يبدو المغرب ،في محيط إقليمي وعربي لايعرف كيف يهدأ
،نظاما مستقرا و"استثنائيا" ،وأكثر انسجاما مع متطلبات الانفتاح والديمقراطية
،تمضي فيه الأمور بهدوء وسلاسة
،حتى ليخيل للمرء أن "ثمة وصفة سحرية" تضبط
التوازنات داخل المجتمع بخيط رفيع وتمنعها من أن تنفلت، أو تنزاح خارج مدار الاستقرار
،كما هو حاصل في عديد الدول العربية ،التي جرفتها "رياح الربيع العربي" ،وأطاحت
بأنظمتها وحولتها إلى أثر بعد عين ،كأن لم
تغني بالأمس!، بينما مرت على المغرب بردا وسلاما، بل وتركت وراءها هدوءا وأمنا
واستقرارا..
من الصعب أن يصدق المرء أن مجرد خطاب تاسع مارس
أسكت غضب الشوارع ضد الظلم والاستبداد ،لأن مثله صدر عن أنظمة عربية عديدة قبل أن تنهار
ولم تأبه لها الحناجر الهادرة ،لماذا إذن في المغرب؟! قدمت أجوبة كثيرة في هذا الصدد
،أبرزها قوة ونفوذ ومكانة الملكية في النظام السياسي المغربي وقدرتها على السيطرة على
الأحداث ،وتعبئة النخب لصالحها ،وثمة أجوبة أخرى تتحدث عن "مؤامرات" و"ترتيبات"
تمت في الخفاء بين فاعلين سياسيين وممثلين للدولة ،تجد تداعياتها في الخريطة السياسية
التي أعقبت أحداث "الربيع العربي " في المغرب ،لكن هذه الأجوبة المرتبطة
ب "المؤامرات " و"الترتيبات" تبقى محض فرضيات وتفسيرات ،لأن مثل
هذا جرى في دول عديدة ولم يشفع لها في تلافي خطر الانهيار،ولذلك ربما قد يكون التفسير الأقرب إلى التفكير والواقع هو المرتبط بطبيعة النظام السياسي المغربي ،الذي تتربع على قمته ملكية
متجذرة ،تملك شرعية عتيدة ،لا يجادل أحد في
وجودها و لا في استمرارها ،ولا يريد التفريط فيها مقابل بدائل غامضة ،يصعب استتبابها
في مجتمع مكون من "ملل" و"نحل" مختلفة ، وحده النظام الملكي أفلح
حتى الآن ،ومنذ زهاء 12 قرنا في جمع شعثه ،وتوحيد شرائحه وفئاته ومكوناته ، في إطار
دولة لم تكف عن التطور،بدأت "بدائيةّ وتقليدية ،وتطورت حتى أصبحت اليوم جامعة لكل مقومات الدولة الديمقراطية (دستور، برلمان منتخبة ، حكومة
منتخبة، قضاء،أحزاب ،نقابات ،جمعيات مدنية..) أليست هذه هي المقومات الشكلية للدولة
الديمقراطية ؟! بغض النظر عن مضمون هذه الآليات ،لأن مفعول هذه الأخيرة وكذا تفعيلها مرتبط بمنسوب الوعي الاجتماعي والسياسي في المجتمع
،ولم يكن النظام الملكي الحاكم في المغرب بمنأى عن هذا التطور والاستمرار الذي عرفته
الدولة المغربية طيلة 12 قرنا،بل ظل مواكبا له، ومتكيفا معه، ومنفتحا عليه ومساهما
فيه، وهذا دليل على أن الملكية في المغرب ظلت مسايرة لمتطلبات الانفتاح والتطور،بل
أحيانا تبدو أكثر انفتاحا من المجتمع الذي تحكمه ،علما أن المجتمع المغربي في عمومه
مجتمع محافظ ، قد لا يستوعب بسهولة انفتاح
النظام الملكي على الآليات الديمقراطية ،وفي هذا الإطار لم يستوعب بعض فقهاء الدين
