كلما ظنت الجزائر أنها تخلصت من سنوات الدم والدمار،
إلا وعادت هذه الحقبة الأليمة
من تاريخها، بمآسيها وخلافاتها وتجاذباتها إلى الواجهة،
لتهيمن حتى على عناوين الحاضر المكبل بالأزمات. يكفي فقط أن يظهر تصريح من هنا أو هناك،
لأحد صناع تلك الأحداث، حتى يتردد صداه مضخما في بلد يشكو، على جل المستويات، فراغا
رهيبا.
لم يمر رحيل حسين آيت أحمد، القامة التاريخية الكبرى في معركة الجزائر
التحررية، دون أن يهتز الرأي العام الوطني لهذا الحدث الجلل، تارة بإبداء الصدمة والتأثر
مما ظهر في الإجماع الواسع على شخص الرجل ونبل مساره حتى من أشد مناوئيه، وتارة أخرى
باستعادة جزء من التاريخ الذي كان فيه الدا الحسين مؤثرا، خاصة بعد عودته إلى أرض الوطن
من منفاه الإجباري بسويسرا عقب أحداث أكتوبر 1988.
مواقف حسين آيت أحمد بعد الاستقلال التي رفضت كل
مهادنة مع النظام وصنعت منه سياسيا استثنائيا يجمع بين الرمزية التاريخية والنضال في
المعارضة، ألقت بالرجل إلى واجهة الأحداث في أحلك فترة عاشتها الجزائر بعد توقيف مسار
الانتخابات البرلمانية التي كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قاب قوسين أو أدنى من الفوز
بها، ولإضفاء المصداقية على هذه العملية التي كان جنرالات المؤسسة العسكرية من كبار
مهندسيها، أريد لآيت أحمد أن يكون ضمن المجموعة التي خلفت الرئيس المستقيل الشاذلي
بن جديد، في المجلس الأعلى للدولة.
الغريب أن تفصيلا بسيطا، حول ما إذا كان الرجل القوي
في تلك الفترة خالد نزار قد عرض على حسين آيت أحمد رئاسة هذا المجلس، لا يزال يصنع
الحدث إلى اليوم، وهو في حقيقة الأمر لم يكن ليغير من الأمور شيئا ما دام المعروض عليه
كان له موقف رافض تماما للانخراط مع هذه الزمرة التي كان يعتبرها “انقلابية”، سواء
عرضوا عليه أم لم يعرضوا، ومع ذلك أصر نزار على أن ينفي ما كان قد أكده رفيقه في المجلس،
علي هارون، وصرح به عدة مرات حسين آيت أحمد، واضطر الجنرال المتقاعد إلى أن يعقد ندوة
صحفية، مكذبا فيها الفيديوهات التي تثبت عليه الواقعة.
وبمجرد ظهور نزار إعلاميا، اجتاح وسائل الإعلام
ومواقع التواصل الاجتماعي، طوفان من ردود فعل رجال عايشوا تلك الفترة وأرادوا الإدلاء
بشهادتهم حولها، أو من البسطاء الذين استفزهم هذا الجدل، فتوقفوا عنده مطولا بالتعليق.
وأول الخارجين عن صمتهم كان الجنرال محمد بتشين الذي كذب نزار ووعد بكشف تقرير ثقيل
كان قد سلمه للرئيس الشاذلي بن جديد عن تجاوزات وزير دفاعه، أما الجنرال محمد تواتي،
المدعو المخ، فينتظر أن يدلي بتصريحات يكشف فيها حقيقة ما عرضه على آيت أحمد لما كان
مستشارا سياسيا للجنرال نزار. وتخلص علي هارون من الإحراج الذي سببته له تصريحاته المكتوبة
والمصورة بادعاء أن الذاكرة لم تعد تسعفه ليتذكر ما قاله قبل سنوات طويلة، بينما وجدت
عائلة الرئيس الشاذلي بن جديد نفسها مضطرة للدفاع عنه من جديد، لأنه دائما ما يصور
في خضم ما جرى كحلقة ضعيفة، أجبرت على الاستقالة استجابة لضغوط العسكر أو رمت المنشفة
هربا من حمل المسؤولية.
وبقدر ما حيا البعض على مواقع التواصل الاجتماعي
شجاعة خالد نزار كونه “الجنرال الوحيد القادر على المواجهة”، بقدر ما ثارت الثائرة
عليه كونه “لا يملك شجاعة الاعتذار”، وبقي دائما مصرا حتى بمرور الذكرى الرابعة والعشرين
لتوقيف المسار الانتخابي مصرا على ما فعل، رغم كل ما عاد على الجزائر من وراء تلك الأحداث.
وانتقد البعض نظرة الجنرال نزار إلى ضحايا المأساة الوطنية عندما صرح أن عدد 200 ألف
المسوق للضحايا لا يتجاوز 50 ألفا “فقط”، وكلمة “فقط” هنا إن كانت وردت “للتقليل” على
لسان الجنرال فهي تعني عند المعلقين في الفايسبوك “الكثير”. وككل مرة يتحدث فيها الجنرال
نزار، تعود بقوة نظرية “ضباط فرنسا” كمنطلق لتفسير تسلسل أحداث العشرية السوداء، حتى
وإن كان هذا التفسير، عند آخرين، لا يخلو من نظرة “مؤامراتية” لها أسبابها المعروفة.
بيد أن أخطر ما في هذا الجدل المثار، وإن كان يصلح
كمادة هامة للمؤرخين، أنه غارق في “الماضوية” وفي تفاصيل صغيرة تبرز فيها “الأنا المضخمة”
لرجالات تلك المرحلة، في وقت تبحث الجزائر عن “الخلاص” من واقع سياسي واقتصادي “متأزم”،
لم يعد فيه المواطنون مكترثين لحال السياسة ولم تبق فيه الدولة قادرة على مواجهة شح
المداخيل، وبينما الكل يلهو مع الماضي، يمضي مشروع الدستور في صمت إلى نهايته، وكأن
قدر الجزائريين أن يستفيقوا دائما متأخرين!
عن جريدة الخبر