من بين الفتوحات التاريخية الأسطورية العربية،التي
ابتلينا بها خلال السنوات الأخيرة،ربما استحياء من هزائمنا المريرة على أرض
الواقع،والتي تضفي على ضحالة
سياقنا بطولات صوتية، مُتوهمة، مُقطرة
من عصائر الهذيان،ما يروج له الثراء العربي أو "الشكايرة''و"الشناقة ''،حسب دارجتنا المغربية،ب :أحلى "الأصوات"،وأجمل
الأجسام،وأفضل المتبارين من الشباب العربي،امتلاكا لجينات ''التدليع''
والتخنيث.مال عربي، سهل، وفير،أقسم بأن لا يبقي في جيبه فرنكا واحدا،قبل إفقاره
لهذه الشعوب هذه المرة داخليا وليس ماديا،وجعل أفرادها كائنات رخوة،تائهة،
وقد أفرغت من القيم المفصلية،التي لايمكن للأمم الارتقاء نحو مواطن الجمال
الأصيلة الخلاقة وجوديا،بدونها.إذن،بعض
انهيار العقل السياسي،واستطراد ارتدادات الفكر العقلاني،هاهم الآن
بصدد تفتيت مرتكزات العقل الجمالي ! .
حتما،واقعنا الحالي تغمره البشاعة،وأن شعوب المنطقة
غير سعيدة بتاتا، تعاني ويلات الخراب والإفلاس.ولعل المعادلة الأساسية،التي
يستند عليها سعي أنصار"مشاريع تدليع وتخنيث أبطال الصوت العربي"،كونهم
فقط بصدد بناء منظومة للفرح، وإسعاد المتلقين، وتأسيس تاريخ جديد
للفن العربي.لكن، إذا كانت المعاناة أساس الخلق الفني العميق،الرصين،والخالد،الممتد
زمانيا ومكانيا،حسب شهادات الوثائق الفنية،فإن منظومة التهريج،
مع الاستثناء النادر،التي يروج لها وتعمم وتقنن، بل أوشك أصحابها
على أن تنصب لهم تماثيل في المدارس والجامعات والفضاءات العمومية،وصاروا
أبطالا قوميين ونماذج تكرس للناشئة،لا تظهر أبسط إشارات العمق،الكفيلة
وحدها بأن تضفي شرعية ما على عطاء فني،لذلك سرعان ما تتلاشى غبارا قبل
انبثاقها، وتُنسى قبل التعرف عليها.
إن بناء الذائقة الفنية،لدى الفرد
الواحد،تحتاج إلى إرساء مستمر ومتكامل،وفق جدلية منفتحة لا تنتهي
بين الكمي والنوعي،الاستيعاب والتمحيص،التلقي والتأمل،تُشغِّل
وتشعل كيانه كليا،بناء على غاية تتوخى التهذيب،كي يدرك ذاك الفرد،أفقه
الإنساني الأصيل الجدير به.وهل، بوسعه ذلك؟.
إذن، لنسقط السؤال،وننتقل
به من الذاتي إلى الموضوعي،كي نستفهم ما تغلي به الأسواق العربية،من
مضاربات على البطولة الصوتية؟ثم هل تحقق اليسير، من الممكن المفترض،ضمنيا
مع حيثيات تكريس الرافد الجمالي.قد نكتفي،بواقعة واحدة، تختزل باقي التفاصيل :مع
ازدياد هذه البرامج،اشتدت في الآن نفسه بالموازاة،حمولة العنف أكثر،في
إطار مختلف صيغه وتمظهراته.السبب، طبعا لايحتاج إلى نباهة،هناك
خلل جذري على مستوى المبادئ والمنطلقات ومن تم المسوغات والنتائج.
يستحيل الحديث عن مجتمع راق فنيا،يتمتع
أهله بأحاسيس فنية ثرية وسامية،في ظل انعدام المرتكزات واللبنات، التي تغني قلوبهم جمالا وصفاء،وتشبع حواسهم ذكاء،دون
توقف.عندما يحتقر ويزدري،المجتمع :الإنسان والمعرفة والحرية،كما
الحال مع مجتمعاتنا،بل ويبني أصلا خططه على المقومات المضادة مبدئيا
لازدهار الخلق الفني الجدير بالتسمية،أي :اللا-إنسان والجهل والتسلط.فلا يمكننا،وقتها الاعتقاد حتى وهما،في حسن نية
البروباغندا الفنية المتداولة.
