فأعرف منها الودّ من لين طرفها
وأعرف منها الهجر
بالنظر الشزر
مجنون ليلى
عمق
حينما يصبحُ
الزّمنُ ليلاً لا يعقبُه إلا ليْلُ
يرشُقُ
أصواتَ الأبيضِ بالعُقمِ،
ويصبحُ
متوالياتِ سوادٍ تلفظُها طاحونةُ المعاركْ
يكتبُ التّوجّسُ
بشموخِ القناديلِ
على ما
تفحّمَ من أوراقِ تاريخِها
تأملاتِه
لما قدْ تحبِلُ بهِ الغريبَةُ
خلفَ أسيجةِ
الجمارك،
حينما يُتعب
العينينِ بهتانُ الرُّؤيةِ
فُسلمانِ
عنانَ حصانِهما المتمنّعِ للحسِّ
فيصبحُ
الأنفُ محجراً
والرّجلُ حدَقَة
واليدُ قَرَنية
وتمسي
خميرةُ الحدْسِ أقماراً لا تخون...
حينئذٍ،
تمسي حاضنةُ الشّوقِ ساعةً بيولوجية
تفلُّ غدرَ المسافة الكريهة،
فيقمعُ الولَعُ
خنجرَ العقربين
إذْ تتوّجُ
ساطورَ البديهة...
زرقة
هذا النّبعُ
الذي تؤثّثُه الأحجارُ الكريمةُ
يسقي
الخزامى والحساسينَ
مثلما يرشُقُ
الرّغباتِ بما تناثرَ من إبريز الشّمسِ،
بعجينِ
الوردِ يدلِّكُ ندوبَ الوجْدِ
على مهَلٍ...
يذهنُ حشرجاتِ فراشاتِهِ في ذروة الخبلِ،
يهدهدُ
فضولَ طفولةٍ تفيضُ
على وسادتها
مثل جداولِ الفجرِ
تشاكسُ
أمواجَ البحرِ في لوحةٍ مفتوحةٍ على المدى،
ويغسلُ
قلوبَ المحبين من غمامِ فصلٍ خامسٍ
ينتهبُ
حصادَ الفصول الأربعة،
يشيرُ
سريعاً بأصبعِه لكتابْ
ثمّ يتبعُه
مركَبٌ ورقيٌّ
إلى جُزرٍ
تحتفي برشاقتِه في أعالي المحيط.
يَهَبُ
السّماءَ صفاءَها
كي ترى
العينُ الزّرقاءْ
للغابةِ
جزماتٍ تزحَفُ بعيداً
عن الأفُقِ المتردّدِ
خلفَ سجوفِ السّرابْ.
ما جدوى أن
تُقْسِمَ باللّؤلؤ في أعماقها
يتراقصُ ولا
يتركُ للدّيدبانِ آثارَ هسيس،
أو تُقْسِمَ
بالجداولِ الرّشيقة
بين الخمائل
والجبالِ
تعلّقُها
الأشعّة تعويذَةً للشّوق.
يا أمّةً
تغتالُ الشّعراء وتكفُر بالأنبياء
وتجتثّ
أوصالَها هانئة
تماماً كما
قد طرّز غفلَتَها الباغونْ؟
من تراهُ
يصدّقُ
أن القيامةَ
تزحَفُ
حاملةً
تحتَ أوراقِ
صفصافِها الخضراءْ
أطنانَ
المحقِ وكثبانَ الطّاعونْ...
شرود
كان لها
جناحانِ ملوّنانِ
يرتجلانِ الفرحَ المكابرَ
بغيومٍ تلثمُ ناصيةَ الفرسِ النّافرة،
ونجومٍ
تغمزُ كلّ متيّمةٍ ساهرة
في موسم
أدمى تراتيلَ الشّغافِ،
لكنّ ريشَهُما
قد خانَهُما
بعْدَ
تحليقتِها الثّالثة،
فهامتْ على
وجهِها
تزحفُ في
الطّرقاتِ المكتظّةِ بالأشباحْ،
أو في
الحقولِ الفارغة
إلا من
صفيرِ الرّيحِ
في الشّقوقِ
الجائعة،
وتَأَهُّبِ
الطّيورِ المغيرةِ للقطافِ...
