-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

نظرية المؤامرة في الفكر العربي المعاصر:حقيقة أم أكذوبة : عبد اللطيف الركيك

نظرية المؤامرة في الفكر العربي المعاصر:حقيقة أم أكذوبة : عبد اللطيف الركيك
طالما روجت الأنظمة العسكرية البعثية التي حكمت بلدان عربية، وكان لأيدولوجياتها
قدرا كبيرا من الرواج في العالم العربي والإسلامي، الكثير من المقولات والمسلمات كإجابات لقراءة الواقع العربي المتردي واستقراء مجريات التاريخ العربي والإسلامي المعاصر، بل وحتى الوسيط والقديم.
ولعل من أبرز تلك المسلمات التي كان لها قدر كبير من التمكن والرسوخ، ما تعلق بالإجابة عن أسئلة مركزية حارقة طالما ترددت في الأذهان، ومفادها: "لماذا تخلف العرب والمسلمون؟" "ولماذا انتهى الأمر بالعرب في العصر الراهن إلى كل هذا التشتت والشرذمة والانقسام؟"
في الإجابة عن هكذا أسئلة، انبرى دعاة الفكر القومي والعلماني والإسلامي على حد سواء من مفكري ومؤرخي المرحلة لمحاولة إيجاد أجوبة تخدم في المقام الأول الإيديولوجيات القومية التي طبعت المرحلة. ومفاد الإجابات التي عاشت وكبرت عليها الأجيال في المنطقة العربية، أن العامل في تخلف العرب وتشتت أمرهم قادم بالضرورة من الخارج. وكنتيجة لهذا التوجه، فقد سيطرت على الآفاق نظرية المؤامرة الخارجية وأدواتها الداخلية. فالعرب والمسلمون حسب هذا التحليل، إنما ظلوا دوما هدفا وضحية لمؤامرات خارجية استهدفت شرذمة البيت العربي، وحالت دون تحقيق العرب للوحدة القومية التي طالما حلموا بها منذ بدايات القرن 19م.
إن هناك دائما مركبا شريرا، بعض عناصره معلومة، وأخرى هولامية غامضة غموض هذا النسق التبريري في حد ذاته، هي من تقف بالمرصاد للعرب، وتعمل على وأد أحلامهم ومشاريعهم الوحدوية. فتارة، هنالك، مخططات استعمارية بريطانية-فرنسية(سايكس-بيكو)، وتارة أخرى مشاريع امبريالية أمريكية لتفتيت المنطقة إلى جزر قومية ودينية وطائفية وقبيلة، وتارات أخرى مشاريع صهيونية إسرائيلية لإضعاف الكيانات العربية المجاورة.
إن أصابع العرب في محاولة قراءة الواقع العربي وتوصيفه وتحليل عوامل الضعف فيه، كانت دائما تتجه رأسا إلى الآخر لتحميله وزر الوضع العربي وتبرئة الذمة العربية، ونادرا ما تتجه أصابع الاتهامتلك نحو الذات العربية لمحاولة فهم وتقدير حجم المسؤولية والقصور الذاتي، واستكناه جوانب النقص الذاتية بعيدا عن متاهات العامل الخارجي.
فهل ثمة بالفعل مؤامرات خارجية تنتصب كعامل مسؤول وحيد عن مآل العرب؟ أم أن الأمر يتعلق بمقولات ودعايات اقتضتها مرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية، استعملت للاستهلاك الداخلي وللتضليل والتغطية على الفشل والانتكاسات العربية والاسلامية المتوالية، ولتبرير تحكم وتسلط الأنظمة العسكرية الاستبدادية؟
مع الإقرار بالعامل الخارجي، على اعتبار أن الآخر، أي آخر في أي زمان ومكان لن يتورع عن وضع العقبات والحواجز في طريق أي أمة تتغيأ النهوض وتنشد الوحدة والتقدم في مضمار التدافع والمزاحمة بين الأمم الذي تُستحلّ فيه الوسائل المشروعة وغير المشروعة، فقد آن الأوان لمراجعة هذا الإرث الإيديولوجي الثقيل الذي خلفته أنظمة ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي في العالم العربي والإسلامي، بل وحتى نسفها، وبناء تحليل منطقي على أنقاضها. ولعل منطلق هذا المسعى، هو قلب السؤال رأسا على عقب: ما مسؤولية العرب في تخلفهم وتشرذمهم وضعفهم أمام الأمم الأخرى؟
مع كل محاولة للتفكير في الإجابة عن هكذا أسئلة، تتبدى في الحال بعض الإفادات الأولية، وتشرع دائرة المؤامرة في الانكماش والانحسار إلى أبعد حد وبشكل يكشف مدى تهافت وأحادية نظرية المؤامرة. فالعرب مسؤولون عن هدم وتخريب إحدى أهم التجارب الوحدوية في العالم الإسلامي بعد التجربة العباسية، ويتعلق الأمر بالدولة العثمانية. إن أخطاء العثمانيين أنفسهم بتورطهم في معمعة الحرب العالمية الأولى عبر تحالفهم المشبوه مع ألمانيا، وعدم استماتة العرب داخل الكيان العثماني، والتشبث به والدفاع عنه، فضلا عن غموض العلاقة وقتئذ بين العمل السياسي وبين فكر النهضة العربية خلال القرن 19م كفكر هجين تداخلت في تحريكه الطموحات القومية، وفي نفس الوقت النعرات الطائفية والدينية التي كانت تسعى إلى تشتيت المنطقة خدمة لأجندتها الضيقة أكثر من التحرر من العثمانيين.إن اجتماع هذه العوامل كلها هو ما قاد إلى المآسي التيعرفها المشرق خلال القرن 20م.
إن تسويغات فكر المرحلة للخروج عن الإمبراطورية العثمانية لا يبدو مقنعا بالمرة، والدليل على ذلك أن العرب خرجوا من "جبة" العثمانيين ليسقطوا-عن وعي وإرادة- في احضان الاستعمار الفرنسي والبريطاني. فلعل تواطؤ العرب وعمالتهم للبريطانيين هو الذي أوقعهم في شراك الاستعمار. وبذلك يتحمل العرب مسؤولية تاريخية فيما جرى بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ويتعين الإقرار بذلك والتخلي عن إظهار العرب بمظهر الضحية في هذه الفترة التاريخية الحاسمة التي كان لها تأثير على مصير المنطقة فيما بعد. لقد علق العرب مصيرهم ببريطانيا ومن ورائها الحلفاء، دونما قدرة على توظيف سياسي متقن لتلك العمالة والاستفادة منها. فعلى خلاف ذلك تماما، فقد استخدمتهم بريطانيا كأدوات هدم وقتية للتخلص من الكيان العثماني مقابل وعود ملغومة. فرغم قيادتهم لما سمي بالثورة العربية الكبرى سنة 1916م، والتي كانت عبارة عن عمل من تدبير بريطانيا لتفجير الإمبراطورية العثمانية من الداخل وتقطيع أوصالها أكثر من كونها حركة قومية حقيقة ذات أجندة واضحة.
وفي الأثناء، كانت الحركة العربية الثائرة تفتقد لقيادة سياسية ولبرنامج تحرري قومي واضح الأركان، ما جعل ثورتها المزعومة تستحيل إلى مجرد خروج من ضيق ما سمي ب"الوصاية" العثمانية إلى وحل الاستعمار الأوربي. ولعل من مفارقات المرحلة، أن القيادة السياسية التقليدية التي قادت أحلام العرب، لم تكن تعكس بالمرة مجريات ما سمي بالفكر النهضوي العربي بشقيه السلفي والعلماني، الذي كان قد استشرف حسنات حضارة الغرب وعناصر تطوره في المجالات كافة. والواضح، أن هذه القيادة السياسية التي كانت تحركها فقط أطماع السيطرة والتحكم وتشكيل الإمارات، هي من قاد العرب إلى ورطتهم التاريخية، دون الظفر بأي مقابل من البريطانيين الذين كانوا يتصرفون في اتجاهات مغايرة تماما، ويناقشون فكرة تقسيم المنطقة مع الفرنسيين والروس، وهو ما تمخض عنه توقيع اتفاقية سايكس بيكو.وبذلك تبخرت الوعود البريطانية للعرب، وتحولت لصالح الحركة الصهيونية التي كانت تشتغل بطريقة مغايرة تماما للعرب، في صمت وبأدوات عصرية، وتنظيم محكم. وأمام هذا الاندحار الاستراتيجي لما يمكن تسميته بالزعامات العربية التقليدية الطامحة لتشكيل الإمارات تحت الوصاية البريطانية، واتجاه الحركة الصهيونية نحو العمل العلمي المنظم، فقد حدث التمايز الذي غير الكثير في الجغرافيا السياسية للمنطقة. فقد تحول الجسد العربي المتهالك إلى فريسة تتكالب عليها الوحوش الاستعمارية الضارية، وكعكة استعمارية أصبحت محل مزايدات وتسويات واتفاقيات ثنائية وجماعية بعد سقوط الدولة العثمانية سنة 1920م، وعقد مؤتمر سان ريمو سنة 1920، ثم فرض واقع الاستعمار من بوابة الانتداب وب"شرعية" عصبة الأمم سنة 1922م. هذا في وقت بلغت فيه الحركة الصهيونية شوطا متقدما من التخطيط والعمل والتنفيذ لتحقيق مشروعها التاريخي في فلسطين. بعد الذي ذكرنا: هل عاني العرب فعلا من مظلومية خلال هذه المرحلة التاريخية؟ أم أن هذا هو ما جنت براقش؟
بعد أن أزيل حجاب الحكم العثماني عن العرب، اتضح للقوى الغربية المتنافسة والطامعة مدى ضعف وهزالة المشروع العربي، وظهرت على مسرح الأحداث كيانات سياسية جغرافية تستوطنها القبائل هناك أو هناك دون رؤية وأفق سياسيين واضحي المعالم بمقدورهما الوقوف في وجه تحديات المرحلة. فكان السقوط المدوي والمخزي للعرب في فخاخ الاستعمار بمثابة تحصيل حاصل ليس إلا. فقد غرقت الكيانات القبلية العربية، التي لم تكن تتوفر على متطلبات الدولة الوطنية ولم تكن مؤهلة للتقرير في مصيرها بعد الانفصال عن العثمانيين، في أتون الاستعمار البريطاني والفرنسي وخضعت لترتيباته. ففي هذا الوقت بالذات، لم يضيع العرب فلسطين وحسب، بل ضيعوا أنفسهم، وبالتالي لم يكن ثمة كيان عربي مستقل قادر على الدفاع عن فلسطين التي تركت صيدا سهلا للتواطؤ البريطاني الصهيوني في ظل السقوط العربي الاستراتيجي. وبهذا بقيت فلسطين كمجرد رقعة جغرافية لا تمتلك مقومات التماسك والدفاع الذاتي عن النفس في وجه المخطط الصهيوني المحكم والمنظم. لقد استحالت فلسطين التي يزعم العرب الدفاع عنها إلى مجرد بؤر سكانية عربية تتناثر فيها مداشر عربية دون قيادة سياسية وطنية حقيقة، وهو ما سهل مأمورية الصهاينة في تطبيق أجندتهم، وهو شيء لم تغير منه المقاومة الأهلية الفلسطينية شيئا.
إن استقراء أحداث التاريخ وفق هذا التحليل يظهر إلى أي مدى كانت مقولات المؤامرة مجرد تزييف فج للتاريخ وتبريرا أجوفا للانتكاسات العربية خاصة خلال النصف الثاني من القرن 20م. إن الأمر لا يتعدى مجرد كونه خديعة وأكذوبة انطلت على الأجيال لتبييض وتسويق التاريخ العربي "الأسود" لجهة التفريط والتساوق والتماهي مع المخططات الأجنبية التي استهدفت إسقاط الإمبراطورية العثمانية والاستفراد بالكيانات العربية الهشة في المشرق العربي. وإذا كان لا بد من الحديث عن مؤامرة إرضاء للأجيال التي تشبعت بهذا النوع من التحليلات، فلا بد من استحضار المؤامرة العربية ضد العثمانيين وضد أنفسهم، وهي المؤامرة التي أغرقت المنطقة في وحل الاستعمار والتبعية، وفي مهالك الطائفية والمناطقية والقبليةالتي لا تزال تكتوي بنارها إلى اليوم.
*كاتب وأستاذ باحث
abdellatif.ereguigue@gmail.com


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا