-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

أحلام موؤودة : د. زهرة عز [1

خاص
أحلام موؤودة  : د. زهرة عز [1
إلى الطفولة المغربية الجريحة
         كانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحا حينما أنهى العربي، حارس السيارات ورديته، وتوجه إلى حانة بالمدينة القديمة. كان يسابق خطاه، ويمشي مهرولا، بعدما تأخر الليلة عن موعد كأسه. ربما القدر هو الذي أًوجده في مكان ما وزمن ما، حتى يمنع جريمة قتل نفس بدون حق. كانت فاطمة قد أنهت ورديتها داخل المستشفى، أمضت عشر سنوات بنفس القسم، قسم الولادات.  يومها كان متعبا وحزينا ونهايته دموع كثيرة. وجدت أمامها طفلة لم تتم ربيعها الخامس عشر" لو كان أبي قد وافق على حسن ابن خالتي، لكانت لي ابنة من عمر هذه الطفلة،" فكرت فاطمة، لكن حسن النجار تزوج ونجح في عمله سبب الرفض، وأبي يتحسر دائما عليه وعلى حالي ويذكرني نادماً بذلك كل يوم،. انتبهت إلى الطفلة تصرخ من ألم المخاض، للحظة حقدت عليها، ولعنت بنات اليوم المتاحات لكل من هب ودب.هن أكيد ، السبب في عنوستها. وهي البكر بنت أربعين سنة."إنها حياة من جمعية الأمهات العازبات"خاطبت السيدة التي ترافق الطفلة، الممرضة فاطمة.. نظرت فاطمة إلي الطفلة بتمعن وشيء من الحسد، كانت حياة، بيضاء البشرة، عيون كبيرة سوداء وشعر من سواد الليل. جميلة جمال الصبح، ونضرة تضخ من وجنتيها الدماء. ربما حرارة الوجع ليس إلا..وقد زادها الحمل جمالا،مدورة ومكتنزة، "آه كم تمنيت أن أزيد من وزني، ربما أصبح أجمل،جربت كل الوصفات وكل الأدوية رغم مخاطرها، لكن دون جدوى. مازالت عيوني غائرة. لوني باهث. وجهي شاحب ونحيف، ومازلت بدون أرداف أو صدر"تحسرت فاطمة على نفسها.. أدخلتها عند الطبيب،كان موعد الولادة قد أزف. وحياة جديدة على وشك معانقة حياة…أصبحت داخل قاعة الولادة فرجة للجميع. الكل مصدوم و يريد رؤية الطفلة التي على وشك أن تلد طفلا. رقت لها قلوب كل الطاقم الطبي بالمستشفى،حتى فاطمة الحانقة على فتيات اليوم و لوضع، سارعت بإمساك يدها للتخفيف عنها ومساعدتها للتخلص من حملها الثقيل. كانت ولادتها صعبة،اضطر فيها الطبيب لاستعمال آلة خاصة لسحب الطفل الذي يرفض الخروج طواعية، وكأنه يرفض المجيء لحياة يجهلها وظلم قد يطوله كما طال حياة..تمردت لكنها أذعنت وأطلت بشعرها الحريري الأسود وعيونها اللوزية. طفلة جميلة مثل أمها، أحبها الجميع من أول نظرة،حتى الطبيب المعروف بجديته وحزمه، ضعف أمام براءتها وجمالها. وجمال لوحة فنية مؤثرة، الطفلة حياة وهي تحضن حياة جديدة خرجت من رحمها، إنها أمل جميل.. وكان الاسم أمل. كانت حياة تضم أمل بشدة وتحضنها بقوة مخافة أن تضيعها في غفلة منها. لقد حذرتها فتيات الجمعية من النوم الثقيل..لن تنام الليلة رغم تعبها. هكذا قررت حياة وهي تنظر في ملامح أمل،وتحفظ كل نقطة فيها، كانت أمل ترضع وهي تمسك بأصبع حياة،تنظر في عينيها، حديث شجي صامت، وفجأة، أحست حياة رغم صغر سنها بدفء جارف وشعور لم تعهده من قبل ولم تعرفه. وأصبحت أمل هي حياتها، أنستها لوهلة عذاب الولادة وظلم الحياة. كان جمالها وبالا عليها،لم يجلب لها سوى الشقاء والعذاب. لن تنسى ذلك اليوم من أيام الشتاء،حين وقفت سيارة أمام باب بيتهم الجبلي.تقدمت سيدة متوسطة العمر مبتسمة إلى الباب يرافقها ولد حليمة، سمسار يتاجر في كل شيء، الأراضي والفتيات والمواشي..فتحت حياة الباب يحيط بها إخوتها الخمسة البنات، والصبية الثلاث. لرؤية القادم الجديد.وسيارته عن قرب، لم تكن تراها إلا صورة كتاب القراءة..كم تشتاق لمدرستها ومعلمتها الجميلة.وهي تحفظهم النشيد الوطني.. منبت الأحرار.. مشرق الأنوار.. وغم الفقر المدقع، والغرفة التي تكاد تخلو إلا من بعض الحصير وأثاث بسيط ، أصرت سعيدة، والدة حياة على دعوة الضيوف للجلوس وشرب الشاي، حتى البصارة موجودة سخونة وحارة في هذا البرد القارس.