افتراس
ـ للغابة
منطقُها...
هل أخطأهُ
المدُّ الدّامي؟
ـ كيمياءُ
الرهبةِ فزّاعةٌ
يتفاقمُ
زئبقُها المعدي
كهرباءَ
ترتجلُ البطشَ غيرَ قانعةٍ بالأقاصي،
تفتكُ
بالفرحةِ في فجرِ ميلادِها
وتسلخُ جلدَ
اللّذّةِ حيّةً على سريرِها
فترفس
بهجتَها ثمّ تفلقُها:
ـ نصفاً
لمراقي المنارةِ
ـ ونصفاً
لفقسِ المعاصي.
يا هذا
الأخضر القاسي
هل كان من
اللازم أن تناسخ عين الفهدِ،
كي تتفتّتَ
تحت مخالبك
نمنماتُ
البهاءْ
وتشعشعَ
أشواكُ
الحقدِ في الزمن الوغدِ...
قصف
بوصلةٌ
يعبثُ الصّرعُ بعقاربها،
قفَصٌ
سقْفُهُ منارةٌ خرْقاء:
فاسقَةٌ هذه
العينُ،
ما أشرسَها
سيفاً
مشحوذاً بالمكرِ،
تتعكّزُ
على الكلمة
اليابسة تارةً
وتارةً
تتوكّأ على ضوضاء الجمرِ،
قبل أن تخرج
من محجرها الصّفيقِ مشتعلة،
وتقصف أهدافَها تتفصّدُ منهارةً
بكلّ
رصاصةٍ ملفوفةٍ
بحرير
الغدرِ خمساً تصلّي،
ولا ترحمُ
الزّرعَ والضّرعَ
والرّبواتِ
الخضيلة
تحرثُها
حُمَم المهزلة...
غمزة
نحلةٌ تسمعُ
وشوشاتِ الرّبيع
في مسامّ
الحصى
وتنقل لقاحَ
الرّوحِ من شفةٍ لحلمهْ
على رموشِ العَبَقِ،
سلحفاةٌ
تتسكّعُ بكعبها العالي
في براري
المكابدة،
وتحيّي
الماعزةَ المنذورةَ لأعراسِ الدّالية،
طعمُ صنّارة
لا تبالي بالحصاد،
أنشوطةٌ
لغزالة قد تسحَقُها أخفافُ الفِيَلَة،
كمينٌ لأرنب
تمخّض فولَدَ ذئبا،
طلقةٌ لا
تزعمُ العصمةَ
تحتملُ الإصابة
كما تحتملُ
الخسارة،
دعوةٌ
للتواطؤ على سفَرٍ غيرِ متوقّع،
عينٌ تراودُ
نبضاً يطاردُ البركانْ،
تلكَ حالُ
غمزةٍ لا تكونُ إلا سباحةً
في نهرٍ وسْنانٍ معرّضٍ لاحتمال الفيضان.
إغماضة
قد ينزلُ
إلى دهليزِ الغفلةِ
وقد يعتلي
أبراجَ الحذَرِ،
هذا هو
السّرٌّ الذي
يسترُ
دمعَهُ المذرارْ
بين
ثنايا غِمدِهِ،
ويخفي وجهَهُ المرتابْ
في
صفحاتِ وجدِهِ،
ثمّ يشيرُ
إلى رموزِه الممحوّةِ بالسّبابة،
لكنّ
الشاهدَ على أحوالِه
تعثّرَ
اضطراباً في حيرتِه:
هل سافرَ في
الحلْم اختياراً
أم سافرَ
غصْباً في الغيابْ...؟
خضرة
كانتْ سماءً
صافيةً،
حينما
تكفهرُّ أماسيها،
تجلسُ
القرفصاءَ على قُنّةِ الجبلِ،
لا تكون
سحائبُها إلا مرآةً للبحرِ
أو نافذةً مشرعةً
على الأملِ
المتوهّجِ نايُهُ في الآفاق.
لكنّها ذاتَ
ليلةٍ مقمِرةٍ
تعتّقَ في العينِ موّالُها الحارُّ
أشعلَهُ
سفرٌ في جنونِ المحالْ،
وتعتّقتِ
الشّهوةُ
دغدغَها في
العراءِ المعطّرِ ملحُ مواجدِها
تغلي في
براميلِ الشّغبِ،
اِخضرّتْ أكمامُ القمرِ،
واخضرّتْ رطوبةُ الرّمالِ
كأوراق
الحبقِ،
وصارتِ
السّحُبُ خضراءْ
والزّمنُ
أخضرْ،
فما كان على السّماءِ
الصّافية
كقلبِ الأمّ
إلا أنْ ترضخَ
للحتميّ
الصّاخبِ في الصّلصالْ،
ثمّ ترفعَ
عالياً
أعلامَ
غوايتِها الحمراءْ...
غوص
تصوغان
بالرّموش ما لا تصوغُه الرّيشة،
يحفُرُ
الحدْسُ في أدغالهما
أنهاراً
عموديّةً تسبحُ
في
مجازاتِها كلُّ اللّغاتِ الوارفة،
تغوصُ عميقاً
تتوحّدُ بالدرّ
واللؤلؤ والمرجان
تحاورُ
القرشَ والدّلفينَ والأشجارَ والأزهار،
تحاورُ همسَ
الجداولِ وثرثرة السّيول
مثلما تحاورُ
حِكمة النّسمةِ وحماقاتِ العاصفة...
هما عيناها الشاعرتان
إذن
متثاقلتين تتوضّآن
بالعطرِ خاشعتين
تتحسّسان
رعشَ القوافي،
لا تستسيغان
من ثمارها اللّذيذة
لما تُشعُّ
صبواتُها بالقداسةِ
إلا ما تقطفانه
من الأغصانِ البعيدةِ البعيدة
لأنهما تزهدان
مثل حلمِهما
في الرّحلات
الخاطفة...
سبع عيون
سبعُ عيونٍ
تناسخَتْ في المكْرِ،
كلُّ واحدةٍ
منها
ظلّتْ
تراقبُ الأخرياتِ عابسة،
تُحصي
أنفاسَها في اللّيلِ والنّهارْ،
تزرعُ
الشّوكَ في العَتَبَاتِ الورديّة
تحاصرُ
سِبَاعَ الشّهوةِ الحرون
تلهَبُ
الشّعاعَ والنّسمةَ والغمامة،
وتزرعُ
الطّريقَ بالألغام...
سبعُ عيونٍ
مسكونةٍ بدُمّلِ الكرَبِ
تتلاطمُها أمواجُ الغروبِ الحمْراءْ
تطمِسُ الأخضَرَ النّدِيّ
في الرّبواتِ يُزهرُ،
لم تتركْ مجرّةً يانعةً لأجملِ العيون
تَبْرَأُ في
الفيافي الظّامئاتِ
من علّةِ
الصّمتِ المحنّطِ في ناووسِ الذّهبِ،
فتُنادمَ
أحلامَها الطّافحاتِ وتنفجرُ...
