افتتح مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية
والفنية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء موسمه العلمي بالحلقة
الأولى من "سيميائيات الثقافة وتطبيقاتها
في النقد العربي"، والتي خصصت للتطبيقات
العمانية من خلال تجربة الباحثة دة. عائشة الدرمكي التي قدمت للخزانة العربية أزيد
من أربعة عشر بحثا أكاديميا. وقد ترأس د. عبد الرحيم جيران الجلسة الاولى، وأعطى الكلمة
في البداية للدكتورة عائشة الدرمكي التي قدمت
مداخلة موسومة ب" سيميائيات الثقافة وتطبيقاتها في النقد العماني" رصدت فيها
تجربة سلطنة عمان التي عدَّتها تجربة ما تزال في بداياتها، وقدمت سردا تعاقبيا لهذه
التطبيقات بدءا من أطروحتها حول "سيميائيات التواصل"، مرورا على الدراسات
واللقاءات الفكرية في السلطنة، وصولا إلى تنظيم ندوة "سيميائيات النص الثقافي"
التي عدَّتها مفصلية، وخصصت جزءا من المداخلة للتجارب العلمية في جمع التراث الثقافي
العماني، تلك التجارب التي وصفت سيرورة تشكلها التي امتازت بالخضوع الصارم لقوانين
البحث العلمي، ثم خلصت إلى سرد أهم الأبحاث والأطاريح المنجزة، أو التي هي في طور الانجاز،
والتي تعنى بتطبيقات السيميائيات من أجل استكناه الابعاد المعرفية للتراث العماني.
ثم قدم بعد ذلك د.محمد بوعزة في مداخلته "سيميائيات الثقافة الشعبية" قراءة
نقدية لكتاب "سيميائيات النص الشفاهي في عمان" للمؤلفة عائشة الدرمكي، من
منظور معرفي يتوسل نقد النقد، حيث حدد موضوع قراءته النقدية في فحص وتحليل خصائص الممارسة
السيميائية في الكتاب. وقد أبرز ميزات الممارسة السيميائية في كتاب " سيميائيات
الثقافة الشفاهية في عمان" انطلاقا من
ثلاثة زوايا معرفية: أولا، زاوية الموضوع السيميائي (الثقافة الشعبية العمانية) الذي
يتميز بتعدد المتن المستهدف في الكتاب، حيث يتكون من خطابات متنوعة لسانية وغير لسانية، بل يتوسع ليشمل ممارسات اجتماعية
دالة تنتجها التجربة الإنسانية؛ مثل ظاهرة الاحتفالات الشعبية، وظاهرة الأزياء والملابس
وفنون الأداء والموسيقى. ثانيا، زاوية الرؤية المعرفية التي تحكم تصور الباحثة للثقافة
الشعبية، والتي تميزت بتجاوز المعيارية الأكاديمية، معيدة الاعتبار لفنون الثقافة الشعبية،
عن طريق إبراز دورها الإبداعي، حتى ضمن التقليد، من جهة استظهار الأبعاد والدلالات
الرمزية للفنون الشعبية في عمان. ثالثا، زاوية المرجعية النظرية، حيث أبرز أن تطبيق
السيميائيات في مقاربة موضوعات الثقافة الشعبية - وكما يستنتج من تطبيقات المؤلفة على
نماذج من الموروث الشفهي العماني - يقودنا إلى تجاوز الرؤية الاستعمالية النفعية للثقافة
الشعبية التي لا ترى فيها سوى استثمار نفعي، على النقيض من ذلك، تقدم السيميائيات بديلا
معرفيا للرؤية الفلكلورية النفعية يتمثل في اعتبار موضوعات الثقافة الشعبية استثمارا
دلاليا يملأ الوجود الإنساني بالدلالات الرمزية.
