النخبة العربية الضائعة فرطت في ربيع شعوبها : باسم
فرات
الحديث عن ثقافة النخبة وثقافة الناس، من قبل النخبة
نفسها، عادة ما يصطدم بتيارين،
الأول المتعالي الذي يصرّ على أن الناس لا يمكنهم فهم
النخبة، وأنهم يصرون على البقاء في القاع، والثاني الذي يدعو إلى النزول للناس حتى
تفقد الثقافة خصوصيتها ولا يُكتب إلاّ ما يريده الجمهور. “العرب” استطلعت آراء جملة
من المبدعين العرب حول موضوع “ثقافة النخبة وثقافة الناس” والفجوة بينهما بعيدا عن
الرقابة التي تسللت من دوائر الرقيب إلى دماغ الكاتب، وإثارة القضية بحسّ نقديّ. وفي
السطور أدناه تحاول هذه المداخلة خلق سجال بين المثقفين أنفسهم من خلال مراجعة نقدية
لقضية طالما اختلفت الآراء حولها.
أي دور للمثقف
حين يتحدث المثقفون عن علاقة المثقف بالناس أو الجماهير،
لا يصغون إلى رأي الطرف الثاني، أي إلى رأي الجماهير، فهم الحكم والشاهد والادعاء العام،
ولا صوت للجماهير سوى تعليقات كانت تتناثر في المقاهي والبيوت والجلسات الخاصة، ثم
برزت بفضل مواقع التواصل الاجتماعي إلى العلن.
بداية نجد أن زاوية النظر عند السوري إبراهيم الجبين،
تتجه إلى أن النخبة مازالت تمسك بكأس نبيذها في صومعة، ونظرتها للشارع لم تتغير، إذ
أن عنوان مقالته “هل سيحكمنا الرعاع؟” فيه دقة واضحة، وأراني أميل إلى ما ذكره خزعل
الماجدي من أن ثمة ثقافتين لا يمكن نكرانهما ولا التغاضي عنهما وهما؛ ثقافة النخبة
وهي ثقافة الأقلية أي التي تقود الرأي العام والمجتمع، والثانية ثقافة الأغلبية أي
الثقافة الشعبية وهي المعبر الحقيقي عن المجتمع وحاجاته وفطرته، وإنها النهر الدافق
الذي يجب الاغتسال بمائه من قبل الجميع بمن فيهم النخبة.
لكن رأي الماجدي في أن هذه النخبة تفاعلت وانخرطت
في الربيع العربي، لا أميل إليه حيث كشف هذا الربيع أن النخبة مغرقة في حالة أجاد إبراهيم
الجبين وصفها أعلاه، لكن تأكيد الماجدي في ختام مقالته على ضرورة الليبرالية كما الديمقراطية
وأن الأولى تصون الأخيرة، كلام في غاية الدقة والشاهد عليه ما يجري في بعض البلدان
التي تدّعي الديمقراطية ولكن الليبرالية غائبة عنها كما في العراق وإيران.
النخبة والربيع العربي
يفتتح خطار أبودياب في مقالته “النخب العربية وضياع
فرصة الربيع” بأن الشرق الأوسط في العقد الأول من الألفية كان خاضعا لتجاذبات دولية
وإقليمية همشت العالم العربي، لكن ألم يكن العالم العربي مهمشا خصوصا بعد سنة 1991؟
يبيّن “أعتقد أن فشل المشروع القومي العربي ليس
لافتقاده للديمقراطية والتمثيلية كأدوات صالحة للحكم فقط، وإنما لتحول هذا المشروع
من مشروع عربيّ الثقافة يعتز بتنوعه وبدور غير العرب في حضارته، وأن الأقليات هي مصدر
ثرائه، إلى مشروع عنصري يقصي غير العرب، وتراجع كثيرا باستيلاء الضباط على مقاليد الحكم
فتتحول البلاد إلى مزرعة للحاكم وتأسيس ثقافة التوريث، أي بدعة الجمهوريات الملكية”.
