس الدار»، و«ياشايلين النعش/حبيبي نايم/بالله لا تفززونه»، و«نامي عليهم طبك يا كاع/ نامي على حلوين الطباع». ولانّ الذين يموتون يستحقون، جاء فقدان الأم في الرواية أشبه بترتيل ديني يصلح بأن يغنى في الأديرة، أو كما لو رقيم فخاري، خلدَ بكائية أحد الألهة.
الرواية مرآة دواخلنا:
المطرود هو امتداد لأرواحنا في مقاربة شخصية، ونحن نخبئ ذئبنا تحت جلودنا تارة، ونتركه ينطلق إلى الحكمة متى شاء تارة أخرى، وأكاد أراه يترجم ما بين أسطر الرواية في قصيدته لاحقا: «لا ثأر لي مع أحد/ أنهيت جميع معاركي في داخلي/ وماتت تحت جلدي شياطين الانتقام»، وهنا تضيع الذوات وتذوب الكينونة، فهل يتحدث عن نفسه أم الآخرين أم يقصدك أنت بلغتة الخاصة ـ الخاصة جدا ـ التي انكشفت على البلاغة والغموض والسمو. تلك الزفرات، الصرخات المكتومة والمخنوقة والمحفورة على صدورنا كندوب، كلما لمسناها أحسسنا بذاكرة الفجيعة وهول المآلات.
رسم الأبطال على الماء: ترف زينة البنات
«صرة الجلد الصغيرة مليئة بالنفل والمسك والمحلب والقرنفل، تتدلى من عنقها بين نهدين ككعبي غزالة جفل، بالهباري تتهادى على كتفيها، بالتراجي متهدلتين من أذنيها الصغيرتين على عنقها، بالتماعة المعدن الكريم الذهبية، بالدنين الخافت الذي يحدثه، بالثوب الطويل الموشىّ بخيوط لامعة في أذياله، بالزبون ذي الردنين الفصفاضتين، وهما يمنحان الغزالة غنجا مضاعفا» هي بتفاصيلها وجغرافيتها جسدها، رقتها، عذوبتها، ترى هل هي بلدنا مهدور دمها رغم عفتها!
هدار وسم البدو، فارس له من اسمه نصيب« كنت شجاعا أول الأمر- يعترف السيارة – وسفيرا للبدو وصرت في النهايات انعكاس روحك على صورة البلد، مدد، بدد، لا أب ولا ولد، ولا أحد، سوى ظل جثتك القليلة في الظهيرة، ينبش في جيب الميت عن مفقودات الحرب ورائحة المحاربين العائدين بأجساد أقل وأرواح أقل». يذهب بنا النص هنا إلى المماهاة بين السيرتين هدار والمطرود، في تناوب غرائبي على مستوى اللغة والشخصيات.
خبايا أم هنات؟
ثمة مشكلة مع الرقم أربعة، ففي «أسطورة ذاكرة النار» إذ اختفى اليوم الرابع للخلق، والأيام أضحت خمسا وعشرين ساعة، وعند فقدان أربعة شبان كانوا في الصورة مع المطرود، رسمهم كاتبنا اثنين إلى اليمين واثنين إلى اليسار، وكأن التواءات الرقم أربعة منفر لديه ويتحاشاه.
في«جزء مفقود من السيناريو»، هناك تقويل لروح الخشب، وصنع علاقة موطدة بالحبّ بين الأجيال، ربما لتتحول الأجيال إلى حرائق وأبواب وكمانات وناي وعصا راع أو خزانة تحتوي تاريخ البشرية الأسود، أو تاريخ البلد الذي تحول إلى تابوت كبير للأجساد والأحلام.
في «المدخل إلى السيرة الشخصية وأولى اللذات»، لغة عالية، لكنها فجأة تنحدر إلى براثن السياسة، إلى (سفاهة) حزب البعث العربي الاشتراكي والجبهة الوطنية، ولو كنت طيب النية تجاه هذا الانحدار سأرده إلى الفعل والرد من جنس الفعل، لأن الحديث عن السيئ سيتطلب أداة سيئة تتماشى معه.
قول أخير:
لا يهمني إلى أين تنتمي هذه الكتابة، لأنّه يصعب تجنيسها، فهي سيرة مواربة ومقارنة ومخاتلة وهي رواية ثأر ورثاء، وهي رواية قلق وانكسار وأمل، وهي أيضا سيرة أحلام وملحمة أسطورية، وفانتازيا وغرائبية، وفي الوقت ذاته هي قطعة شعرية نثرية طويلة، مزجت الواقعي بالمتخيل والعجائبي، وأعطت مقولة فلسفية. ما يهمني كقارئ رواية بشكل خاص، أنّ محمد المطرود، بمقترحه الجريء تحكم بكلّ ما سبق وأنتج خلطته الخاصة، ولعلها مسار جديد وفتح باباً لرواية عربية جديدة. وهمسة في أذن الراوي: سأجعل بيني وبينك خطوات كثيرة، لئلّا أدوس ظلك.
كاتب سوري