في تصريحاته
للصحافة وأمام نواب البرلمان، والتي برّر فيها منع فيلم سينمائي ومهاجمة قناة
تلفزية بسبب نقلها لسهرة فنية، أعلن السيد وزير الاتصال بأنه فعل ذلك من منطلق
"غيرة وطنية" لحماية "أخلاق المغاربة"، وهو ما يضع المغاربة
في وضعية القاصرين الذين لا يتحملون مسؤولية اختياراتهم، ويجعل الوزير وجماعته
أوصياء على الكلّ، وفي هذا وجب التوضيح رفعا للبس وتذكيرا للمسؤولين بواجباتهم
الحقيقة.
يُفهم من كلام
وزير الاتصال أنه يقول لمئات آلاف المغاربة أن ما يشاهدونه "قبيح"
و"غير أخلاقي"، وأن عليهم الاكتفاء بمشاهدة ما يختاره لهم الوزير ومن
معه، باعتبارهم من أوتوا القدرة على التمييز بين الخير والشرّ.
يُفهم من كلام الوزير
أيضا أنّ "أخلاق المغاربة" هي الأخلاق كما يراها هو وجماعته، والتي تجعل
من لباس مغنية "فضيحة"، ومن فيلم سينمائي "مؤامرة"، والحقيقة
التي يخفيها الوزير بكلامه الماحق هي أنّ أخلاق المغاربة ليست على نمط واحد، ولا
تتبع لمنظومة قيمية متجانسة ونمطية، بل يعيش المغاربة ويتعايشون في ظل أنماط حياة
متعددة ومختلفة، بعد عقود من التحولات العميقة التي عرفها المجتمع المغربي، بعضها
ظاهر جليّ، وبعضها يختمر وراء مظاهر الواقع الخارجي، وهي أنماط حياة تتراوح بين
العصرانية والتقليدانية بدرجات متفاوتة، وهذا ما يفسر أن ما يزعج الوزير يلقى
ترحابا لدى آخرين، وما يرتاح إليه الوزير لا يأبه به غيره، وبهذا الصدد سيكون
مفيدا مساءلة الوزير في بعض الجزئيات:
ـ أن السهرة التي
نقلتها "دوزيم" لم تقع خارج الوطن، بل بعاصمة المغرب، وقد حجّ إليها
عشرات آلاف المغاربة من حاملي الجنسية المغربية ـ منهم من جاء من مدن بعيدة ـ
ليغنوا ويرقصوا ويشاهدوا ما يعتبره الوزير "فاحشة" و"خدشا
للحياء"، ودون أن يعتبروا ذلك أمرا سيئا. وهو ما يعني بدليل قاطع نسبية
الأخلاق التي يراها الوزير منظومة مطلقة وثابتة.
ـ أن هذا الإقبال
الجماهيري الكبير لم يتم بالإكراه ولا بحشد الناس رغما عن إرادتهم، ما يعني أن
مئات آلاف أخرى من المغاربة المتواجدين في مناطق نائية، والذين يجدون أنفسهم في
هذا النوع من الفن، من حقهم مشاهدة هذه التظاهرة عبر التلفزيون إن هم أرادوا ذلك،
ما يبرّر نقلها كما تنقل مختلف التظاهرات الأخرى التي تهم الجمهور. مع تسليمنا
وإقرارنا التام بوجود مغاربة آخرين لا يرتاحون للمهرجانات ولا يحبون الفنون ولا
يرقصون ولا يطربون ولا يغنون وليسوا ملزمين بمشاهدة هذه القناة أو تلك في لحظة نقل
السهرات الفنية (خاصة مع وجود قنوات متعددة منها قنوات دينية محضة موجهة خصيصا
للمحافظين) كما أن غيرهم يولي وجهه شطر قنوات أخرى عندما تبث التلفزة المسلسلات "العفيفة"
التي يصعب مشاهدتها بدون الشعور بالملل. يعلم الجميع أن هذه هي الحقيقة، وأن هذا
هو واقع المغاربة، لكن الوزير اختار أن يسبغ عليه بعض الرتوشات التي تتماشى مع
هواه، ومع إيديولوجيا الجماعة الدينية التي ينتمي إليها.
ـ أن المغاربة
قاطبة يؤدون ضرائبهم للدولة وينتظرون خدمات الإعلام العمومي بمختلف مللهم ونحلهم
السياسية والثقافية وبكلّ توجهاتهم وأذواقهم الفنية والأدبية، وبجميع ألسنهم
وألوانهم ومعتقداتهم، ولا نفهم كيف يميل الوزير إلى إرضاء المحافظين وحدهم وجعل
الإعلام العمومي يتكيف مع ذوقهم الخاص ومع فهمهم للأشياء، وبالمقابل التعامل
بالتجاهل التام مع بقية المغاربة الخارجين عن ضوابط وزير الاتصال وجماعته.
خلاصة القول أن
موقف الوزير موقف لا مسؤول، لأن مهمته هي النهوض بالإعلام العمومي وبالإنتاج
السمعي ـ البصري في بلادنا وتحريره، وليس بإعلان الرقابة البوليسية على أهله وعلى
أذواق الجمهور، فالمغاربة مختلفون، وذلك من مظاهر غناهم الرمزي وثرائهم المعنوي، واختلافهم
لا يعني أنهم لا يتعايشون في ظلّ الدولة التي عليها حمايتهم وضمان حقوقهم جميعا
بدون استثناء، ما دام العيش المشترك لا يعني أن يكون الناس على شاكلة واحدة، بل
فقط أن يحترموا بعضهم بعضا، وهو الدرس الذي لم يستطع الوزير تعلمه بعدُ.
وإذا كان الوزير
قد فشل في مهمته التي حدّدها لنفسه بعد توليه منصبه قبل سنوات، والتي هي تحرير
الإعلام من لوبيات الفساد وعقلنته والحرص على تطبيق دفاتر التحملات التي لا تطبق،
فليس عليه أن يستغفلنا بالتغطية عن عجزه بإعطاء الدروس الأخلاقية التي لا ينتظرها
منه أحد، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمجال الفني.
أما بخصوص فيلم
نبيل عيوش فلا نقاش في أنّ الوزير قد أخطأ بمنعه، لأنه ضيّع علينا فرصة أن نرى
تقييم الجمهور له بعد مشاهدته داخل القاعات، عوض ترويج صور عارية لا معنى لها
مفصولة عن سياقها الدرامي، كما ضيّع الوزير على نفسه متعة أن يرى الناس وهم
يقاطعون شبابيك التذاكر معلنين استنكارهم للفيلم وسخطهم على صاحبه، مما سيعدّ
انتصارا حقيقيا للوزير وجماعته، وبشكل ديمقراطي لا غبار عليه، أما وقد اختار المنع والحظر ـ الذي هو سلاح الضعفاء ـ فقد برهن على شيء
واحد هو الخوف من الواقع، الذي يدلّ بالملموس على أن أخلاق المغاربة ليست بالضرورة
هي أخلاق الوزير.