وفي مداخلته الموسومة بـ"سيميائيات الفضاء النفسي: السلطة الخرساء:
سيميائيات الأمكنة في نص السيرة الذاتية" حدد د.عبد الرحمن التمارة الدينامية
النقدية التي يتأطر ضمنها كتاب الباحثة عائشة الدرمكي في خمسة محاور افتتحها بمحور
"الهندسة/ سلطة الثقافة الناطقة؛ حيث أشار فيه إلى انفتاح التحليل السيميائي للفضاء
المكاني في السيرة انطلاقا من التصور المعرفي بوصفه متمفصلا إلى محورين: الأول متصل
بالمكان في كينونته الحدّية، وامتداده الجغرافي، وأبعاده الطبوغرافية، والثاني مرتبط
بالذات التي تتفاعل في هذا الفضاء المكاني، حيث يصير المكان نسقا ثقافيا. ثم المجال
الثقافي بوصفه عنصرا رمزيا يستحضر كيفية اشتغال الفضاء المكاني في النص الأدبي السيري
الذي يقوم على التمثل والتذكّر، وعلى تجاوز أبعاد تحققه في الواقع المرجعي نحو بناء
الدلالات السياقية، ليخلص فيه إلى أن السيري يقوض الدلالة المباشرة للمكان الفيزيقي؛
لأنه يصير مجرد علامة نصية تنفتح على أبعاد تخص المكان. وقد انتهى الباحث في تحليله
إلى أن الفضاء المكاني في نص السيرة الذاتية يقوض دلالة المكان الفيزيقي، لأنه يصير
مجرد علامة نصية لكنها منفتحة على دلالة وأبعاد تخص المكان في ذاته، وتهم الذوات المتفاعلة
داخله. أما المحور الثاني، فقد تطرق فيه الباحث إلى الفصل الدقيق الذي تتأسس عليه مقولة
التمييز الجوهري بين الأنا في تحققها الوجودي والأنطلوجي، وبين حضورها النصي بوصفه
محفلا سرديا، أو شخصية نصية تتفاعل مع الفضاء المكاني-يضيف الباحث- فضلا عن التمييز
الجوهري بين الفضاء المكاني في تحققه الفيزيقي التجريبي المحدد المعالم والأبعاد، وبين
الفضاء المكاني المبني في نص السيرة الذاتية الذي يخضع لتحويرات فرضها قانون الاستذكار
وفق مسار سردي. لهذا فإن سيميائية الفضاء المكاني داخل المرجعية البانية للسيرة الذاتية،
"منازل الخطوة الأولى" لسيف الرحبي، و"ترميم الذاكرة" لحسن مدن
تقترن ببناء دلالاته بوصفه مكانا مفتوحا على علاقات تواصلية، مما يولد دلالات ثقافية
ذات صلة بالإدراك الفكري والنفسي، وبالتفاعل الاجتماعي. أمامحور "المحمولات/ الفضاء
الثقافي، فقد توزع إلى مستويين: امتلاء الفضاء المكاني؛ حيث يختلف المكان النصي عن
المكان التجريبي؛ لأنه يصير ممتلئا بالدلالات، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، ويتجاوز
مكان السيرة سلطة الحقيقة ليغدو علامة مكانية مفتوحة على رموز ودلالات متعددة. والشعور
بالفضاء المكاني الذي يطرح من خلاله الباحث قضية التفاعل بين الإنسان والفضاء المكاني،
انطلاقا من خاصية تفاعل كاتب السيرة الذاتية مع الأمكنة وزواياها المختلفة؛ فالسارد
باعتباره محفلا مطابقا للكاتب في السيرة في تعايشه مع الواقعية المختلفة، لا يقف عند
الوصف المباشر بحدوده الفيزيقية، بل يحتفي بتأثيرها على مشاعره وما يستتبع ذلك من تحولات
سيكولوجية ملازمة للتحول في الفضاء المكاني. ويتعلق المحور الرابع بـ"المفاهيم،
المجال والمنهج"؛ حيث اقترن الخطاب النقدي في كتاب"السلطة الخرساء"بجهاز
مفاهيمي متمفصل إلى مرجعية أدبية تمثلها السيرة الذاتية وتكشف عن مضمرات النص الأدبي
من خلال قدرات الخطاب النقدي، وأخرى منهجية تمثلها السيميائيات التي تسعف في تحليل
النص السيري من خلال إمكانية تحليل فضاءاته المكانية باعتبارها علامات نصية دالة انطلاقا
من مقولتي: التعايش الخلاق والإجراء الإبستمولوجي. ليختتم الباحث مداخلته بـ
"المنهج النقدي للسيميائيات"؛ حيث بين عمق وعي الناقدة الدرمكي بأهمية الوصف
في نص السيرة الذاتية، فقد فصلت القول في الأهواء والذات الأهوائية وإسقاطات هذه الأهواء
على الأمكنة. وتتبدى غايات التحليل متوجهة إلى بناء دلالاتها وإبراز أبعادها عبر سيرورة
نوعية وخاصة، بهذا المعنى كان الحديث عن البنية المنهجية ثلاثية الاتجاه، وكان منطلقها
المنهجي واحدا متمثلا في السيميائيات: أولها السيميائيات السردية التي تتجه بالفعل
السردي في ذاته، ثانيها السيميائيات الثقافية المقترنة، وثالثها سيميائيات الأهواء.
أما الجلسة العلمية الثانية التي ترأسها د. عبد
العلي معزوز فقد افتتحت بمداخلة الباحثة نزهه لخو الموسومة ب"قراءة سيميائية لكتاب
السلطة الخرساء" انطلقت فيها من تأويل عنوان الكتاب بوصفه علامة دالة على المكان
في صمته، وجموده، مشيرة إلى أنه يمارس نوعا من السلطة في توجيه الحكي وتحيينه في أشكال
مختلفة، فهو حسب الباحثة يمارس نوعا من الهيمنة في السيرة الذاتية، كما هو الشأن في
الروايات، موضحة قيمة المكان، عند د. عائشة الدرمكي، التي تكمن في كونه يسهم في ضمان
تماسك النص بوصفه بنية، وفي كونه امتدادا للشخصيات التي يعمل على إضاءتها بنفس القدر
الذي تضيئه، فهو العنصر الذي يعتمد عليه من
أجل تفكيك النص وإنتاج دلالاته التي لا يمكن الوصول إليها، والإمساك بها، إلا إذا تم
الانطلاق منه، إنه مفتاح من مفاتيح استراتييجية القراءة في النقد الحديث. وقد انتهت
الباحثة إلى أن عائشة الدرمكي في مقاربتها لنص "منازل الخطوة الأولى" تعتبر
الارتحال المكاني بؤرة الدلالة في النص، بوصفه المنطلق نحو فهم العلاقات التواصلية
المرتبطة بالأمكنة التي تعد مدخلا لفهم الذات، وتحديد المكونات الثقافية التي تتحكم
في سير حياتها زمانيا ومكانيا. وعلى المستوى المفاهيمي تبين كيفية استثمار مفهوم التبئير
عن طريق توسيع مفهوم الشخصية، وذلك بتوظيف مفهوم العامل، كما استحضرت الناقدة الطبيعة
باعتبارها عاملا تؤدي أدورا نفسية واجتماعية وفكرية، وخلصت إلى أن الفضاءات المكانية
في سيرة" منازل الخطوة الأولى" مسيطرة على المستوى الخطابي العام. كما أشارت
إلى أن الناقدة د. الدرمكي في مقاربتها لسيرة" ترميم الذاكرة" قد استندت
إلى سيميائيات الأهواء" التي خولتها الجمع بين المكاني والنفسي، بين استشعارات
الانجذاب والنفور، وإحساسات الألفة والعجز. وعملت على استحضار الأمكنة بصريا ضمن جدلية
الحضور والغياب، فهي صورة أيقونية مخزونة في الذاكرة ضمن علاقات ومشاعر ودلالات خاضعة
لمنطق الخارج والداخل، الاتساع والضيق، كما وضح ذلك غاستون باشلار.وتشكل العلاقة بين
الزمان والمكان علاقة اكتمال، فالعلامات لا تمنح دلالتها إلا في المكان، والمكان لا
يدرك إلا في سياق الزمن. أما مداخلة عز الدين
أبو عنان حول "السيمات الثقافية في كتاب سيميائيات التواصل الإشاري المصاحب للكلام"
فانطلقت من عنوان كتاب الباحثة العمانية محددة موضوع هذه الدراسة السيميائية في التواصل
الإنساني الذي لا يتحقق بالكلام وحده، ولكن بالإشارة المصاحبة له، موضحا أن د. الدرمكي
تؤكد على أهمية اللغة باعتبارها وسيلة للتواصل بين أفراد المجتمع، بيد أن الإنسان عرف
وسائل أخرى عديدة منها رموز مادية، وغير مادية مستوحاة من الطبيعة أصبغ عليها الإنسان
دلالات خاصة، لذلك تمثل العلامات الإشارية وحركات الجسم جانبا مهما من جوانب التواصل.
وتكمن أهمية دراسة دة. الدرمكي في كونها انصبت على مقاربة التواصل الإشاري واللساني
حيث عملت في الفصل الأول من الكتاب على رصد مختلف العلامات والشفرات المساعدة في إيصال
مختلف الرسائل التواصلية. ويبقى أن نجاح العملية التواصلية رهين باشتراك طرفي التواصل
في الشفرات. ملاحظا أن الباحثة قد عملت في الفصل الثاني على إبراز أهمية تلك العلامات
الإشارية التي يصدرها الجسد (الإيماءات)، وقدرتها على تحقيق التواصل، وكيف أنها تستخدم
بمعزل عن اللغة مثل لغات الصم والبكم، والإشارات العسكرية والطرقية، التي تؤدي وظائف
متعددة أهمها: التواصلية، التعويض، التوكيد، التوضيح، التناقض، البديل، التنظيم، التأثير.
معللا دواعي اختيار الباحثة لمدونة صحيح مسلم كونها تزخر بالعلامات الإشارية المصاحبة
للعلامات اللسانية، وقد ركز على تتبع شكل تحليلها للإشارة بالرأس، والإشارة بالوجه،
وبالفم، وبالعين، وبالجسد، وباليد، وبالقدم، موضحا أن الباحثة عملت على تأويلها ساعية
إلى إيضاح العلاقة بين الباث والمتلقي، والسياقات التي وردت فيها العلامات الإشارية
والوظائف التواصلية التي أدتها في النصوص الدينية: التعويضية، التأثيرية، التنبيهية،
التعليمية، والتنظيمية، والمساعدة، التأكيدية. وانتهى إلى أن هذه الدراسة واحدة من
الدراسات القليلة التي تعد مرجعا أساسيا يتكئ عليه الباحثون في التواصل الإشاري واللساني
على السواء. أما المداخلة الأخيرة فقدمها د. عبد الدين حمروش "التعييني والتضميني
في التراث الثقافي الشفهي: قراءة في سيميائيات الثقافة والتواصل في النص التراثي"
فركزت على فكرتين اثنتين، تمثلتا في الثقافة العالِمة والثقافة الشعبية: الثقافة المكتوبة
والثقافة الشفهية. انطلق د خمروش من نفي كون الثقافة "الشعبية" ثقافة
"بسيطة"، وإنما تتسم بخاصية "الاختلاف" في طرق البناء والتشكل
الفني، والدلالي، والرمزي. معتبرا "الشفاهة" عنصرا مشتركا من حيث دلالتها
على الأدب الشعبي من جهة، بقدر دلالتها على التراث الثقافي، الشفهي في جزء كبير منه،
من جهة أخرى؛ لأنها أصل الأدب الشعبي، ولذلك كانت حاضنتُه الذاكرةَ الجماعية، عبر الإلحاح على وسيلتي الحفظ
والرواية. راصدا حضور ثلاثة مصادر سيميولوجية: سيميولوجيا الثقافة، وسيميولوجيا التواصل،
وسيميولوجيا الدلالة، محددا إطار العلامات الملبسية في مستويين: الدلالة التعيينية
المتمثلة في فنّ "الشوباني"، مثلا، حيث نجد المشاركين من الرجال، إلى جانب
الفتيات الصغيرات، ينطوون، عبر ملابسهم المخصوصة، على أداء دلالات تعيينية "تنكشف
على الحياة الاجتماعية، والدلالة التضمينية التي تعتبر "شفرات ثقافية تقدم إطارا
من الضمنية تنتظم في تقابلات بين علامات ذات بعد تعييني برّاق من الناحية الجمالية"-
يضيف الباحث حمروش- إن الأمر يتعلق بمستوى رمزي- ثقافي، بفعل الانتقال من مستوى التمظهر
الاجتماعي إلى مستوى التمظهر الفني، ليختتم باستنتاج للباحثة الدرمكي يعتبره في غاية
من الأهمية الرمزية والعمق الثقافي يتمثل في تماهي المرأة مع الدلالة التضمينية، بالنظر
إلى مشاركتها الفعلية في إنتاجها.
وقد تلت المداخلات نقاشات عميقة، أغنت الجلستين،
ساهم فيها عدد من الباحثين المختصين الذين أتوا من مدن مختلفة. وفي النهاية تم توقيع
اتفاقية شراكة بين النادي الثقافي العماني ومختبر السيميائيات بنمسيك.