-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

عن الاستبداد والدين: د. علي مبروك

في كتابه الرائد المبكر عن طبائع الاستبداد اختص الكواكبي العلاقة بين الاستبداد والدين
 بتحليل خلص فيه إلي تبرئة الإسلام, في أصوله الأولي, من وصمة الاستبداد التي شاع إلصاقها به في التقليد الاستشراقي.
بل إنه سرعان ما انتقل إلي تأكيد أن ما عرفه الإسلام في تاريخه من الاستبداد إنما هو مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم, وليس هو من دينهم. ويحدد الرجل هذا الغير- الذين أخذ عنهم المسلمون ما عرفوه من الاستبداد– بأنهم الأوروبيون في عصورهم الوسطي; والذين هم أسلاف صاحب خطاب الاستشراق الذي ينكأ جرح المسلم بخطابه المعادي. ولقد كان ذلك هو نفس ما فعله الأستاذ الإمام محمد عبده, حين راح يرد عن الإسلام تهمة مخاصمة العلم التي ألصقها به هانوتو, ولينتهي بعد ذلك إلي الثأر من هانوتو عبر إلصاق تهمة مخاصمة العلم إلي النصرانية التي ينتمي إليها خصمه الفرنسي.
والحق أن الأمر عند الرجلين( الكواكبي وعبده) لا يتعدي حدود كونه رغبة وعي جريح في تضميد جرحه عبر الثأر من المستشرق, ولو من خلال التعريض بأسلافه الأقدمين. فقد بدا للوعي المسلم أنه لا سبيل إلي مجابهة الحاضر الذي يختصه بالتأخر, بينما يخص الأوروبي بالتقدم والازدهار, إلا باستدعاء الماضي الذي كان الازدهار فيه للمسلمين, بينما كان التأخر من نصيب الأوروببين. وضمن هذا الاستدعاء فإنه يجعل حاضره المتأخر هو مجرد صورة من ماضي الأوروبي, بينما يجعل الحاضر الزاهي للأوروبي هو صورة من ماضيه كمسلم. وهو إذ يرد تأخره إلي أوروبا, بينما يرد ازدهار الأوروبي إلي الإسلام, فإنه يستريح ويبرأ من جرحه المهين
وبهذه التبرئة للإسلام فإن الكواكبي يضع نفسه ضمن أفراد الطابور الطويل من مفكري لحظته, الذين يأتي علي رأسهم الأستاذ الإمام محمد عبده, والذين تبنوا- في مواجهتهم لخطاب الاستشراق المتحدي- خطابا اعتذاريا ينبنيء علي التمييز بين إسلام؟ يبقي بريئا من أي نقص من جهة, وبين مسلمين يمثلون النقيض المتدهور المنحط لهذا المثال الكامل النقي من جهة أخري. إنها الأطروحة التي تجد تعبيرها الأمثل فيما مضي إليه الأستاذ الإمام- بعد تعرفه علي أوروبا- من أنه قد وجد فيها إسلاما من غير مسلمين, وذلك في مقابل ما تزخر به ديار الإسلام من مسلمين بغير إسلام. وبالطبع فإنها ذات الأطروحة التي تلح علي قراءة الأزمة في ابتعاد الناس عن الإسلام; والتي يركز عليها دعاة هذه الأيام التليفزيونيون خطابهم.
وبالرغم من هذا الاتفاق بين إصلاحيي القرن التاسع عشر ودعاة هذه الأيام التليفزيونيين, في قراءة أزمة التأخر العربي بعامل الابتعاد عن الإسلامفإنه يبقي أن قراءة كل منهما لتلك الظاهرة تختلف عن قراءة الآخر لها علي نحو كامل. وللمفارقة فإن القراءة الإصلاحية, القادمة من القرن التاسع عشرلهذه الظاهرة, كانت أكثر وعيا واستنارة من القراءة الراهنة التي يقدمها دعاة هذه الأيام لها. إذ فيما يلح دعاة هذه الأيام علي تفسير ابتعاد الناس عن الإسلام بالميل المتأصل في نفوسهم إلي الهوي; وعلي النحو الذي يترتب عليه ضرورة زجرهم وقمعهم, فإن رجل الإصلاح قد ألح, في المقابل, علي مسئولية الاستبداد الكبري في إبعاد الناس عن جوهر الإسلام. ومن هنا فإن رجل الإصلاح لم يكن أكثر فهما فقط, بل وكان أكثر جرأة وشجاعة من شيوخ هذه الأيام البؤساء; الذين لا يفعل الواحد منهم- للأسف- إلا أن يكون معينا للمستبد في السيطرة علي المحكومين.
قد مضي رجل الإصلاح يفضح الطريقة التي يسطو من خلالها المستبد علي الدين ويحيله إلي مطية لطغيانه واستبداده; سواء كان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه صفة قدسية يتشارك بها مع الله, أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله, أو يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه علي ظلم الناس باسم الله. وبالطبع فإن هذا الامتطاء للدين, من جانب المستبد, هو ما يجعل منه مجرد زخارف ورسوم شكلية خارجية; وبحيث يتحول إلي ما يشبه الدواء المهدئ الذي تتعاطاه جماهير يائسة محبطة, لتتعزي به عما تعانيه من الاستبداد والقهر, ويفقد دوره الجوهري في تنوير الإنسان وتحريره بالأساس; وبما يعنيه ذلك من تأكيد دور المستبد في تفريغ الدين من مضمونه وتحويله إلي مجرد شكل فارغ.
وبالطبع فإن ذلك يرتبط بحقيقة أنه إذا كانت الصورية والشكلانية تعني أن العلاقة بين الإنسان وغيره, هي علاقة ارتباط خارجي محض, ولا مجال فيها لأي أبعاد باطنية; وبما يعنيه ذلك من أن خارجية الروابط هي أساس الشكلانية وأصلها; فإن تلك الخارجية- كخصيصة جوهرية للارتباط بين الظواهر والأشياء– إنما تجد ما يؤسسها في بنية الاستبداد ونظامه. إذ يعني الاستبداد أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تقوم, في جوهرها, علي خضوع المحكوم وإذعانه لسلطة تفرض نفسها بالقهر والاعتساف; وبما يستتبع ذلك من أنها تقوم علي محض الإكراه والقسر الخارجي, وليس الرضا والقبول الباطني. وهكذا فإن ما أهم ما يترتب علي الاستبداد أنه ينطوي علي ترسيخ نمط من العلاقة يقوم علي الإكراه والزجر الخارجي, وليس القبول الرضائي الباطني. وبالطبع فإن هذا الضرب من الارتباط الخارجي يستحيل إلي خصيصة لازمة لكل أشكال العلاقات التي تقوم,بين البشر, في ظل حكم الاستبداد; سواء علاقتهم مع الله أو بينهم وبين أقرانهم. فالدين يستحيل إلي محض طقس شكلي ينبني علي علاقة خارجية محضة بين العابد والمعبود, وتتحول الأخلاق, بدورها, إلي مجرد إلزامات وقيود خارجيةلا يلبث المرء أن يتهرب من تبعاتها الثقيلة حين تواتيه الفرصة. وتصبح السياسة مجرد وثائق فارغة, وجملة ممارسات إجرائية شكلية تقوم عليها مؤسسات ومجالس صورية, وحتي العلم يتحول إلي محض تقنيات وعمليات سطحية يمارسها البعض علي نحو يدنو بها من الممارسة السحرية; وبما يفسر استمرار سيادة عقل التقليد والخرافة.
وإذ الاستبداد يؤول, هكذا, إلي تبديد المحتوي الروحي والأخلاقي للدينفإنه لن يكون غريبا أن يجد هذا الاستبداد في الدين الصوري الشكلي ما يدعمه ويطيل أمد بقائه; وأعني من حيث يكون مصدر عزاء, لا استنارة, للمحكومينوبالطبع فإن ذلك يعني أن التدين الشكلي هو قرين الاستبداد في تفسير التأخر العربي; وبما يؤكد بؤس خطاب دعاة هذه الأيام الذي يرد التأخر إلي ابتعاد الناس عن الدين; وأعني من حيث لا يجاوز الدين, عندهم, حدود الأشكال والرسوم.
ويبقي لزوم التأكيد علي الأخطر, وهو أن الاستبداد يأبي إلا أن يترك بصمته علي البنية الباطنية للدين; وأعني من حيث يفتح الباب أمام اتجاهات بعينها لاحتلاله من الداخل, وتقديم رؤاها علي أنها, وحدها, هي التعبير المطابق لهوبحيث تجعل من الاختلاف معها, اختلافا مع الدين ذاته; وبما يجعل منه- في النهاية- واجهة للاستبداد, وغطاء له. ولسوء الحظ, فإن ذلك هو بعض ما يصطخب به المشهد المصري الراهن.

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا