لم يجد الأمازيغ حرجا في استعارة أبجدية
مستعمريهم،وجيرانهم:
أيُّ لغة هذه ،التي صمدت لِلقرون ،ذواتِ
العدد،وللاحتلالات الأجنبية المتعاقبة؛ ولا
يزال يتحدثها الملايين ،في مجال يمتد
من التخوم المصرية إلى المحيط الأطلسي؛ومن السنغال والنيجر إلى الأبيض المتوسط؟
ومن أين أتت؟
شيء واحد يبدو مؤكدا: كونها اللغة التي تحدثها الليبيون
القدماء؛الذين اصطدموا ،في الألفية الثانية قبل الميلاد،بالفراعنة ؛أولائك الذين
التقى بهم اليونانيون في "برقة"؛النوميديون والبرابر MAURES الذين وجدهم القرطاجنيون والرومان أمامهم.
لكن كم هي فقيرة الوثائق التي خلفها الكتاب
الأقدمون ،بهذا الصدد !لقد ميز
هؤلاء ،بوضوح، اللغة الليبية عن البونيقية؛و اعترفوا
منذ البداية بأنها عبارة عن لهجات مختلفة؛كما
أبانوا عن اشمئزازهم من تعلمها ،والصعوبات التي تعتري دراستها.
(PLINE: يستحيل على غيرهم نطق أسماء قبائلهم ،ومدنهم)
مِن هذه اللغة البربرية Berber- حسب نعت الكاتب- لم
ينقل لنا اليونانيون واللاتين سوى خمسة عشر كلمة تقريبا؛لانجد لها أثرا في لهجات
اليوم.
هل توهم الأقدمون اللغة الليبية في الهجين اللغوي ،الذي كان متداولا بين السكان
الأصليين والكولونياليين الرومان ؛كما يحصل حتى اليوم؟ أم هل نفترض أن البربرية –وهذا أمر غريب- وعلى
مدى ألفي سنة ،تغيرت إلى هذا الحد؛بحيث لا نعثر في اللغة الحالية حتى على جذور
الكلمات القديمة؟
وعليه فلكي نؤرخ لهذه اللغة ،إزاء كل هذا الفقر،ليس لنا إلا أن نُعول على مصادرنا
الحديثة.
وإذا كنا نجد فيها كلمات فينيقية،رومانية
،وعربية ؛فهي لا تنحدر من أي لغة من هذه اللغات . حسب ما يبدو من النظرة الأولى ،لا
قرابة لها مع أي لغة من اللغات المعاصرة؛باستثناء – ربما – اللغة القبطية ،لدى
مسيحيي مصر.
تبدو البربرية كآخر ممثل لعائلة من اللغات
انقرضت كلية. لكن أي عائلة هذه؟
في شِعاب جبال البرانس توجد لغة ،لا صلة لها –
بدورها- بجوارها اللغوي.لغة لم تحدد
أصولها بعد:إنها الباسكية.
لقد تم البحث في العلاقات الممكنة بين
الباسكية والبربرية.اشتغل على هذا المنحى "دو شرونسي" ، "فون كبلينز"
و "شوشاردت"؛فكانت النتائج رديئة،رغم البدايات الواعدة. وبدون جدوى توهم"
بيرتولو" ،من جهته ، ترتيب القرابة بين البربرية
واللهجات الإغريقية.
الأبحاث الأكثر علمية التي انصبت على اللغات
السودانية لم تُفض ،بعد،إلى نتائج ايجابية.(يبدو أن بعض اللغات الأثيوبية
،و"الهوسة" لا تعدم انجذابات صوب اللغة المصرية القديمة والبربرية.)
منذ حولي خمسين عاما أكد "دو روشيمونتكس"
–مستندا إلى التشابه بين الضمائر، والنظام الصرفي- وجود قرابة قوية بين البربرية والمصرية القديمة. من وقتها بدا الأمر معقولا ؛واليوم تعودنا أن
نقبل كون المصرية ،وسليلتها القبطية ،من جهة؛و البربرية من جهة أخرى ،هي لغات
تنتمي لمجموعة واحدة مشتركة ؛ننعتها بالحامية؛أو أيضا بالماقبل سامية؛اعتبارا
لتماثلات لا تُنكر –رغم كونها بعيدة- مع اللغات السامية: قد تكون غصنا اقتُطع، قديما جدا ،من هذه
المجموعة الكبرى.
لم يزد "روشيمونتكس" على تحديد إطار
للدراسات ؛إذ لم تكن بين يديه- إضافة إلى معارفه
الشخصية - من الأعمال ذات الأهمية عن البربرية ، إلا أبحاث "هانوتو"HANOTEAU:قواعد اللغة القبائلية،وقواعد ال"tamachek ".
اليوم، حيث اطَّردت معارفُنا الدقيقة
،بخصوص مختلف اللهجات البربرية ؛وحيث بُذلت
جهود كبيرة في مجال علم الآثار المصرية ،يمكن مواصلة بحث الموضوع بكل أبعاده.
مع كامل الأسف لا يوجد ،إلى اليوم،تواصل بين عِلْمَي الآثار المصرية ،والبربرية . يجب أن تتأتى
لنا معرفة عميقة جدا باللغتين ؛وكذلك باللغات الزنجية من نفس المجموعة ،لنتمكن
من رصد الروابط بينها.
في ما يخص البربرية فان تنوع الأشكال المتعايشة
يقتضي - تبعا لتعدد الألسن ،وانعدام الكتابة ؛وهي الكفيلة بتثبيت اللغة- المعرفة
الجيدة بكل اللهجات ،والعلاقة بينها وبين اللغات الأجنبية ،وقواعدها الصوتية phonétiques الخاصة؛لنتمكن من تبين ما هو أساسي ،حقيقة،
في اللغة.
