أنطوان جوكي
نادرة هي الأبحاث العلمية القادرة على منافسة الروايات
في مبيعاتها. وكتاب المستعرب الإسباني جوان فيرنيه "ما تدين به الثقافة لعرب الأندلس"
(1974) تمكّن من تحقيق
ذلك الإنجاز من خلال ترجمته الفرنسية التي نفدت طبعاتها الثلاث
الأولى وصدرت طبعتها الرابعة حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية.
ولا شك في أن موضوع هذا البحث، الذي يقع في 460
صفحة ويقدّم جردة شاملة بإنجازات عرب الأندلس في مختلف الميادين الثقافية، يفسّر إلى
حد كبير نجاحه، إلى جانب شغف صاحبه الواضح بهذا الموضوع ورغبته في إيصال مضمون بحثه
إلى أكبر عدد من القراء.
وتجدر الإشارة بداية إلى أن فيرنيه لا يقصد هوية
إثنية ضيّقة حين يتحدث عن عرب الأندلس في بحثه، بل كل من كان يتكلم اللغة العربية خلال
تلك المرحلة المجيدة من تاريخنا، أي العرب طبعاً ولكن أيضاً الفرس والأتراك واليهود
والإسبان.
فإلى هذه اللغة انتقلت معارف العصور القديمة، ومنها
انتقلت هذه المعارف إلى أوروبا فأطلقت عصر النهضة، بعدما أضاف عرب الأندلس عليها إسهامات
حاسمة وكثيرة، سواء في ميدان الفلسفة أو في مختلف الميادين العلمية والأدبية والفنية.
في الفصل الأول من بحثه، يقدّم فيرنيه قراءة تاريخية
وثقافية لبدايات الإسلام والعصرين الأموي والعباسي، تشكّل خير تمهيد لفهم ظروف انبثاق
الثقافة العربية في الأندلس التي يتناولها سريعاً في هذا الفصل كي يتآلف قارئه مع موضوعه
قبل الغوص في تفاصيله.
"يكشف جوان فيرنيه ما اكتسبه الغرب من الأندلس
إثر انتقال معارف العرب العلمية إليه في ميادين الفلسفة والعلوم الباطنية والرياضيات
والطب وعلوم الفلك والبصريات والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا..."
علوم مختلفة
وفي هذا السياق، يشير إلى اهتمام الأندلسيين بتعلّم
قواعد اللغة العربية والشعر قبل العلوم والنصوص الدينية، بخلاف عرب منطقتنا، ويتوقف
عند طبيعة التعليم في مختلف الميادين، وعند انتشار المكتبات والحدائق العامة ومستوى
الطبابة، قبل أن يذكّر بالتسامح الديني والسياسي الذي يشكل مفتاح تلك الحقبة.
في الفصل الثاني، يرصد فيرينه إرث العصور القديمة
الذي غرف منه عرب الأندلس وظروف انتقاله إليهم ومصادره، أي بابل وسومر وبلاد فارس والهند
واليونان وروما، قبل أن يحلل بدقة في الفصل الثالث نشاط الترجمة الذي تم بفضله نقل
هذا الإرث، وتقنياتها والأخطاء التي كان يقع فيها مزاولوها وأسبابها.
هكذا يتبيّن لنا أن هذا النشاط الذي انطلق في دمشق
في بداية القرن الثامن الميلادي أخذ زخمه في بغداد في نهاية القرن المذكور، وبلغ ذروته
في الأندلس، وأن معظم المترجمين الذين اضطلعوا بنقل المخطوطات من السنسكريتية والفارسية
والسريانية واليونانية واللاتينية إلى العربية، كانوا ينتمون إلى العائلات نفسها.
يتبيّن أيضاً أن مكافأة المترجمين على جهودهم كانت
عالية، وأن ترجماتهم ما زالت إلى حد اليوم تشكّل مراجع لا غنى عنها للاطلاع على إرث
العصور القديمة، نظراً إلى ضياع معظم المخطوطات الأصلية التي ترجموا عنها.
وبما أن فيرنيه متخصص في تاريخ العلوم خلال القرون
الوسطى وإسهامات عرب الأندلس فيها، نراه يفرز لهذا الموضوع ستة فصول يقارب فيها بالتفصيل
هذه الإسهامات، قبل أن يكشف ما اكتسبه الغرب من الأندلس إثر انتقال معارف العرب العلمية
إليه في ميادين الفلسفة والعلوم الباطنية والرياضيات.. من دون إهمال الابتكارات التقنية
في جميع هذه الميادين.
ملاحم وتصوف
وهذا لا يعني أن فيرنيه لا يمنح فنون عرب الأندلس
وآدابهم ما تستحقه من الاهتمام، بل نراه يكشف في نحو 80 صفحة ما اكتسبته أوروبا منهم
في هذه المجالات أيضاً.
"لا ينسى الباحث الحكايات الشعبية العربية
التي عبرت إلى الأدب الغربي بطريقة شفهية عن طريق كتّاب إسبان كبار كانوا يتقنون العربية
المحكية في الأندلس..
"
وفي هذا السياق، يستحضر أمثلة كثيرة على الصروح
الرومانية في إسبانيا وفرنسا التي ظهرت فيها عناصر هندسية ونماذج زخرفية أندلسية، ثم
ينتقل إلى النصوص الملحمية الأندلسية التي صبغت بطريقة نظمها وقصصها وأبطالها نصوصاً
إسبانية وفرنسية وألمانية كثيرة من النوع نفسه، قبل أن يبين كيف شكّل الشعر الأندلسي
مصدر القافية والنظم في الشعر الروماني، وكيف غيّر مفهوم الأوروبيين للحب آنذاك.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى تقنيات الإنشاد التي استقاها
الإسبان والفرنسيون من فنّي الزجل والموشّح، مثلما استقوا مواضيعهم وبنية سردياتهم
وإطارها من فن السرد العربي، وتحديداً من كتب "ألف ليلة وليلة" و"كليلة
ودمنة" و"كتاب الأغاني" و"العقد الفريد" و"كتاب المعراج"...
ولا ينسى الباحث الحكايات الشعبية العربية التي
عبرت إلى الأدب الغربي بطريقة شفهية عن طريق كتّاب إسبان كبار كانوا يتقنون العربية
المحكية في الأندلس بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، أو أثر النصوص الصوفية العربية
الجلي في نصوص أوروبية من النوع نفسه أو حتى في تعاليم بعض الرهبانيات المسيحية.
المصدر : الجزيرة