الأحد:
رأيتُهما أمامَ الشاطئ تُمسكُ يدُ الواحدِ منهما يدَ
الآخر، وعلى وجهيهِما تلوحُ خطوطُ عمرٍ بطولِ سنواتِ القهر والجوع. تبادلا ابتسامةَ
ودٍ صافية وبعضَ الكلماتِ القصيرة
المُبهمة التي لم تبلغْ مسامعي، ورأيتُ فيض مشاعر
تشرق في العيون، تنِمُّ عن حبٍ قديم لم تنلْ منه سنواتُ العمرِ الطويل. سنوات توحي
بعشرة طّيبة قضياها معاً يداً بيد ونَفَساً يتردّدُ في نَفَس؛ يخيِّمُ عليهما الحبُّ
والسعادة وأملٌ لم يزلْ ينبضٌ بالحياة.
جلستُ
على مقربةٍ منهما أراقبُ ما يفعلان. هو مَسَحَ نظارتَه وردَّها إلى عينيه ثم شردَ بذهنه
وناظريه إلى بحرٍ وسماواتٍ بلا حدود، وهي تأملتْ وجهَ البحرِ المضطرب كخاطرها كأنُما
تحدِّثُه عن حكايةِ حبٍ قديم؛ أو ساكنٍ في القلبِ غابَ في الأفقِ البعيد، حملَه مركبُ
رِيْحٍ أوغلَ في الرحيل. ذكريات عتيقة لكنها لم تزلْ حيَّة في القلبِ والبال.
راقبتُهما
بفُضولٍ وَغيرة لا تعرفُ إلاّ المحبة في أبسط الأحوال. نهضا يغادران المكان يتوكأُ
الواحدُ منهما على الآخر، ومضيتُ خلفهما أودِّعُ المكان وصورةَ الحبِّ والوفاء تنطبعُ
في ذاكرتي، وتراودُ روحي وحنيني إلى عهديهما أيَّام الشباب.
الاثنين:
في بدايةِ وعيِ حدّثني قلبي؛ وأخبرني أن حقيقةَ الكونِ
تتلخصُ في ماهيَّةِ الحب، وما أنا إلاَّ كباقي البشر مندوبة مثلهم لتحقيقِ رسالتِه.
الحبُّ لغزٌ كبير ما انفكّ يشغلني ويثيرُ كوامني، ويأمرُني قلبي أن أملأ به الدُّنيا
وعمري.
وصارتِ الفكرةُ تكبُرُ في رأسي وتؤرقُني وقد شاهدتُه
وعايشتُه البارحة بأمِّ عيني، الرجلُ وامرأتُه والحالُ الجميلُ بينهما والحبُّ الأبديّ
يربطُهما دفعني للتحدّي، واكتشافِ الحقيقة في فترةٍ أقصاها ستةَ أيامٍ فلا تزيدُ عمَّا
قرّرْتُه في أمسي. ستةُ أيامٍ فحسب خلقَ الله فيها الأرضَ والأكوان، إذاً ستة أيامٍ
تكفي.
لكنّي
لم أجدْ من يجسِّدُ الحبّ لي في لوحةٍ بالألوان ولا في سَحْبَةِ نايٍ أو كمان، أو ترنيمةٍ
في بيتٍ من الشعر أو بسمةٍ من ثغرِ ملاك قادمٍ من أبعدِ السماوات، أوْ مَنْ يزرعُ لي
غابةً من الصنوبر والشربين، والإبحارِ في رحلةٍ نحو عالمٍ ينعمُ بالسلام. وقلبي يُلح علي كثيرا لكي أسرع، فلا يتركني لأتِمَّ
له رسالتي وبوحَ روحي وقلبي. لذا قررتُ تجسيدَه في صورةٍ استوحيتُها من عناقِ قُمْرِيَّةٍ
لعاشقِها من طيرِ الحَمام، أو صورةَ حجيجٍ في قصدِه إلى بيتِ الله الحرام، وماذا عن
رقصةِ درويشٍ يدورُ مسلوباً على نفسِه؟ ثم ماذا عن البحرِ وحالِ العجوزين العاشقين؟
هكذا استقرّ الإيمانُ في فكري؛ والوجدُ في قلبي طوَّبني راهبةً في معبد الحبِّ.
الثلاثاء:
من الساعةِ الثامنة من صباحِ اليوم، وحتى الثانية عشرة
ظهراً، أربعُ ساعاتٍ بثوانيها وأمي لم تتعبْ ولا زالتْ تنعتُني بالخِفّةِ والجنون،
قالتْ لي مراتٍ كثيرة: "أنتِ مجنونة" يا قلَّةَ حيلتي فيكِ! قالتها أربعَ مراتٍ على التوالي، لأني اتّخذتً
قراراً بتركِ عملي والتفرُّغِ للتصوير، استجابةً للغايةِ التي آمنتُ بها؛ والرغبة التي
راودتني فنذرْتُ لها نفسي من صغري. لن أتراجعَ أو أهَن، سأتمسكُ بقراري وغداً سيشهدُ
العالمُ صمودي وإصراري. هكذا انتهى يومي وأنا أتوقعُ كلمة مجنونة للمرة الخامسة، لم
تقلها الجارةُ ولا أعادتْها سيِّدَتي أمي.
الأربعاء:
استندتُّ إلى الحائطِ في صحنِ الدّار، ورحتُ انظرُ
مباشرة إلى النخلة الوحيدة في فناءِ الحوش، وأنا ألقي على جذعِها الحصى الصغيرة بلا
غاية أو سأم، الواحدة بعد الأخرى على التوالي أفكِّرُ في أمري وفي النخلة الصابرة على
استخفافي بها وعدواني. كم ستتحملُ يا ترى من أذاي وفظاظتي؟ وكيف لها أن تتحملَ تفردَها
ووحدتَها وأشعةَ الشمسِ الملتهبة في الفناء؛ فلا تبوحُ بذكرياتِ سنواتٍ طوال؟ هذه الصابرةُ
المؤمنة لطالما تجاوزتْ غضبَنا وانفعالنا ونَسِيَتْ أحزانَها بالعطاء.
مرّتْ بقربي جارتُنا وهي تغادرُ دارَنا بعد زيارةٍ
عادتْ بها أمي. رمقتْني بنظرةٍ ساخرة كأنّها تؤكِّدُ ما سمعتْه عن خيبتي وجنوني. لعلّها
تفاخرُ بابنتِها الطبيبة؟ وكأن الكون لا يستقيمُ
إلا بتضحياتِ الطبيبِ وأياديهِ الرّحيمة، قالتْ وهي تدقُّ كفاً بكفّ: "السماءُ
لا تمطرُ ذَهَباً يا ابنتي". رحتُ أردِّدُ وراءَها: "السماءُ لا تمطرُ ذهباً؛
والنخلةُ تمطرُ ثمراً كافيا يا خالتي..السماءُ لا تمطرُ ذهباً والنخلةُ تمطرُ ذهباً
لكنّه لا يكفي يا أمي..! مِنْ صغري ونخلتُنا المحبوبة صامدة في وجه الشمسِ والرّيح،
أعانقُها في فرحي وحزني وأَحْسَبُها تفهمُني وتَطيبُ لها صبابتي وعطفي". نظرتْ جارتُنا بازدراءٍ نحوي وغادرتْني. وأنا حبِّيَ
دمعةٌ عَبَرَتْ فوقَ خدِّي؛ فاستقرّتْ قليلاً على ذقني، وهبطتْ بعدها آهة حَرَّى إلى
صدري.
الخميس:
رأيتُهما اليومَ للمرةِ الثانية عند شاطئ البحر، جلسا
على ذاتِ المقعد بعد الوقوف قليلا والصلاة أمام
كعبةِ العاشقين، هو مَسَحَ نظارتَه وشردَ بالتفكيرِ كعادتِه، وهي تأمَّلتِ البحرَ
أيضاً وتبادلا ابتسامةً طيِّبة. هذا المشهد يتكررُ كل يوم إلاَّ أنه هذه المرة لَثَمَ
أناملَها بخشوع العابدِين. خلعتُ حذائي وتسللتُ على أطرافِ أصابعي لاقتربَ منهما أكثر
دون أن أعكّرَ صفو جلستِهما؛ فالتقطُ صورةً لهما لأخلِّدَ معنىً جذوة الحبِّ التي لم
تنطفئ بعد.