تقييد يد الملك في تعيين الحكومة في إطار الدستور الجديد ،لأن الفهم الكلاسيكي لإمارة
المؤمنين عند هؤلاء لا يستسيغ هذا التقييد ،وبالتالي فإن محافظة النظام الملكي وتقليدا
نيته هي من محافظة وتقليدا نية المجتمع ،أو على الأقل فئات واسعة من المجتمع ،وهذا
يتماشى مع الأثر النبوي الذي يقول " كما تكون يولى عليكم"،ومن هنا يمكن أن نفسر - مثلا- بعض الإمكانيات والصلاحيات والأوضاع
الدستورية التي تحتفظ بها الملكية في الدستور الجديدة ،فهي ضابطة لتوازنات مجتمعية
معقدة ،قد لا ترضي الحداثي والتقدمي الطامح إلى ممارسة ومجتمع ديمقراطيين على غرار
النموذج الغربي ،لكنها في المقابل تلبي مطالب فئات أخرى في المجتمع ،وهذه القدرة الفائقة
التي تتمتع بها الملكية على التفاعل مع مطالب مختلف الفر قاء في المجتمع ،واجتراح صيغ
توافقية للمشكلات المجتمعية ،هو ما يجمع حولها الشعب المغربي على اختلاف مشاربه ،ويجعل
الطلب عليها قائما ومتجددا من لدنه ،وكلما اشتدت الأزمات وبرزت التناقضات في المجتمع
في القضايا المصيرية (قضايا الهوية، الإسلام .الخ.)كلما هرع الجميع إلى المؤسسة الملكية
طالبا تدخلها راضيا ب «تحكيمها".. قد يقال إن في المجتمع مؤسسات ديمقراطية وجدت
لحل الخلاف بين الفر قاء وتصريف المواقف بطرق حضارية دونما حاجة إلى اللجوء إلى المؤسسة
الملكية ،لكن ما العمل إذا عجزت هذه المؤسسات ( الدساتير ، البرلمانات ، المحاكم الدستورية،..)
التي أنتجتها بعض المجتمعات العربية ،والمغرب جزء منها في أن تغدو إطارات ديمقراطية
لتصريف الاختلاف حول القضايا التي تشق المجتمع
،بدليل أن هذه الميكانيزمات الديمقراطية كانت موجودة في بعض الدول العربية ،ولم تمنعها
من الانزلاق إلى مهاوي العنف والفوضى وبروز الاختلافات العرقية والطائفية ،والمغرب
يتميز عن هذه الدول، إذ بالإضافة إلى تسلحه بالآليات الديمقراطية الحديثة ،يتوفر على
مؤسسة عتيدة ،تسميها بعض الأدبيات الأنتروبولوجية ب" المخزن"، ويسميها الدستور
ب "نظام ملكية دستورية.."وهي متغلغلة في مفاصل الدولة والمجتمع ،وكلمتها
مسموعة ،ومطاعة ،ووجودها موغل في التاريخ ،وشرعيتها متجددة في الماضي كما في الحاضر،تعمل
إلى جانب المؤسسات الديمقراطية الحديثة التي ارتضتها وشاركت في خلقها، دونما عقدة نقص
،حتى أصبحت جزء منها .ولعل هذه "الوصفة السحرية" التي تجمع بين الآليات الديمقراطية
في إطار "نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية"(الفصل1 من الدستور)،تحتل
فيه المؤسسة الملكية مكانة مركزية ،بجانب المؤسسات
التمثيلية الأخرى، هي ما يكفل للمغرب استقراره ،ويعطيه هذا التميز في محيط إقليمي وعربي
لا يعرف كيف يهدأ! وإلا أنبئوني بعوامل وأسباب أخرى لتفسير هذا الاستقرار الذي ينعم
به المغرب لعلي أرجع إليه !