تأسيس الحس الجمالي،مشروع
مجتمعي متين،طويل النفس،مثل كل المشاريع الكبرى،يقتضي
اختيارات أصيلة واضحة، لالبس فيها،ولا التباس معها.مثلما
أن الفنان،لايُفبرك خلال أربعة أيام،ولاهو بتسريحة شعر وفق الموضة ولا
إكسسوارات زائد،ولا أقراط ولا أصباغ ولا سراويل ممزقة ولا حذاء رياضي من
النوع الرفيع ولا تسابيح على الصدر ولا عدسات صناعية ولا سيليكون ولا زيف ولا
تزييف ولا أسورة سوداء ولاحزمة من الدماليج…،ولا تغنج ولا تصنع ولا ادعاء ولا استغباء ولاغباء ولابلادة ولا استبلاد ولا
تدليع ولا تخنيث،ولاكثرة كلام ولاتباه هستيري
بممتلكات مادية عبر صفحات الفيسبوك،ولا جزر هاواي، ولا يخوت ميامي، ولامواقف صغيرة.الفنان، حالة وجودية عظيمة.
حالات
التسويق السلعية والإشهار الربحي،التي تلاحقنا اليوم إعلاميا، أينما
حللنا وارتحلنا،بعنف رمزي جسيم،تحت طائلة الفن، وباسم الفن،
وتعميما للفن،هي في نهاية المطاف أهم التعبيرات الصادقة،لما يعتمل
داخل مجتمعنا من عنف مادي،واجتثاث ممنهج لمقومات الشخصية القادرة على الفصل
السيكولوجي بين الجميل والقبيح،بالتالي الممكن وغير الممكن.هل الذين يوثنون آنيا عنوة،كنماذج
فنية قائمة الذات، لا يشق لها غبار،من طرف الترسانة الإعلامية
الرسمية والسائرين على هداها،تمتلك حقا الحد الأدنى من مزايا المؤهلين،معرفيا
وفكريا وقيميا ورؤيويا وروحيا وسلوكيا وخبرة بالحياة ودراية بأحوال الناس والزمان
والتجارب والمواقف والمعطيات…،ولأن الحال ليس كذلك كما يعلم
القاصي قبل الداني،فقد صار نعت فنان مطروحا على الطريق كأسعار البطاطس في سوق
الجملة.بالتأكيد،إن نحن
تمثلنا واقعيا، على امتداد الفضاء المجتمعي المفاهيم التأسيسية
الكبرى :ديمقراطية،عدالة،فردانية،
مبادرة، اختيار، مدرسة، انتماء، حكومة، برلمان…،مواطنة.فلا ريب، أن التصنيف الفني،سيكون
لحظتها منسجما مع كل ما سبق.
الإبداع الفني :خلق من عدم، إضافة جديدة،إيحاء، إلهام، حلم، متعة،
تطهير، عمق، رؤيا، تهذيب للأذواق، ارتقاء بالفرد نحو
مراتب يقترب فيها من إنسانيته أكثر،فضح للوضع الإنساني غير السليم.
الفنان :ليس صناعة إشهارية ولا مذهبية ولا دينية ولا عقائدية ولاعرقية ولا طائفية ولا خطابية ولا
بوليسية ولا دعاية لنظام سياسي ولا سلطة، فقط
نظام التمدن البشري وسلطة الجمال،ودعايته لما هو جميل.
ماذا نلاحظ،عند صفوة حشد
"مشاريع تدليع وتخنيث أبطال الصوت العربي''؟ :ترديد تلو الترديد لما سبق،الرتابة،
التكرار، الضجر، السطحية،الصدفة،تمييع الأذواق،تشذ
وتجذب الفرد إلى مستويات، تتضاءل معها إنسانيته المثلى.أما صاحب المنتوج، كي لا أقول الفنان،وبالكيفية
التي نعاينها فهو مجرد إفراز ضمن إفرازات حالة الانحطاط الشاملة التي انتهينا
إليها.
إجمالا،أنا هنا لست بصدد مصادرة الأذواق،فكل
واحد مسؤول عن اختياراته، ولا أمارس
وصاية،لكني أعبر بصوت مرتفع،عن وجهة نظر ذاتية وشخصية،
حول ما يجري.
http://saidboukhlet.com