هل
سيوجد ،ولو في المستقبل البعيد،عالم مصريات ،يخصص سنين عديدة لدراسة البربرية ؛أو
عالم أمازيغيات ينكب على دراسة المصرية؟
إن البربرية لم يتم تثبيتها أبدا
بالكتابة؛رغم أن الفرص واتت ليحصل هذا.
وفي الواقع لم يجد البرابرة حرجا في استعارة أبجدية مستعمريهم ،أو جيرانهم
الأقوياء،البونيقيين ،الرومان أو العرب؛وقد كانت لهم قديما أبجديتهم؛وبعضهم يحافظ
عليها إلى اليوم.
الأبجدية الليبية:
وجود الأبجدية الليبية معروف منذ القدم .لقد اكتشفت
الكتابة المزدوجة الأولى ، الليبية البونيقية،ب"دوقة" DOUGGA التونسية،سنة1631م. وعلى مدى قرنين تم العثور على
كتابات أخرى؛ في مجال جغرافي كبير ،يمتد من شبه جزيرة سيناء إلى جزر الكناري. لم يتم ،بعد،الوقوف على معانيها ؛لكن شيئا فشيئا يتم تحديد الخطوط العريضة لهذه النقوش.
بعض هذه الكتابات المزدوجة اللغة،ليبية
بونيقية (بصفة خاصة البونيقية الجديدة)،وليبية لاتينية ؛لكن في الغالب نصوص ليبية
فقط، في غاية القِصر؛تتشكل من حروف منقوشة أو مرسومة،على واجهة صخرية،باعتماد تراب
رصاصي.
أما من حيث الخاصيات الهندسية ،فهي عبارة عن
خطوط،نقط،صلبان ،مربعات ودوائر. لا قاعدة معتمدة،ولا فواصل بين الكلمات.
لا اتجاه قارا للكتابة: تارة تتتابع الحروف
من اليمين إلى اليسار؛و طورا من اليسار إلى اليمين؛وتارة يتم الخلط بين الاتجاهين(
Boustrophédon ) .
أحيانا
تتجه الكتابة عموديا،من الأسفل إلى الأعلى ،أو العكس؛وأحيانا تصبح حلزونية spirale. حتى شكل الحروف لا يلازم دائما هيئة واحدة.
لقد تمكنا ،تقريبا،من فك مغاليقها كلها؛وكما
يحصل دائما في مثل هذه الحالات ،تقدم الأسماء الصحيحة ،المتضمنة في الكتابات
المزدوجة، العناصر الأولى للحل. في سنة
1843 توصل DE SAULCY إلى نتيجة مهمة:
أثناء اشتغاله على كتابة"دوقة" السالفة
الذكر،تمكن من التحديد الأكيد ،تقريبا،لقيمة/دلالة عدد من الرموز الليبية .
لقد تم الاعتراف بكوننا إزاء كتابة مقطعية syllabique؛ حيث –كما هو الشأن في الأبجديات السامية –تحضر فقط
الحروف الصائتة.
انكب بعض الأركيولوجيين الجزائريين - و يجب
أن نُحِلَّ الصدارة منهم ،REBOUT،الدكتور JUDAS،والجنرال FAIDHERBE- على البحث عن كتابات أخرى ؛وقد حققوا ،من 1860 إلى
1870، نتائج مهمة ،خصوصا في مقاطعة قسنطينة.
مع الأسف لم يتوقفوا عند حدود ضبط مواقعها
واستنساخها ؛بل أجهدوا أنفسهم في ترجمتها ؛سعيا لتوظيفها ، رغم قلة كلماتها ،في
تأكيد نظريات اثنية شديدة الاختلاف. وقد
انخرط في هذا الورش أركيولوجيون ،لغويون، وأنثربولوجيون؛يتساوون في ضعف الخبرة.
هكذا تمت نسبة البربر لكل الجهات ،وحُدد لهم
أسلاف من كل شعوب العالم ؛ ومن هؤلاء من لم يوجدوا أبدا؛على غرار
"الأطلنتيس" الأسطوريين.
لكن ،وتبعا لكل هذه الأبحاث التي يعود إليها
الفضل في الكشف عن كثير من المستندات الجديدة ،ظهرت سنة 1873 المقاربة الجدية
الأولى لفك كل مغاليق الكتابات الليبية المعروفة إلى الآن. يتعلق الأمر بعمل JOSEPH HALEVY؛حيث تحقق من قراءات
SAULCY،وحدد قيمة بعض الرموز الجديدة
،ووثِق َ من كونه قدم ترجمة المائتي (200) كتابة التي تم اكتشافها.
لقد كانت كلها ،حسب رأيه، كتابات قبوريةfunéraire ؛تتضمن ،غالبا،أسماء
أعلام ،تتخللها(وْ) الأمازيغية الحالية= ابن.
إنها آخر المحاولات الجادة لكشف مغاليق
الكتابة الليبية ؛ولا يعني هذا توقف البحث في هذا المجال ؛فقد تم اكتشاف كتابات
جديدة ؛ومن ضمنها ما هو بالغ الأهمية: الكتابة المزدوجة على ضريح
"ماسينيسا"، بمالطا؛وأهم منها كتابة "ايفيغا"ifigha،بالقبائل.
إنها أهم ما نتوفر عليه إلى الآن ،رغم كونها
، ومن خلال أربعمائة رمز، لا تشكل نصا
مسترسلا.
تفناغ: يتبع
بتصرف عن :HENRI BASSET
·
Essai sur la littérature des Berbères
Alger 1920
Sidizekri.blovie.com