" ماهية العدمية ليست عدمية "
هايدجر
اعتاد العديد من المناضلين و المناضلات
– لا أشك في طويتهم السياسية و لا الأخلاقية – أن يعتبروا " العدمي " لا
قيمة له لا سياسيا من حيث تقديره السلبي
للظرفية السياسية و لا أخلاقيا من حيث حكمه
الرافض للقيم السائدة . وابتلوا بوصفه بالسذاجة و المرض الطفولي ...
العدمي في المغرب هو ذلك الضعيف الذي لا
يستطيع مواجهة الآلة السياسية والإدارية الرسمية
و ذلك الذي يطاله القمع و المنع و لا يقدر على الدخول بله مجاراة اللعبة السياسية
أو ذلك الساذج الذي يعتبر الرفض مبدأ كفاية ..
عادة الأحزاب السياسية الضعيفة في المغرب
هي التي تدعو إلى الرفض و المقاطعة و عادة التنظيمات السرية أو شبه السرية هي التي
تكون عدمية ناهيك عن العديد من المراهقين
و المتطفلين السياسيين الذين يرتاحون في مبدأ المقاطعة و الرفض و يعتبرونه مبدأ تقدميا
نضاليا .
العدمية حسب هذه الدوكسا هي النكران و الرفض
و المقاطعة و الشجب و التنديد ...
في الحقيقة العدمية ليست هي رفض الانتخابات
و لا هي الهروب من الواجبات ولا هي مرض طفولي ولا سذاجة لم تنضج و لاهي ضعف و لا هم
يحزنون . أو هذا هو الاستعمال السائد و السطحي
للمفهوم .
أما
المفهوم الفلسفي فيعتبر العدمية موقفا فلسفيا
من الوجود نعثر عليه لدى جورجياس وهو موقف شكي من وجود الأشياء : لا شيء موجود .
وإذا وجد لا أحد يستطيع معرفته و لا إدراكه . وإذا تم إدراكه ومعرفته بشكل ما لا أحد
يمكن نقله و لا الإخبار عنه .
بالنسبة لنيتشه الوجود و منه الواقع و الحياة يتكون من
قوى حيوية وأخرى خمولية . الأولى إيجابية تأكيدية و الثانية سلبية نافية
. من هنا فالوجود عامة والمجتمع خاصة يتكون من إرادة القوة الإيجابية و من القوى الإرتكاسية
الواهنة المريضة . صراع هذه القوى وجدلها هو الذي يمنح للعدمية قوتين واحدة إيجابية
والأخرى سلبية . العدمية إذن لدى نيتشه على ضربين . عدمية خنوعة ترفض الوجود لا لأنه
غير موجود وإنما لأنه فاسد مدنس و ما هو إلا
سيمولاكر للوجود الأصل ( المثال ) و ترفض الجسد لا لأنه من طين فقط و إنما لأنه فان
غير خالد كالروح و ترهنه بخلود في عالم آخر
. أما العدمية الإيجابية فهي تلك التي ترفض كل القيم الفاسدة لأنها متجاوزة و تنفي كل الأوهام
التي لا أساس لها من الصدق في الواقع
. العدمية الأولى عدمية تنتصر لقوة الارتداد و الارتكاس وأصحابها أصحاب غل و روح انتقام
و تماسيح وشياطين أما الثانية فهي عدمية بطولية تنتصر للتقدم والتطور و المروءة وأصحابها
أصحاب المرح الديونيزوسي المحطم للقيم المهترئة .
العدمية في نظر هايدجر هي النتيجة الحتمية
لحركة فكرية طويلة و بطيئة أدت إلى " نسيان الوجود " و هذا الأخير معناه
أن الوجود يختبئ و ينحشر في أثلام العدم و لا يرى النور إلا في شكل
الموجودات بعد أن كان وجودا ماهويا . لهذا
كانت العدمية من مجال العدم الذي يحاول دوما
تعديم الوجود . وبما أنه لا يمكن تجاوز العدمية
ينصح هاديجر بالدخول فيها و الاستقرار في أحشائها
لأن رفضها معناه صعوبة تصور العدم بله استحالته
. وحلها يوجد طيها لأن ماهيتها ليست عدمية .
قد لا نكون في حاجة ماسة إلى التذكير بهذه
الأطاريح الفلسفية من العدمية . إلا أننا في حاجة خاصة إلى تدقيق المصطلح وتدقيق تداوله
أخلاقيا و سياسيا :
فحين
تعتبر العدمية نداء إنسانيا في وجه الصمت المطبق
للعالم أو للجبار أو للمسؤول و تعتبر مرتكزا مكينا حين يكون العالم خال من المعنى قريب
من العبث و تعتبر حداثة حين يكون فكر أمة بكاملها واهنا مريضا كسيحا (فاتيمو ) و تعتبر
نقدا لاذعا للحنين للماضي وكذا لتأنيب الضمير من الآتي حين تكون النوستالجيا مطمح أمة
وأزمة الضمير مسلكها ، آنذاك تعتبر العدمية فلسفة
...... يحبذ التهليل لها وإشهارها بقوة .