لا يُكرِّر الروائي المغربي حائز جائزة غونكور الفرنسية
عن روايته «ليلة القدر»، الطاهر بن جلون، تقنيات السْرد لديه، ولا العوالم والشخوص.
يأتي هذه المرة في
روايته «السعادة الزوجية»، التي تأخذنا إلى الدار البيضاء، وتحديداً
في العام 2000، حيث «فولان»، أو كما يشير إليه بن جلون في مواضع كثيرة من الرواية بـ
«الرسَّام»، المتحدِّر من عائلة ثرية من مدينة فاس، فيما الزوجة من عائلة بربرية فقيرة.
تتيح له موهبته ثراء ونجومية، وكما يبرزه بن جلون، بثقافته المتعدَّدة والواسعة التي
تمتد من الفن مروراً بالفلسفة، وليس انتهاء بالسينما.
تأخذنا الرواية في تفاصيل يبرزها الاستعراض هنا
إلى روايتين كل منها تعد وثيقة. رواية الزوج (الرسَّام)، والتي هي في مجملها إدانة،
ورواية الزوجة التي تتصدَّى للرد وتفنيد كل ما حملته رواية زوجها من اتهامات، ولذلك
تفصيل.
فقط، نشير هنا إلى أن جانباً كبيراً من الكتابة
هنا يستند إلى ما كتبه روبن ياسين كسَّاب في صحيفة «الغارديان» البريطانية، يوم السبت
(30 يناير/ كانون الثاني 2016)، بعد ترجمة الرواية إلى الإنجليزية، وما كتبه أيضاً
أنطوان جوكي على موقع قناة الجزيرة، بتاريخ 19 يوليو/ تموز 2012، تناولاً للرواية في
نسختها الفرنسية.
الزوجة على النقيض من كل ذلك، بثقافتها المحدودة،
وانسلاخها عن العقلانية، وهيمنة الرواسب الثقافية التي مصدرها البيئة التي جاءت منها،
كالسحر والشعوذة وكل تقليدي يرتبط بتلك الأجواء؛ حيث تسود الخرافة.
تأخذنا الرواية إلى ما يشبه استدعاء الماضي البعيد
للزوجة، يوم أن قام والدها ببيعها لزوجين فرنسيين. هنالك وقوف أيضاً على ضعف الشخصية
لدى «الرسَّام» (الزوج) أو «فولان»، ولجوئه إلى الهروب من عدد من الخيارات التي لا
يمكن التفرُّج عليها أو تأجيلها؛ عدا الهروب منها.
بما أتاحته له الثروة والنجومية، ثمة عشيقات كثيرات
يستبدلهن بحسب العواصم التي كان يتواجد فيها يوم أن كان في كامل صحته، حضوراً لمعارضه
الفنية، ولوحاته التي تباع بمبالغ باهظة. لكن الأمور لا تقف عند حال؛ إذ يتعرَّض وهو
في قمة مكانته وحضوره إلى جلطة دماغية تعمل عملها في قلب حياته رأساً على عقب. الكرسي
المتحرك الذي يظل رفْقته. شبه الشلل، والوجه المتكوِّر بفعل الجلطة. كل ذلك يحول بينه
وبين العالم الذي صنع له كل ذلك الثراء والأبَّهة والنجومية: الرسْم.
الأسرار والأسرار المُضادَّة
الفراغ... العجز... الهروب من مواجهة مصيره... الاكتئاب
الملازم لمثل تلك الحالة بالضرورة، كل ذلك يقوده إلى أن يميط اللثام عن أسرار زواج
استمر لسنتين، وهو في التفاصيل تلك يتعامل مع تلك الحياة باعتبارها جحيماً، وهي الفترة
التي رأى أنها المسئولة بقدْر كبير عمَّا آلت إليه الأوضاع التي هو عليها. يحتفظ بكرَّاس
التفاصيل تلك في مكان سري بعيد عن عين الزوجة، إلا أنها تكتشف الكرَّاس مُخبَّأً داخل
مُحترفه. هو أنجز الجانب الخاص به من التفاصيل بكل ما فيها من تحامل ومبالغات بحكم
حال الاكتئاب المسيطرة عليه، ليضعنا بن جلون أمام الجزء الخاص بالزوجة من الرواية،
التي تعمل على الرد عليها وتفنيدها.
ثمة قصة حب حقيقية عاشها الزوجان في أول عامين من
زواجهما. في الجانب الخاص بما يرويه فولان (الرسَّام)، أبسط وأبرز ما يمتعض منه في
زوجته طبْعها وروحها التي تنزع إلى التملُّك والاستحواذ. لا تريد أن تفهم وتستوعب الجانب
الخاص به، ذلك الذي يتعلق بحريته، وطبيعة ما يمارسه. الزوجة (أمينة) ينصبُّ تركيزها
على الخيانات التي لا حصر لها، تلك التي يقوم بها فولان، وانكبابه الدائم على عمله
في محترفه... تنقلاته وأسفاره المستمرة، وبالنتيجة وضعنا أمام إهماله للأمور والواجبات
والمتطلبات الزوجية. لا تنسَ الزوجة ضمن استدعاء، ما حدث لها ليلة زواجهما من مواقف
التحقير والإهانة التي تعرضت لها من قبل عائلته، بحكم البون الشاسع بين مكانة العائلتين،
في مجتمع شرقي يظل مشدوداً إلى تلك الممارسات، وتشكِّل جزءاً من وعيه وثقافته.
انطوان جوكي يبدى عدداً من الملاحظات، على رغم إعجابه
بمهارات السرد لدى بن جلون في عمله الذي احتل 360 صفحة، والمتعة التي أتاحها للقارئ،
من خلال البراعة في حبْك الأحداث، وقدرته على التحكُّم في مسار وثيقتين/ روايتين، يبرز
جوكي جانباً من ملاحظاته في الآتي: «اختيار بن جلون علاقة زوجية غير نموذجية، يحول
دون إمكانية تعميم تداعيات هذه العلاقة على سائر العلاقات الزوجية؛ إذ تبقى معادلة
الفنان الشهير والغني الذي يتزوَّج بفتاة لا علاقة لها بالفن أو الثقافة، نادرة جداً،
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاختلاف الكبير بين الرسَّام وزوجته على مختلف الأصعدة، والذي
يجعل من انهيار علاقتهما الزوجية مسألة حتمية، دون أن يكون لمؤسسة الزواج أي مسئولية
في ذلك.
وبالتالي، كان من الأجدى -في نظرنا- اختيار شخصيتين
لا يفرّقهما هذا الكمُّ من الاختلافات، من أجل تركيز مضمون الرواية على النتائج السلبية
المفترضة للزواج على مشاعرهما المتبادلة، وهو ما لم ينجح بن جلون في تحقيقه، علما بأنه
الهدف المعلَن على غلاف الكتاب».
مشيراً جوكي إلى أن المصدر الغني في الرواية «هي
المراجع السينمائية الغربية الغزيرة التي تحضر داخلها، إما على شكل تعليقات على أفلام
سينمائيين كبار، مثل لويس بونيويل ودوغلاس سيرك وجان رونوار وجورج ستيفنس وأورسون ويلز
وإيليا كازان وبيلي وايلدر، أو على شكل استشهادات مقتطعة من سيناريوهات أفلام إينغمار
برغمان وفريتز لانغ في جميع فصول القسم الأول من الرواية. هذه المراجع تشكل مجموعة
أنتولوجيا سينمائية مثيرة حول موضوع العلاقات الزوجية».
السرْد والسرْد المُضاد
روبن ياسين كسَّاب في «الغارديان»، أشار في قراءته
للرواية إلى أن الطاهر بن جلُّون ساهم بسلسلة من الأعمال المهمَّة في الأدب الفرنسي،
وعلى رأسها رائعته «تلك العتمة الباهرة» التي صدرت في العام 2001، و «أثارت حفيظة معتقلي
تازمامارت (معتقل سياسي سري سابق، كان من بين أشهر السجون المغربية، التي عرفت نشاطاً
مكثفاً خلال ما سمي بـسنوات الرصاص، وكان يتميز بالسرية الكبيرة والتعذيب. يقع على
أطراف الصحراء الشرقية المغربية. فتح في شهر أغسطس/ آب 1973، وأغلق بتاريخ 15 سبتمبر/
أيلول 1991، واستقبل في الأثناء العسكريين ممن شاركوا في المحاولتين الانقلابيتين:
الصخيرات في العام 1971، ومحاولة انقلاب أوفقير في العام 1972)، لعدم إثارة قضيتهم،
واستفادته منها لكسب أرباح على حسابهم».
موضحاً كسَّاب أن روايته الأخيرة «السعادة الزوجية»،
تحمل أصداء قاتمة تذكِّر بعلاقة انحطاط في إحدى قصص الروائي الروسي ليو تولستوي إلا
أن حكاية بن جلون تُطرح باعتبارها موضع تساؤل يبرز من خلال السرْد والسرْد المضاد.
مُبيِّناً جانباً من بنْيتها بالإشارة إلى بطل الرواية
شبه المشلول، الذي يتعافى من السكتة الدماغية، تلك التي جعلت وجهه ملتوياً. إنه فنان
ناجح يسعى جاهداً إلى طلب الكمال، ليبلغ به الحال إلى الصراع من أجل تحريك أصابعه أثناء
مشاهدة الألعاب الرياضية على شاشة التلفزيون. له تأمُّلات في تدهور حاله، والاعتماد
على الآخرين «عندما تكون حياتك في يد شخص آخر، هل مازالت حياة تلك؟»، فيما يتكئ سرْده
(يومياته) على ذكريات زواج مضى عليه عقدان من الزمان، في انتقالات الرواية بين باريس
والدار البيضاء... وبين المرض والصحة.