التفتا
نحوي فغشاني الإحراجُ والخجل مما فعلت؛ لكأنّني كنتُ أتجسّس عليهما! استدركتُ الموقفَ بابتسامةٍ صادقة ونظرةِ إعجابٍ
للحبِّ بينهما، فقابلاني برقةٍ وبادلاني الابتسامةَ بابتسامة أنقى وأطيب، شكرتُ الله
وشكرتُهما على الاستجابةِ الكريمةِ لرغبتي؛ لكي أصور بآلتي بينهما حالةَ الحبِّ.
الجمعة:
أردتُ تخليدَ حبٍ طاهرٍ كالذي رأيتُ البارحة، فلم أنجحْ
في بدايةِ يومي ولم أرَ أثراً لعاشقين معا، انقضى النهارُ بطيئاً بمعظمه واقتربَ موعدُ
غيابِ الشمس ولمّا أعْثرْ بعدُ على غايتي.
في الليل سيبدو الحبُّ مختلفاً وأكثر شاعريَّة. أطولُ فرحاً وأشدّ عمقاً يتغلغلُ
حلواً في حنايا الروحِ والجسد، ويتراءى طلوعُ
الفجرِ ونورُ الصُّبحِ ولادة جديدة لكلِّ عشقٍ في المساء.
لجأتُ من فرطِ وَجْدي إلى حديقةِ في الجوار؛ ورأيتُ
عصفوراً صغيراً ريشُه جميلٌ بلون فراشة. رأيتُه فرحاناً جذلاً يقفزُ من غصنٍ إلى غصن
يرودُ عصفورتَه، أبْهَجَ عيني وأطربَ سمعي وضاعفَ وجيبَ قلبي؛ فالتقطتُ صورةً له. ثم
رأيتُ بَعْدَه نحلةً.. نحلة مجتهدة خِفْتُ من لسعتَها وابتعدتُ قليلاً وأنا أراقبُها
بحب وحذر. كانتْ تغرسُ نفسَها في أحضانِ زهرةٍ فأسَرَني المشهد والتقطتُ لها صورةً
أخرى. بعدَ عودتي مساءً تذكرتُ خيبتي وفشلي في التقاطِ صورةٍ للحبِّ، تأملتُ الصورتين
معاً حصيلةَ نهاري وكدِّي. هذا عصفورٌ على غصنِ شجرةٍ يرودُ عصفورتَه ونحلة في حضنِ
زهرة، أليسَ في الصورتين ما يوحي بمظهرِ حبٍ ضائعٍ لا زلتُ أعدو وراءَه؛ وأنا من خيبتي
كما تقول أمي لا أدري أنه بات في يدي!؟
السبت:
ساعةً واحدةً فحسبْ قد تُغَيِّرُنا، موقفٌ واحدٌ قد
يغيرُنا، إنسانٌ واحدٌ قد يُغيِّرُ فينا الكثير، كلمةٌ واحدةٌ، لوحةٌ واحدةٌ، وصورةٌ
واحدةٌ قد تُغَيْرنا إلى الأبد. فماذا عن ستةِ أيامٍ أُخَرْ!؟ ستةُ أيامٍ غيَّرتْني، ستةُ أيامٍ عرَّفتْني الحقيقة
وقالتْ لي إن الكونَ أجمل إذا أصابتْه قطرةُ عشقٍ. قطرةُ عشقٍ واحدةٍ كفيلةٍ أن تغيِّرَ
عالماً بأسرِه، إن هي لامستْ بقعةَ ضوءٍ أو نقطةَ
حبرٍ في قلم، فما بالُك وهي تلامسُ قلبَ إنسانٍ وروحَه؟ أصابتْني قطرةٌ منه في ستةِ أيامٍ فعلمتْني وخلَّدتني
كالنور والنجم والفضاء، وآمنتُ أن العاشقَ بالروحِ لا يفنى.. والكونُ؛ يا أنا الكونُ
كلُّه قائمٌ على الحبِّ.