عن موقع ثقافات
الشعر وحده استطاع أن يهزم السياسة التي تقتل بلا
هوادة. لأن الشعر شمس المحبّة والسياسة غروبها. ففي الحبّ نور وفي السياسة ظلام. والنّور
يحضر في الشعر مزداناً
بالمحبّة والصداقة. وفي السياسة تتّسع هوة البغضاء والكراهية
دون أن تترك متّسعاً لحبّ الحياة، والحب دِينُ الشعراء بينما السياسة إيديولوجيا. والإيديولوجيا
تقتل الشعر الذي هو رسالة إنسانية. وحينما يأذن السياسي بالقتل يتألّم الشاعر من هول
الخسارة. لذلك تُعرف دولٌ بشعرائها أكثر ممّا تُعرف بساساتها لأن السياسة مرحلة والشعر
زمنٌ لانهائي. والشعر جنون وقلب ناضج بالحب الأزلي الضارب في أعماق التاريخ والقادم
من المستقبل المجهول ليردد أنشودة الحياة.
إن الشعر شيء وقراءته شيء آخر. فأشهر الشعراء العرب
اتُّهموا بالإلحاد والتكفير وكان لهم تأثير كبير في الثقافة العربية. فقد كان أبو العلاء
المعري نبي الحكمة والشعر. ورحلته المتخيلة في العالم الآخر في رسالة الغفران تبوأت
مكانة كبيرة في تاريخ الفكر العربي. وخير شاهد على عظمة شعرية فكره وفلسفته التي لم
يستوعبها الكثير مِمَّن رمَوه بالإلحاد والتكفير، كما لم يستوعبوا حقيقة خياله المدهش
الذي صعد إلى السماء واطلع على الجنة وعلى النار ليعود إلى الفردوس ونعيمها من خلال
رحلة ابن القارح التي تخيلها المعري، وقد استفاد في كل ذلك من أدب الإسراء والمعراج
ومصادر القرآن الكريم ومصادر الفلسفة والفكر والأدب. فكان هذا العمل من أشهر الأعمال
الإنسانية الكبرى.
وما أحوجنا اليوم إلى شعر جبران وتعاليمه الإنسانية
الكونية. يقول في كتابه دمعة وابتسامة: "أنت أخي، وأنا أحبّك، أحبّك ساجدًا في
جامعك، وراكعًا في هيكلك، ومصليًا في كنيستك، فأنت وأنا دين واحد هو الروح. وزعماء
فروع هذا الدِّين أصابع ملتصقة في يد الألوهية المشيرة إلى كمال النفس". هذه هي
لغة الشعر النُّورانية. والشعر وحده استطاع أن ينقل الشعوب المتعطّشة للحرية من الحذر
إلى الجرأة والكلام، بالرغم من تصاعد موجات التهديد والتكفير بل والإعدام في حقّ الشعراء.
أولم يبد العديد من هؤلاء الشعراء الكبار تخوفهم
من استخدام الدين سياسياً. والآن ألم يقتحم فعلاً هذا التيار الأصولي الشعر ولإبداع؟
ألم تصطدم القصيدة العربية في الوقت الراهن بهيمنة المقدّس ومصادرة المؤسّسات الدينية
؟ ألم نعد نحاكم الشعراء بالعودة إلى ثوابت الدين والنص القرآني؟ هذه الأسئلة ستجرّنا
إلى أسئلة الثقافة العربية عبر مسارها التاريخي، ويذكّرني هذا بطه حسين في كتابه
"في الأدب الجاهلي" حينما رأى ضرورة الفصل بين العقيدة والشعر، بعد أن لاحظ
أن درس الأدب لم يتقدّم في مدارس الحكومة، كما انحطّ هذا الدرس في الأزهر في حين ارتقت
كل العلوم وتقدّمت باستثناء الأدب العربي. وكان هذا سبب ثورته على مناهج التدريس وبناء
المجتمع التقليدي داعياً إلى الخروج من هيمنة المقدس. وكم نحن بحاجة في زمننا إلى أمثال
طه حسين وإلى منهج يحرّرنا من ثقافة الماضي وثقافة التقليد والموروث والمقدّس لمسايرة
فضاء الحداثة. يبدو أننا نبتعد أكثر وأكثر عن هذا الفضاء حينما نحاكم الشعر بثوابت
الدين. الشعر موطن رحبٌ للجميع لأنه يسعى إلى خدمة الإنسان والجوهر الإنساني موجود
في كل الثقافات والأديان.
كان السياب يرى بأن الشاعر يجب أن يكون نبياً وصاحب
رؤيا. ويقول عنه يوسف الخال في تقديمه لكتاب عيسى بلاطة بدر شاكر السيّاب حياته وشعره..."
لو أردُت أن أتمثل الشاعر الحديث٬ لما وجدُت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت
في ذهني للقديس يوحنا٬ وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم
كأنها أخطبوط هائل". ولشعراء الحداثة نبرة من القداسة والنبوّة. وما توظيف السياب
للرموز والأساطير إلا لأنها تحمل هذه النظرة الدينية إلى الحياة والكون لأنها تقديس
للطبيعة. والأسطورة حسب أرسطو رأس الأدب، والميتولوجيا سابقة على الدين. وقد كان الشابّي
يستقي إلهامه من ربّات الشعر يقول: يا ربة الشعر والأحلام، غنيني/ فقد سئمت وجوم الكون
من حين. معنى هذا أن الأساطير أيضاً نوع من تقديسِ الفكر والتأمّل في الوجود والكون.
إذن كل ما يجري اليوم باسم الدين والنّيابة عن الله في محاسبة البشر لهو من الضّلال
وقتل الإنسان وشلّ حركته داخل هذا الفضاء الديني. فقد كانت المؤسسات السياسية والدينية
عبر التاريخ سبب تخلف الفكر والإبداع.
إن الشعر تأمّل وكشف واستبصار وليس إيديولوجيا.
والعرب لم يدركوا بعد بأن الشعر تغيّر في رؤاه وفي أنماطه وأشكاله. وللشعر قداسته وآلهته
وعمقه الفني والفكري المنفتح على كل الفضاءات الثقافية والدينية في العالم. فالإنسانية
كما يرى ابن عربي واحدة العين في كل إنسان، وإنما يتفاضل الناس بالمنازل لا بالعين.
________