لم تفهم حياة سر احتفاء أمها بضيوف لا يقربونها ولا تعرفهم. كانت تلاعب التوأم، عندما تناهى إلى سمعها اسمها يتردد كثيرا في حديثهم. استرقت السمع لتفهم ما سبب حضور هؤلاء الضيوف الغرباء إلى بيتها. انتابها فضول كبير ولم يستطع عقلها الصغير استيعاب ما يدبر لها في الخفاء. 'ستكون ابنة ثالثة لي،ابنتي الصغيرة تؤنس وحدتي بعد موت الحاج وزواج البنات، وتلاعب أحفادي الغالي وغيتة.حين حضورهما آخر الأسبوع."بدت الحاجة حبيبة وهي تقول هذا الكلام، آية في اللطف والنبل. سمعت أمها تقول لها" ولكنها تذهب إلى المدرسة،صحيح أنه بسبب الظروف المناخية وتساقط الثلوج.تنقطع الدراسة لأسابيع..لكنها تحب المدرسة ربما تصبح معلمة مثل سميرة بنت المدينة التي تدرس في البادية." "سألحقها بالمدرسة أيضا، لا تنقطع الدراسة عندنا،وعندما تكبر سأعلمها الطبخ والتطريز،ثم سأزوجها، حتى أثاث البيت أتكفل به،ستكون بمثابة ابنة حقيقية لي.." هنا تدخل ولد حليمة ليقنع السعدية بالخير الوفير الذي سيعم على العائلة. وقال لها مؤكدا" ابنتك ستكون في أمان وبين أيادي أمينة تهاب الله" و أضاف متحمسا " لو كان لي ابنة صغيرة، لما ترددت لإرسالها مع الحاجة حبيبة الطيبة، حجت ما شاء الله سبع مرات والعمرة مرات كثيرة"أنا أعرفها جيداً، ونسي أنه التقاها فقط قبل ساعة "كل شهر سأحضر حياة لزيارتك وأحضر الملابس والألعاب للأطفال الصغار ومؤونة شهر . 500 درهم لك و500 درهم أخرى أحتفظ بها لها حتى الزواج. سأقتني لها ذهبا كما كنت أفعل مع بناتي". كانت السعدية، سعيدة بكل هاته الوعود وبدأت تلين وتقتنع "لكن والدها لا يحضر إلا كل شهر، يشتغل بحمام مولاي يعقوب، ولا يمكنني إرسال حياة معك الشريفة " تعهد ولد حليمة بالاتصال بأحمد زوج السعدية،وأخذ موافقته.وإذا اقتضى الحال يسافر عنده. "شكون لي بحالك، ابنتك تتكفل بها امرأة طيبة، تعيشها وتكسيها وتتطببها وتدرسها ثم تعطيها نقود أيضا،فأي حظ هذا؟ أكيد أنتم ناس طيبين، بعث لكم الله هذه الخميرة الحلال، فهل نرفس نعمة الله؟ حاشا لله! وهكذا كان الاتفاق، أن اتصل ولد حليمة بأحمد زوج السعدية، يأخذ موافقته،ثم يهاتف ولد حليمة الحاجة حبيبة، لتأتي و تأخذ حياة إلى المدينة، العز و الخير و الحلوى... كانت حياة رغم صغر سنها،ونحافتها الشديدة، تساعد أمها بعد عودتها من المدرسة، تغسل الأواني وهي تغني الطقطوقة الجبلية، ولا تتعب من ملاعبة إخوتها الصغار، كانت تضحك ملء جوارحها، حتى تستلقي على ظهرها، وهي تلاعبهم لعبة الدغدغة... لم تستطع النوم بسهولة، في ليلة الزيارة، ظلت تتقلب طول الليل، وصدى صوت الحاجة حبيبة مازال في أذنها وهي تعدد محاسن المدينة،،نامت و هي تحلم بالبحر والأرجوحة ومحلات الملابس و الحلوى.. نامت وهي تحلم بجميع الصور الجميلة التي حفظتها عن ظهر قلب، من نصوص كتاب القراءة المدرسي.. ولم تنم قبل أن تدعو الله ليوافق أبوها على سفرها السعيد.. ثم نامت وهي تحلم وسعيدة.
في اليوم الثالث، حضرت الحاجة حبيبة، أحضرت معها بيجاما للأم وبذلة رياضية لحياة، وبعض الحلوى للصغار.كان الكل يبتسم . إلى حين موعد الرحيل، تعلقت حياة بعنق السعدية أمها، تقبلان بعضهما البعض بحرارة ، قد تحمل كل واحدة منهما بعضا من الأخرى، نفس و رائحة، ربما كان الصغار أيضا يبكون وهم يرون دموع أمهم وحياتهم . ترى هل يضحكون بعد رحيلها وهل يلعبون ؟
ومن يلاعبهم في غيابها؟؟؟؟
وهي تهم بركوب السيارة، قالت الحاجة حبيبة للسعدية،"ربما لن نستطيع المجيء في الشهور الأولى، ابنتي ستلد وسأكون مشغولة.سأبعث لك الفلوس مع ولد حليمة.لم تقل السعدية شيئا، "تهلاي فحياة أالشريفة،، ولحياة، تهلاي فخالتك.." ظلت حياة تنظر من النافذة إلى أن توارت البيوت والجبال وأصبحت الحياينة وما جاورها مجرد نقطة معلقة في الهواء،تصغر وتصغر إلى أن خفت الأنوار واختفت، أحست حياة فجأة بوحشة غريبة وهي تبتعد عن الجبال، كانت الحاجة حبيبة تقود السيارة و هي تنظر لحياة بين الفينة والأخرى من مرايا السيارة، وللحظة خاطفة التقت نظراتهما، ابتسمت حياة، لكن حبيبة لم تفعل.. وكانت نظرات الحنان والطيبة قد اختفت، ولم تجد حياة سوى عيون متحجرة وقاسية.ترمقها من المراية. أغمضت عينيها وقلبها الصغير يكاد ينفجر من الخوف والغضب.. هل تخطفها حبيبة؟ هل تعذبها ؟ هل تصرخ ؟ استسلمت لقدرها ثم نامت.. كانت الطريق طويلة تكاد لا تنتهي... "حياة نوضي، وصلنا".ظلت حياة مشدوهة لفساحة المكان، وكثرة الغرف والأثاث وكثرة النوافذ.
في بيتهم بالجبل، نافذة يتيمة تكاد تمنع أشعة الشمس من إلقاء تحية الصباح.. كان البيت كبيرا جدا، وفسيحا جدا،،وتساءلت حياة ، هل تسكن قبيلة الحاجة في بيت واحد؟ أخذتها الحاجة إلى غرفتها، حجرة صغيرة تحت السلالم،على أرضها العارية سداري، وطاولة صغيرة، فوقها مريالة شغل ، بيجاما ومنديل.ولا توجد بها نافذة، وتمنت حياة لو كان عندها منفذ لاستنشاق هواء نظيف. كان الوقت متأخرا،" لن تنامي قبل أن تستحمي،تعالي معي"قالت الحاجة لحياة،، قبل أن تفتح الدوش،لم تفهم حياة متى،وكيف ولم ضفيرتها تحت رجليها،،"الشعر الطويل، غير جميل ويدير القمل"أجابتها الحاجة حبيبة، حين قرأت سؤالها وحيرتها، وهي ترش مادة كريهة على شعرها،تم دفعت بها تحت الدوش.. ولم تدر حياة لم المياه ساخنة أكثر على وجهها؟وانتبهت أن دموعا حارقة تغسل وجهها في صمت. ليلتها الأولى، لم يغمض لها جفن،ظلت تبكي تاجها الذي سرق في غفلة منها، كانت أمها السعدية تجلس لساعة وهي تمشطه لها، فرحة بجماله ونعومته، تضع عليه لازاس، وليلة العيد تخلط حنة معطرة بالقرنفل والورد وتغرق فيه شعرها حتى يزداد طولا وجمالا.