هناك مفصلان في الرواية، الأول يحمل عنوان «الرجل
الذي كان يحب النساء كثيراً»، أما المفصل الثاني ويحمل عنوان «جواب على (الرجل الذي
كان يحب النساء كثيراً)». الذي يمثل جانب الزوجة في روايتها للأحداث والوقائع.
إذلال الجسد والروح
يشير كسَّاب إلى أن الإنجاز النثري هنا يستدعي بشكل
أكثر واقعية موضوعة المزاج لدى فيليب روث، ودراسات سول بيلو حول كبار السن من الرجال
الذين يُعانون من إذلال الجسد والروح. العمق النفسي، تفاصيل ثقافة عالية، ونثر سيَّال.
مُوضحاً أن بن جلون يتمثَّل بمهارة التضاريس العاطفية
المتغيِّرة للعلاقات طويلة الأمد، والزخم القاتل الناتج عن الأخطاء التي حدثت في وقت
مبكر، واعتقاد الفنان بأن الحب يمكنه التغلُّب على العقبات المستحيلة، إلا أنه فشل
يوم زفافه في الدفاع عن زوجته بعد تعرُّضها إلى هجوم من طرف خالته المتعجرفة. عائلته
من الطبقة الثرية في مدينة فاس. أما زوجته فتنتمي إلى البربر ومن مجتمع ريفي. امتداداتها
ترجع إلى «الفلاحين الذين لا يمكنهم تكلُّم العربية بشكل جيد».
سيشعر القارئ، بطبيعة الحال بالشفقة. زوجة الفنان
تظهر غيرتها من نجاحه، متلاعبة به. هنالك هيمنة الخرافة عليها، مصابة بجنون العظمة
وعدوانية، ومن وراء كل ذلك، هي أقل شأناً من الناحية الفكرية.
نقف على محاولة الذهاب في الاتجاه المضاد لسرد الزوجة
للوقائع. الزوجة التي منحت اسماً في الماضي: أمينة. تقول خلافاً لزوجها إنها «ليست
بصدد كتابة رواية». كلماتها تحتل أقل من ثلث حجم الكتاب. جُمَلها تنزع نحو المباشرة
المكثفة، ولكنها ليست أقل ذكاء.
ضوء
يُذكر أن الطاهر بن جلون ولد في 1 ديسمبر/ كانون
الأول 1944، في مدينة فاس. كاتب فرنسي من أصول مغربية. ينتمي إلى الجيل الثاني من الكتَّاب
المغاربة الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وله إصدارات كثيرة في الشعر والرواية والقصة،
وتتميَّز أعماله بالطابع الفولكلوري والغرائبي. حاصل على جائزة غونكور الفرنسية عن
رواية «ليلة القدر».
انتقل إلى طنجة مع أسرته في العام 1955 حيث التحق
بمدرسة فرنسية. وكان قد اعتقل العام 1966 مع 94 طالباً لتنظيمهم ومشاركتهم في مظاهرات
العام 1965 الطلابية، ليتخلى بعد ذلك عن الحراك السياسي ملتجئاً إلى الكتابة.
دَرَّس الفلسفة في الرباط حتى العام 1971 حين أعلنت
الحكومة المغربية عزمها تعريب تعليم الفلسفة. وردّاً على هذه الخطوة، غادر المغرب باتجاه
فرنسا حيث حصل على شهادة عليا في علم النفس. وبدأت مسيرته في الكتابة بعد فترة قصيرة
من وصوله إلى باريس؛ حيث عمل كاتباً مستقلاً لصحيفة «لوموند» وبدأ ينشر الشعر والرواية.
بدأ كتابة الشعر مع «مجموعة أنفاس» بالمغرب ثم انتقل
إلى الرواية والقصة، فصدرت له العديد من الأعمال الأدبية منذ السبعينات منها روايات:
«حرودة» عن دار دونويل في العام 1973، ورواية «موحى الأحمق، موحى العاقل» عن دار لوسوي
في العام 1981، و «صلاة الغائب» عن دار لوسوي في العام 1981، و «طفل الرمال» عن دار
لوسوي في العام 1985، و «ليلة القدر» عن دار لوسوي في العام 1987، وهي الرواية التي
حصل من خلالها على جائزة غونكور الفرنسية في العام نفسه. كما أصدر مجموعة من النصوص
القصصية والدواوين الشعرية والأنطلوجيات منها: «ذاكرة المستقبل»، وهي أنطلوجيا حول
القصيدة الجديدة بالمغرب، وذلك في العام 1976، ديوان «في غياب الذاكرة» في العام
1980، والمجموعة القصصية «الحب الأول هو دائماً الأخير»، في العام 1995. من أعماله
أيضاً رواية «ليلة الخطأ» في العام 1997، و «مأوى الفقراء» في العام 1999، و «تلك العتمة
الباهرة» في العام 2001.