أربع عيون
عندما يضيقُ
صدرانِ صبْراً
وتراقبُ
كلُّ عينينِ
اختلاجاتِ
رموشِ الأخريَيْنِ،
عندما يلفُّ
كلَّ العيونِ ضبابٌ مرٌّ
كدخانِ
العَجَلاتِ المطّاطيةِ المحترقَة،
عندما
تَستنفِدُ أربعُ عيونٍ
كلَّ ما في
الرّبع من غمزٍ ولمزٍ
وتأتي على
ما تكدّسَ في الخزائنِ
من
كلامٍ مكويّ
وحركاتٍ
هادئةٍ مختَلَقَة،
لا تملكُ
النّظراتُ الشّزراءُ
إلا
أنْ تستنجِدَ
بحفرياتِ
الذّاكرة،
تعدُّ ما
تبقّى في الرّفوفِ المغبرّةِ
من عُملةٍ
مهترئة،
قبل أن
تلوكَ للمرّة السّتّين
مِزَقَ
قِصصٍ
ظلّتْ
تُلاكُ بدون طعمٍ،
ثم تفتحُ
ثلاثةَ أبوابٍ:
باباً للنّقيقِ
قُبالةَ
بابٍ آخرَ للمحْوِ،
وثالثاً
للرّيحِ
يمهّدُ الطّريقَ الوعْرَ
لطوابيرِ
الزّوابعِ والعاصفة...
عين ثالثة
باحثةً عن
عشبةٍ يمقتُها الثّعبانْ...
لم تكنْ
يوماً معنيّةً بأجنحَةِ الملائكَة،
لكنّها
ظلّتْ تتجنّبُ حدائقَ الشّيطان...
أحياناً قد
تُسوّلُ لها نفسُها
أن تتقمّصَ
خِفّةَ البهْلوانْ
بين
النّقيضينِ محتشداً بالنّبوءةِ
يمشي على
حبْلٍ مندَهِشٍ،
يتحسّسُ
تعويذةً في الفؤادِ
تخافُ على
عرصاتِ اخْضرارِهِ من طعَناتِ الانكسارْ،
فيسمَعُ
صوتَ الغَمامةِ
مرتجفاً في سكينتِهِ:
إنّ رحلتَكَ
المستخفّةَ بالليلِ
في منتصف
الويلِ كاويةٌ كاوية
والتّخاذُلَ
في الغزَوَاتِ انتحارْ،
منبوذٌ كلّ
دوْرقٍ لا يعمّدُ النّبيذُ أسماءَهُ،
فهو ليسَ
سوى طينٍ مشويٍّ بالفراغْ
يتآكلُ ماضيَهُ الزّرنيخ،
كأسَكَ كأسَكَ يأيُّها الولدُ الفذُّ
إنّ نجومَهُ جسرُكَ للأملِ المتجاسِرِ،
في فلواتِ الخديعةِ كِلْمَةُ سرٍّ تعيدُكَ للواحَةِ الباقية،
فشُدَّ على الكأسِ مملوءةً في يمينِكَ،
شُدَّ على الحرْفِ منتشياً في حدائقها في الشّمالِ،
لئلا تجرّدَ هبّةُ نسْمٍ لَعوبٍ
هزاراً تَسَامقَ من ريشِهِ السّندُسِيِّ،
فيغدو الهوى الغَجَري
لكنّ العينَ
الثّالثة
اختارتْ
عشَّ الهدهدِ في الدّوحةِ السّامقة
يدعو للأيْل
بحسنِ المآلْ
فيما يلاطفُ
ذئباً بدا يترصّدُ إيقاعَ
أعيادِهِ،
غير أنّهُ
في اللّحظةِ الفاصلة:
أغلقَ
بسبعةِ أقفالٍ على السّيفِ
الموَشّى
بعبوديّةِ
اللّصِّ والنّذْلِ المتخاذلِ في قُمقمهْ،
وطوّحَ
بالمفاتيحِ بعيداً في البحرِ
ثمّ جرّدَ
الحكمةَ تمرُقُ من غمدِها
حورياتُ
محيطاتِها تتدافعُ أنجمُها
الخارقة...
أتلانتا،
خريف 2013