وهي تنظر إلى سقف جامد داخل غرفة باردة مقفرة، تمنت لو كان ما تعيشه كابوسا تستيقظ منه صباحا، لتأكل البصارة اللذيذة وتلاعب إخوتها.. أغمضت عينيها لربما تبدد الكابوس واستعادت حلمها الجميل وشعرها. وظلت لأيام تتحاشى النظر إلى مرآة الصالون، كلما مرت بجانبها، لم تتعود بعد على شكلها الجديد، أصبحت تشبه أباها أكثر.. كانت الحاجة حبيبة توقظها على السادسة صباحا. هي مواظبة جيدة على صلاة الفجر والدعاء لبناتها وأحفادها،تقول:باب السماء يكون مفتوحا وكل الدعوات مجابة." وداخل غرفتها الموحشة، كانت حياة تحرص على أن تطرق باب السماء كل صباح، ربما يستجاب لدعائها، وتعود لبيتها وقبيلتها.. و بعد أن تنهي الحاجة صلاتها ودعاءها، تشرب الحسوة بالحليب وتأكل المسمن بالعسل والزبدة مع كأس شاي.. كانت حياة قد أتقنت في أيام كل أشغال البيت ، من مسح وكنس وعجينة وتصبين. ربما كان لضربات حزام الحاجة، فضل في ذلك.. كان يومها كأمسها، وغدها كيومها، لا شيء يتغير، وفي الليل حينما تخلد الحاجة حبيبة للنوم،وتطمئن حياة على توفير كل حاجاتها واحتياجاتها،وكل ما تريده وما لا تريده،.تذهب إلى غرفتها لتريح جسمها النحيل المنهك، وهي تحمل طبق عشائها الذي أشرفت على كميته الحاجة،ثم تأكل وتنام.. كانت الحاجة حبيبة تعيش لوحدها،وتأكل لوحدها وتنام لوحدها ..ولم تفهم أبدا حياة، لم لا تجلسان إلى طاولة طعام واحدة ويأكلان من طبق واحد..ربما تسعدان بمشاركتهما لبعض، لربما أصبحت الحاجة أحن عليها، وقد تطردان شبح الوحدة خارج البيت الكبير.. كانت حياة تكره جدا يومي الجمعة والسبت، ربما لو كان أسبوعها خاليا منهما، لكانت لحظاتها أفضل.. يوم الجمعة، يوم مقدس عند الحاجة، النظافة قبل المسجد، يوم الحمام التقليدي.بعد ركوعها وسجودها ودعائها و فطورها،تتوجهان للحمام الشعبي..ولم تفهم حياة لم تصر الحاجة حبيبة على أن تحتفظ حياة بمريلة الشغل في الذهاب والإياب.عذاب وحر لا يتحمله جسدها النحيف ولا قلبها الرهيف. كان عليها أن تضع للحاجة الحنة المعطرة على كامل جسمها الضخم،وتدعك ظهرها بالصابون ورجليها بالحجرة.،،وبعد عرض النظافة، تنهي الحاجة وصلتها بالصراخ في حياة التي تكاد تفقد وعيها من الحرارة و التعب ."لا تتأخري ، أنا أنتظرك، ستضيع علي صلاة الجمعة". لم تكن الحاجة تترك لحياة لوازم الاستحمام خاصتها، غالية جدا أحضرتها من فرنسا. كانت تعطيها صابون الحجرة،فيه جميع المكونات، ولجميع الاستعمالات،ينفع كشامبو، ومنعم وبلسم ومرطب ومنظف..بسرعة تستحم حياة، وتخرج لتعود لحياة لم تكن لتتخيل يوما إمكانية وجودها،،وتساءلت بسذاجة، لم تسمى المدينة الكبيرة بالدار البيضاء وهي شديدة السواد.؟؟؟
يوم السبت يبدأ عذاب جديد بشكل آخر..عذاب نفسي أكثر منه جسدي..تحضر ابنتى الحاجة حبيبة بسمة وابتسام، وأولادهما غيتة والغالي وأيمن وأنيسة،،كان على حياة أن تتحمل غلظة أكبرهم، وتنظف قاذورات أصغرهم،ولم يكن يسمح لها أن تلاعبهم أو تجالسهم أو تأكل من حلوياتهم،وكانت تنزوي بالمطبخ وهي تنظر لضحكاتهم بنظرات حزينة والدموع قد تحجرت في مقلتيها... كم تشتاق لاحتضان إخوتها والرقص على إيقاع ضحكاتهم ! وكم تحن لبيصارة أمها اللذيذة وهي تحكي لهم حكاية الثعلب والدجاجة والكتاكيت.وصرخت في صمت قاتل..".أنا أعيش الحجاية يا أمي، أنا في مصيدة الثعلب فكيف السبيل للخلاص من الأسر؟؟ " .
