من الأسئلة التي تتكرر دائما، ويكاد يسأل عنها كل من له علاقة مباشرة
بالكتابة، سواء أن كان شاعرا أو قاصا، هو سؤال الطقوس، ذلك الذي يسعى لاستنطاق لحظات
الكتابة
عن المبدع، ومعرفة أي الأشياء تدفع للكتابة، وأيها يبعده منها، وكيف يصيغ
العالم المتخيل، في نصوص وعوالم كبيرة، وهو جالس؟
سؤال الطقوس، سؤال مشروع في رأيي ومهم أيضا وينبغي إدراجه حين يقوم أحدهم
بدراسة كاتب ما، في تلك الرسائل الجامعية التي تكتب دائما لنيل درجات علمية، فأنا
يخصني جدا أن أعرف كيف كتب جيمس جويس رائعته عوليس، وفي أي بؤس، ووحشة كتب
همينغواي أعماله الخالدة، وهل يذهب أورهان باموق مثلا، إلى أي مقهى في شارع
الاستقلال الضاج لكتابة نصوصه، أم يبدعها في مكتب مغلق؟
وهكذا، حين يلم القارئ بالكاتب، أي يقرأ له أعمالا إبداعية، ويضيف إلى
معلوماته شيئا من سيرته ومغامراته الكتابية، يتم فهمه أكثر، وأظنني بهذه الطريقة،
فهمت كتابا عديدين كنت أقرأ لهم وتعجبني ما يكتبون، ومكنتني سيرة بول بولز،
المسماة "بدون توقف"، والتي قرأتها مؤخرا، من الإلمام بجوانب كثيرة مهمة،
من طقوس كاتب "السماء الواقية"، إحدى الروايات المدهشة، التي لا تغيب
أبدا عن الوجدان.
بالنسبة لطقوس الإيحاء والكتابة، فهي بالقطع تختلف من كاتب لآخر، هناك من
يستوحي من أي شيء بما في ذلك قرصة الجوع
لمصارينه، وجفاف لسانه من شدة العطش. ومرور فراشة تترنح بالقرب من عينيه،
وهناك من لا يستوحي إلا من أشياء ضخمة، مثل المعارك، والزلازل والفيضانات، وتشرد
الناس في الأرض، ومن لا يريد إيحاء ولا يبحث عنه، وتأتيه الكتابة طواعية، وهو جالس
في عزلة تامة.
وتأتي مسألة الكتابة نفسها، أي ساعات الكتابة نفسها، وكيفية إنجازها، وتحت
أي ضغط أو شحنة؟ ويأتي الاختلاف الكبير، بين المبدعين، وقد تحدثت مرة عن كتاب
"طقوس المبدعين"، الذي جمعه الكاتب السعودي عبد الله ناصر الداوود في
جزأين رائعين لمن أراد أن يلم بعوالم لا يعرفها عن الكتابة، أو يعثر على إجابة
السؤال المطروح، دائما: ما هي طقوس الكتابة؟
لقد اجتهد الكاتب حقيقة في جمع مادته الغنية بصبر، أشبه بصبر الباحثين
الأكاديميين، وعلى مدى أشهر، حتى استطاع في النهاية أن يمنحنا شيئين: أولا متعة
القراءة لكتاب مختلف عن بقية الكتب المتراصة في مكتباتنا، أو أذهاننا، وثانيا
لمحات لعالم إبداعي نعرف صناعه جيدا من خلال قراءتهم كتبا، ولا نعرف كيف يصنع ذلك
العالم.
فأنت حين تقرأ رواية مثل "مائة عام من العزلة" تصيبك الدهشة، من
وجودها أمامك كاملة وناضجة، ولا تستطيع أن تتخيل كم بقيت على نار الكتابة حتى تنضج
وتدهش، وماذا كان يرافق كتابتها من فوضى أو نزق أو احترام. نهتم بالعمل الإبداعي
حقيقة، ولا ننظر إلى ما وراءه. وتأتي فكرة عبد الله ناصر الداوود، في اعتقادي نوعا
من التواصل غير المباشر مع الكاتب، حين يمنحك طقوسه أثناء الكتابة.
القارئ للكتابين، لا يجد صعوبة في الدخول إلى كل طقس والخروج منه، وقد
كتبت كل الطقوس بطريقة سلسة وسهلة، وفي الغالب هي لغة الإبداع نفسها التي يستخدمها
الكاتب في نصوصه، وقد كان لكل كاتب من الذين شاركوا، طقوسه الخاصة التي ربما تتفق
مع كاتب آخر، وربما تختلف معه كما ذكرت، لكنها في النهاية كلها، شهادات جديرة
بالتأمل، وعمل توثيقي لا يجب أن يعبر مثل أي عمل آخر، وإنما يراجع باستمرار.
الذين شاركوا سواء كانوا من العالم العربي أو العالم البعيد اتفقوا تقريبا
في أن لهم طقوسا أثناء الكتابة، فقط اختلفوا في مسألة الاحتراف الكتابي المفقودة
بالطبع في عالمنا العربي، فمعظم كتابنا ليسوا متفرغين، ولا يمكن أن يتفرغوا في
الوقت الحاضر، لذلك تجد الكاتب العربي سارقا حقيقيا للوقت، يسرقه من ساعات عمله
الرسمي الذي يعتاش منه، ويسرقه من هدوء عائلته وواجبات أبنائه، ويظل هكذا حتى
يحترق في النهاية. بينما الكاتب الأوروبي يعرف تماما حاضره الذي يكتب فيه، ويستطيع
أن يتكهن بلا عناء، بمستقبله ومستقبل عائلته كلها.
كتاب يحبون الكتابة في الليل، آخرون مثلي، يخاصمون ليل الكتابة ويحبون
ساعات النهار. كتاب تستهويهم الخلفيات الموسيقية ويجدون فيها إيحاءات شتى، آخرون
تجرح الموسيقى أفكارهم، تشردها، البعض يكتب في المقاهي والطرقات المزدحمة،
والفنادق الضاجة بالنزلاء والتدخين، البعض الآخر يكتب في بيته، في غرفة مغلقة.
ثمة من يكتب عنوانا قبل النص ومن يكتب نصا، لا يعثر له على عنوان إلا بعد
جهد، وهكذا تتداعى تلك الطقوس المتباينة، لدى كل واحد، لتصب في النهاية في أعمال
إبداعية، نقرأها ونشيد أو لا نشيد بها.
المصدر : الجزيرة