ويواصل “أرى أن غياب دور النخبة في قيادة «الربيع
العربي» نتيجة طبيعية لعدة عوامل يقف في مقدمتها التغييب القسري الذي مارسته الأنظمة
«الوطنية» لهذه النخبة، وإضعاف الطبقة المتوسطة، سوء مناهج التعليم، السيطرة على وسائل
الإعلام وإفقار النخبة المثقفة وجعلها بحاجة ماسة للعمل ضمن شروط وضوابط الأنظمة لسداد
لقمة العيش، وهذه العوامل وغيرها لا تعفي النخبة مما آل إليه الوضع، فتعاليها على الجماهير
واستئناسها باحتساء كأس المعرفة في أبراج عاجية، زاد من تفاقم الوضع”.
التعليم هو الوسيلة الناجعة للتخلص من هيمنة النخبة
المستبدة مع السعي إلى تطوير استراتيجيات وأساليب جديدة فيه
المبدعون والحكومات
يستغرب الكاتب السوري يحيى العريضي من بروز ظاهرة
محمد الماغوط وزكريا تامر في وطن سقف ارتفاعه معدة الإنسان، وهو ما لاحظته عند العراقيين
على اعتبار أن كلا البلدين تعرضا لحكم حزب البعث لأكثر من ثلاثة عقود، فيستغربون -أعني
العراقيين- من ظاهرة بروز مبدعين وقامات ثقافية وعلمية، وشخصيّا أعتقد أن هذا لا علاقة
له بالحكومات وإنما العمق التاريخي الحضاري لسوريا والعراق هو الذي أنجب هؤلاء، والأمر
ذاته مع جميع المنجزات الحضارية والوطنية كتأميم النفط ومجانية التعليم وإلزامية التعليم
والبناء، فهي نتيجة نضال الشعوب وليس الأنظمة. أما عن النخبة السورية فهو إذ ينهي مقالته
متسائلا أهو ضياع النخبة أم نخبة الضياع؟ يعتبر أي محاولة للقفز فوق الفعل الشعبي والعفوي
الثوري وأدوات تعبيره البسيطة الجبارة -لغة ومسلكا- محفوفة بنهاية فجائعية أدبيّا أو
فلسفيّا أو فنيّا أو فكريّا.
إن مقالة يحيى العريضي قادتني إلى المقارنة بين
البلدين في أكثر من طرح من طروحاته، فلقد كان إهداء الكتب لصدام حسين واعتبار أي قرار
منه مكرمة كبيرة للشعب، حتى راح الشعب في المقابل يعبر بطرافة عن سخريته من الواقع
المرير بالقول إن السيد الرئيس القائد صدام حسين أمر بإطلاق كميات غير محدودة من الهواء
للعراقيين.
الحملة الإيمانية التي قادها صدام حسين وبناء جامع
الدولة الكبير الذي أريد منه أن يكون الأكبر في العالم الإسلامي كما تناقل الناس، لا
أظنها تختلف عن حملة تشييد أكبر عدد من المساجد من أي دولة إسلامية أو انتشار عملية
تحفيظ القرآن الكريم بشكل منقطع النظير، ولا تختلف الحملة الإيمانية تلك عن عملية التحفيظ
في سوريا من خلال ما ذكره الكاتب. الأنظمة الشمولية لا يمكنها أن تخلق أجيالا تعي جوهر
الانفتاح والتنوع وتحليل الخطاب وتفكيك الظواهر، بل تريد نخبة توافق على كل شيء وتبدي
الرأي الذي يريده الحاكم لا الرأي الذي تراه النخبة.
النخبة أضاعت فرصة الربيع العربي، لكن الفرصة ليست
ضائعة تماما انطلاقا من النجاح التونسي وبداية الاستقرار المصري
ظاهرة التزييف
يتناول الكاتب المصري خالد قطب، التزييف الذي تمارسه
النخبة في فرض آرائها، فهي إضافة إلى نرجسيتها مستبدّة، تلوك جملا وعبارات غامضة على
الأقل بالنسبة إلى غالبية الناس، والانتقائية في الاستشهادات التاريخية أو سواها، ولكن
تبقى النخب الثلاث وهي المتأسلمة (الإسلام السياسي) والسياسية والعسكرية، هي الأكثر
تخريبا لمجتمعاتنا وخلق الفتنة، وهي التي يصحّ عليها استشهاد الكاتب بقصة فرنسيس بيكون،
وهو ما عانيناه ومازلنا رغم ثورة الاتصالات المعلوماتية التي خففت كثيرا، ولكن أغلب
الناس لم يتخلصوا من تأثيرات رجال الدين الذين جعلوا من هذه الثورة المعلوماتية وسيلة
لبثّ الكراهية حيث راحت الفتاوى بالمجان تتلى على مسامعنا بلا قيد ولا شرط، وهذا القول
لا يعدم فقهاء حافظوا على كياسة الفقيه وزهده وتقواه.
يرى الكاتب أن التعليم هو الوسيلة الناجعة للتخلص
من هيمنة النخبة المستبدة، مع السعي إلى تطوير استراتيجيات وأساليب جديدة في التعليم،
بما يجعله مسؤولية اجتماعية تسعى إلى تحقيق الصالح العام وبالتالي يكون أكثر ديمقراطية،
مما يفتح المجال واسعا أمام انتشار الوعي والمعرفة عند عدد كبير من الناس مما يشكل
الغالبية، لكن ما ذكره الكاتب خالد قطب يصطدم بحقيقة أن ليس بإمكان الجميع أن يملكوا
إمكانيات معرفية كبيرة، مما يعني أنه لا بد من وجود النخبة التي هي واقع حال كما أشار
إليه الشاعر والكاتب خزعل الماجدي في مقالته ضمن الملف والتي أشرنا إليها أعلاه.
تباين الآراء
نستنتج من الملف تباينا في الآراء مع اتفاق على
وجود نخبة، ففي حين يرى الكاتب إبراهيم الجبين أنها نخبة عاجية تمسك بكأس نبيذها وتتساءل
“هل سيحكمنا الرعاع؟” فهي مخدرة بنرجسيتها الفاقعة ومع ذلك تريد قيادة الجماهير لا
مشاركة في الهموم بل كقيادة والجماهير رعاع.
ثمة ثقافتان وهما، ثقافة النخبة وهي ثقافة الأقلية،
وثقافة الأغلبية أي الثقافة الشعبية وهي المعبر الحقيقي عن المجتمع وحاجاته
لكننا نلمس هدوءا وتصالحا في طرح الشاعر والكاتب
خزعل الماجدي، فهو لا يرى تعارضا، بل يرى الأمر ضرورة فالنخبة لا يمكن لكل شخص أن يصل
لوعيها ومعرفتها وإمكانياتها وهو محق حيث ليس كل مَن درس الفلسفة أصبح مفكرا ومؤلفاته
مفصلية كما محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وحسام الدين الآلوسي، مثلما ليس كل من
درس التاريخ هو جواد علي أو مَن درس الآثار هو طه باقر، واعتزاز الماجدي بالثقافة الشعبية
واعتبارها الممثل الحقيقي للمجتمع وهي أساس النخبة أيضا لأنهم أبناؤها، هو ما يحسب
له، ولكن النخبة حسبما أرى لم تؤثر في الشارع العربي.
وإذ يتفق خطار أبو دياب في أن النخبة أضاعت فرصة
الربيع العربي، فإنه يستدرك في نهاية مقالته أن الفرصة ليست ضائعة تماما انطلاقا من
النجاح التونسي المعقول وبداية الاستقرار المصري، وبهذا يدفع الكاتب بالأمل إلى الأمام
مع التأكيد على ضرورة تأسيس أحزاب جديدة يتمثل فيها الشباب ومشروع عربي جديد يحيي الحلم
العربي في النهضة المؤجلة مرارا حسب قوله، لكن أليست الروح المحلية “القُطْرية” هي
المسيطرة الآن على المشهد في العالم العربي؟ هذا ما أراه.
في المقابل نجد السوري يحيى العريضي ينزف مرارة
وهو يتحدث عن وضع بلاده، شخصيّا شهدته وخبرته في ما يطلق عليه “عراق صدام حسين”، وهو
ما قاد العراق إلى ما هو عليه، وأخشى أن تقع سوريا في ذات المطب، والعريضي اقتصرت مقالته
على سوريا عكس باقي المقالات التي تحدثت بصورة عامة عن عالم عربي.
ويختتم الملف بالمصري خالد قطب أستاذ الفلسفة، مركزا
حديثه على استبداد النخبة ونرجسيتها ومعولا على التعليم المتجدد والمنفتح كي يتخلص
المجتمع مما هو فيه، ومما لا شكّ فيه أن الوسيلة الناجعة للنهوض هي التعليم الحديث
وليس التلقيني، وحينها سيكون الربيع العربي حقّا ربيعا، لا خريفا يصبغه الدم والسبي
وحرق الكتب وتدمير الآثار.
باسم فرات