مضى على وجودها ثلاث سنوات، انقطعت كل أخبار أهلها ولم تزرهم مطلقا، "لقد انتقلت أمك عند أبوك بمولاي يعقوب ولا أحد يعرف العنوان." أجابت الحاجة حبيبة حياة عندما أظهرت رغبتها لزيارة أهلها." خالتي، توحشت ما بزاف" "قلت ليك ما تبقاش تقولي خالتي، قل لي' لالة' كانت الحاجة حبيبة صارمة مع حياة ، لا تبتسم أبدا إلا مع أحفادها وبناتها، لا تسألها أبدا عن حالها، حتى عندما تمرض، تعطيها قرص أسبرين السحري، يخفض الحرارة، ويزيل السموم ويقتل الميكروبات،."أنت صغيرة وبصحة جيدة ولا ينقصك شيء، تأكلين مثل الدابة، منين غادي يجيك المرض؟؟"تقول الحاجة، كلما سعلت حياة أو التهبت لوزتاها أو أصابها المغص..وأيقنت حياة أن المرض ترف الأغنياء لا تملك أن تعيشه.. "هل لي بكأس ماء ؟"طلب منها البستاني بأدب وابتسامة،وهو يحش العشب ويهذب أوراق الشجر. ناولته كأس ماء،فتلامست أيديهما، كان أربعينياً أسمر اللون يميل إلى السواد، متوسط الطول وبأكتاف عريضة، ويد خشنة،اشتغل بالبناء قبل أن يغير مهنته ويشتغل بالبستنة،فهو أصلا فلاح من منطقة الشياظمة.
عندما همت حياة بالذهاب، ناولها قطعة شوكولاطة، وابتسم لها،مبينا عن أسنان صفراء،لم تنتبه حياة لقبحهم وقبح صاحبهم. ثم أصبحت حياة تنتظر قدوم صالح بفارغ الصبر،كان لا يأتي خاوي الوفاض،يذكرها بوالدها والبسكويت الذي يحضره معه من مولاي يعقوب... كانت قد مرت أربع سنوات على تواجدها في السجن الفسيح،لم تر البحر، ولم تتأرجح في الملاهي، ولم تذهب للمدرسة، ولم تتعلم الخياطة ولم تلتق أمها وإخوتها أبداً. ضيعت العنوان ونسيت ملامحهم، تراهم مرات في منامها،يطوفون حول سريرها ولا يقبلونها.. تعيش جحيما متواصلاً يومياً . أمسها كيومها ويومها كغدها. لاشيء يتغير، ولاشيء يبتسم، ولاشيء يحدث معها ولا شيء يسعدها..ولم يعد هناك شيء يحزنها أو يؤلمها أو يخيفها أو يرعبها..أضاعت أهلها وقبيلتها وضحكتها ومشاعرها، وأضاعت روحها . أصبحت مجرد خيال يمشي مرغما في طريق مجهول.. ثم كان صالح، وأصبح وجهه القبيح، المحبب لها.شمسها التي تنتظر إشراقها كل صباح،،وعندما كلمها عن فسحة ليلية ترى فيها القمر وهو يقبل البحر، لم تمانع. رسم لها خطة الخروج،تنتظر أن تغرق الحاجة في نومها،وتنسحب بهدوء إلى الحديقة ، سيكون بانتظارها.
وهكذا كان، وكانت سعيدة،وهي تتعلق به على متن دراجته النارية. وكانت سعيدة،وهي ترى البحر لأول مرة في حياتها،ولم يكن البحر اكتشافها الوحيد في تلك الليلة شديدة السواد،أعطاها شكولاطة وحلوى، لطالما حلمت بمذاقها... تم ارتشف صالح رحيق حياة حتى الثمالة،لم تفهم ما يجري،ولم تمانع... سنوات لم تحظ بحضن ولا قبلة ولا لمسة حنان ولا حتى ابتسامة... وها هو صالح يغدق عليها بلا حساب... أدمنت حياة خرجاتهما الليلية و أدمنت لمساته وأحضانه وقبلاته...و عندما انتفخ بطنها وتنبهت الحاجة لذلك،صعقت....جعلتها تقوم بأعمال شاقة وتحمل السدادر على ظهرها، تنظف البيت والزرابي والسلالم... كانت تأمل أن تجهض حياة،، وعندما لم يحصل المراد، وبعد صلاتها ودعائها وفطورها، أخذت الحاجة حبيبة، حياة إلى محطة الحافلات."انتظريني هنا، سأذهب لأحضر أكلا وأعود إليك" تم رحلت...
لم ترجع الحاجة حبيبة ولم تأكل حياة لا هي ولا الحياة التي تكبر داخلها..كانا يتضوران جوعا وعطشا. في منتصف النهار جلست سيدة إلى جانب حياة، كانت متوجهة إلى بني ملال ، ابنتها ستلد قريبا.ناولتها خبزا و تفاحا ، ثم نادت على تاكسي أعطته عنوانا و نقودا، و قالت له:" هذا خير ستقوم به، ربنا يوقف ولاد الحلال في طريقك، هذه الطفلة ضحية وستتكفل بها الجمعية وتساعدها". طيلة الطريق،كانت حياة تنظر من النافذة لحياة لا تمت لها بصلة،ولم تكن يوما جزءا من صخبها، وتساءلت وهي ترى العشرات من الأشخاص يتحركون في كل اتجاه،" ألا يضيع الناس وسط كل هذه الضوضاء والزحمة؟" بالتأكيد يضيع الجميع وسط الزحمة، وحتى في السجون الانفرادية كالتي كانت معتقلة به ،عند سجانة لا تحمل اسمها،لا تعرف المحبة ولا الحب ، فلم سميت حبيبة؟؟" فتح باب غرفة المستشفى التي ترقد بها حياة بعد الولادة ، أطلت منه رشيدة الممرضة،حاملة موزة لحياة، انحنت عليها وقالت"هناك امرأة من بلجيكا، ترغب بتبني ابنتك، ستعطيك ألف درهم، وقرعة الريحة، وبعد ذهابها ترسل لك الأوراق لتسافري عند ابنتك"لم تعرف يوما حياة رائحة النقود ولا رائحة عطر ولم تخط خارج سجنها بعيدا... وفجأة رأت التاريخ يعيد نفسه، كلام معسول وحلم جميل ،وعيش رغد، حاجة حبيبة ثانية تضع قناع المخلص وتمثل دور ملاك..صرخت بأعلى صوتها وهي تحضن بشدة وخوف فلذة كبدها "لا لن أبيع ابنتي، أمل هي حياتي، ستظل معي"صرخت حتى أجفلت رشيدة وهربت.. وجاءت فاطمة الشابة العانس التي كانت كلما ولدت امرأة، تتحسر على بويضاتها. ربما لو كانت في ظروف مغايرة وبلد آخر، ربما اختارت أن تلد ابنا أو بنتا تؤنسها وتفجر فيها مشاعر الأمومة الموءودة داخلها..حاولت أن تنقد الرضيعة أمل من قبضة أمها حياة التي تطبق عليها في حضنها وهي تصرخ بهستيرية.. وحينما تكالب عليها الممرضون لتخليص أمل كانت قد ازرقت وغادرت الحياة، وتركت حياة تائهة ، مصدومة.. في لحظة، ضاع أمل حياة وعقلها..و أصيبت بنوبة من الضحك، أبكت كل الطاقم الطبي..كانت فاطمة أكثرهم بكاء وحرقة ،كانت تبكي خيبتها وطفلة لطالما تمنتها.. وتبكي حياة من ظلم الحياة لها بدون رقيب و لا حسيب... سميت الطفلة حياة، ولم تعش الحياة ،، وحلمها وأملها في أمل لم يكتمل..و لن تعيشه أبدا، ربما إذا استعادت حياتها السابقة، واسترجعت ابتسامتها التي تركتها معلقة على جبال الأطلس،وبما تلد أملا من جديد و تعيش الحياة.. ولك أن تتصور الحالة النفسية لفاطمة، بعد أن أنهت ورديتها وكفكفت دموعها،."سيروا بحالكم، آش بغيتو مني؟؟ عوك عوك آعباد الله "صرخت بأعلى صوتها وهي تقاوم المتحرشين بها،وعاشت للحظة خوفا ورعبا رهيبا..فمجرد فكرة احتمال اغتصابها، أفقدها صوابها،و صرخت بأعلى صوتها . لم تنتبه للسكين، فضلت الموت جسديا على أن تموت روحها. أخيرا فهمت و أحست بمأساة الطفلة حياة التي عاشت كل أوجه الاغتصاب،مأساة أفقدتها عقلها . اغتصبت طفولتها، حين انتزعت من أهلها واغتصب مرحها.حين أجهضت ابتسامتها،واغتصبت فرحتها حين كتمت ضحكتها،واغتصب فكرها حين حرمت من مدرستها واغتصب حلمها حين اغتيل أملها... اغتصبت حياتها فمن يلملم جراحها ؟؟؟و هل سيضمد يوما؟؟؟
 سمع العربي الصراخ،أخذ هراوته الكبيرة، وتوجه نحو الصوت المستغيث. وفي الركن المظلم، رأى فاطمة ترتجف كالدجاجة أمام ثعالب تستعد لنهشها،هجم على المعتدين، بكل شراسة، ففرا هربا،تاركين فاطمة في حالة يرثى لها.
 لحظة توقف فيها الزمن،ليرى ما يخبئه لها القدر،هل يصدمها أم يصد الاعتداء عنها..؟ أسندها العربي،وهي ترتجف لا تقوى على الوقوف، نادى تاكسي،أعطته العنوان،وهو يهم بفتح الباب، ارتمت فاطمة على يد العربي تقبلها،خجل حتى احمرت وجنتاه، وتمنى لو أنه أطبق على عنق الأنذال ليشفي غليلها وغليله. "الله يسترك كما سترتني،سأتغيب لأسبوع،لكنني الليلة وجدت أخا لي. لا تتردد إن احتجت لأي شيء،الخاوة حدها الدنيا. لنا لقاء آخر بعد عودتي".
أسرع العربي في خطاه، لقد تأخر عن حبيبته، الكأس، وتأخر عن عشاق يتسامرون حولها،وكل يغني عن ليلاه.، سيلتقي بالتأكيد عزيز الموتشو، سيخبره أنه قاب قوسين أو أدنى من توفير المال الضروري للعبور إلى الضفة الأخرى ويعانق حلمه الأشقر. سيشتغل أكثر، ويبيع قليلا من قنينات الويسكي وعلب الدخان المهربة من المرسى،والانتخابات على الأبواب، بالتأكيد المبلغ سيكون متوفرا.. و مع نهاية مسلسل الانتخابات سيبتدئ مسلسل المغامرة والعبور إلى المجهول،إلى الحلم الأشقر ، إلى الحياة و لو على متن مركب من مراكب الموت.. إنه ابن المدينة القديمة والمرسى، يتقن العوم بحال الحوتة، لا خوف عليه ولا هم يحزنون... وبخطى حثيثة توجه نحو معشوقته،كأس انتظرها طول اليوم..


[1] - كاتبة وقاصة مغربية مقيمة في كندا

عن الكاتب

ABDOUHAKKI
  1. أسلوب أنيق و قصة رائعة, أختزلت ماس هدا الوطن في بضع سطور, مزيد من التألٌق ان شاء الله.

    ردحذف
  2. أسلوب رائع! من عالم الى آخر، من شخصية إلى أخرى. رواية محبوكة ، بدايتها نهاية و نهايتها بداية. طوال القراءة لم تغادرني الغصة و الحرقة و لو للحظة. احسنت يا استاذة

    ردحذف
  3. احسنت يا أستاذة!قصة محبوكة، لم اشعر كيف انتقلت من شخصية إلى أخرى، من عالم الى عالم. بدايتها نهاية و نهايتها بداية. رائعة

    ردحذف




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا