التربية المستنيرة في مجتمع الوسائط :تأملات كانطية
• الزاهيد مصطفى/أستاذ الفلسفة وعـضو حركة تنوير
كيف يمكن للتربية أن تكون أساسا مؤسسا لمجتمع يسوده التنوير والحداثة؟، ما
أرومه
من مقالي هو إعادة التفكير في وظيفة
المدرسة بوصفها مؤسسة للتربية في مجتمع تتعدد
فيه الوسائط التي تشارك، أو لنقل تنافس المدرسة بشكل رسمي أو غير رسمي هذا الدور الذي
وجدت له، وهو التربية والتأهيل لأفراد المجتمع حتى يكونوا قادرين
على الإندماج مستقبلا في المجتمع الذي يعيشون فيه، والتفكير في نفس الوقت في
قضايا هذا المجتمع وراهنه من منظورات يكون أساسها ومنطلقها "الذات الفاعلة"،
وهي ذات متحررة من كل الإكراهات الخارجية، سواء كانت تأثيرات إيديولوجية لوسائل الإعلام،
أو لقوى سياسية أو دينية، وهكذا تكون الذات الفاعلة غايتها التفكير من خارج منطق الوصاية
انطلاقا من ماضيها المدرسي والتكويني والثقافي الذي اكتسبته، والذي تعمل على إعادة
تمثله ليس من أجل إعادة إنتاجه، بل من خلاله تعمل على بناء المشترك بعيدا عن كل غاية
خاصة .
بطرحنا لهذا الإشكال الذي غايته التساؤل حول وظيفة المدرسة، نكون مجبرين منهجيا
على إثارة المضامين التي يجب أن تنفرد بها المدرسة عن غيرها من الوسائط التي تكون في
الغالب ذات أهداف إيديولوجية خاصة، بالمقارنة مع المدرسة التي لا ننفي عليها هذا البعد
الإيديولوجي، إلا أن هذه الإيديولوجية تكون في الغالب "عمومية" ومتعاقد عليها بناء على ميثاق
تربوي وسياسي، يتفق عليه جميع أفراد المجتمع، عن طريق المؤسسات أو الفاعلين الذين يمثلونهم، وهنا أوظف اصطلاح "العمومية" بالمنظور
الكانطي، وأقصد به القدرة على استخدام العقل استخداما خاصا، بحيث يمكنك كمواطن حينما
تكون داخل المدرسة أو الإدارة أو مخفرا للشرطة ملزما بالخضوع للقوانين واحترامها، لكن
يجب أن يتيح لك القانون الحرية التامة لكي تعبر عن وجهات نظرك من كل المؤسسات أو الخدمات
التي لا تبدوا لك جيدة في الفضاء العمومي الذي يتكون من الصالونات الثقافية ووسائل
الإعلام السمعية والمكتوبة. وهكذا، عوض اللجوء إلى الفوضى والعنف، تكون الذات الفاعلة
والحداثية و التي يجب أن تعمل مدارسنا على تكوينها وتنميتها محترمة للقانون من جهة
حينما تكون داخل كل المؤسسات الرسمية والخاصة، ومعبرة عن موقف نقذي مؤسس وبناء في الفضاءات
العمومية الموازية التي تمتص العنف وتتيح لجميع الأفراد التعبير عن مواقفهم استنادا
إلى العقل وقدرته التبريرية المبنية على العقل والحجاج.
لا يخفى على أحد اليوم أن المدرسة لم تعد الوسيط الوحيد الذي ينشئ فيه الأفراد
أو
يطبّعون ويهذبون داخل المجتمع، فإلى جانبها نجد كل من: التلفاز/ المذياع/ أشرطة
الفيديو/ البرامج التفاعلية/ شبكات التواصل الإجتماعي/ المكتبات الرقمية/ الرسوم
المتحركة... ، وحتى إذا ما افترضنا إسهاما لا يمكن معرفة أثره للمدرسة في بناء هذه
القيم التي نريد أن يكون المجتمع قائما عليها، فإن الواقع يثبت أنه أحيانا لا تكون هذه
القيم التي يتم تهذيب الأطفال وفقها في المدرسة ذات "أثر براغماتي" داخل المجتمع،
إذ لا نستطيع التمييز بين تلميذ دخل المدرسة، وبين آخر لم تطأ قدمه فضائها نهائيا، فحينما ننظر لسلوكات المتعلمين وغير المتعلمين داخل الحياة العمومية المشتركة، وفي الحياة العملية بعد سنوات من التعليم، نكتشف أحيانا أن العنف، والوثوقية وعدم الإيمان بالإختلاف لازالت لم تصبح سلوكا يوميا لديهم، بينما يسيطر منطق القبيلة والأنانية المطلقة والإحتكام إلى العواطف والإنفعال في التعبير عن الرأي وهو ما يجعل السؤال مطروحا بحدة: أي قيم؟ وأي مضمون تربوي يتم تربية أبنائنا عليه في المدارس اليوم، وخاصة في عالمنا الممتد من شمال إفريقيا إلى حدود بلاد فارس؟
يطبّعون ويهذبون داخل المجتمع، فإلى جانبها نجد كل من: التلفاز/ المذياع/ أشرطة
الفيديو/ البرامج التفاعلية/ شبكات التواصل الإجتماعي/ المكتبات الرقمية/ الرسوم
المتحركة... ، وحتى إذا ما افترضنا إسهاما لا يمكن معرفة أثره للمدرسة في بناء هذه
القيم التي نريد أن يكون المجتمع قائما عليها، فإن الواقع يثبت أنه أحيانا لا تكون هذه
القيم التي يتم تهذيب الأطفال وفقها في المدرسة ذات "أثر براغماتي" داخل المجتمع،
إذ لا نستطيع التمييز بين تلميذ دخل المدرسة، وبين آخر لم تطأ قدمه فضائها نهائيا، فحينما ننظر لسلوكات المتعلمين وغير المتعلمين داخل الحياة العمومية المشتركة، وفي الحياة العملية بعد سنوات من التعليم، نكتشف أحيانا أن العنف، والوثوقية وعدم الإيمان بالإختلاف لازالت لم تصبح سلوكا يوميا لديهم، بينما يسيطر منطق القبيلة والأنانية المطلقة والإحتكام إلى العواطف والإنفعال في التعبير عن الرأي وهو ما يجعل السؤال مطروحا بحدة: أي قيم؟ وأي مضمون تربوي يتم تربية أبنائنا عليه في المدارس اليوم، وخاصة في عالمنا الممتد من شمال إفريقيا إلى حدود بلاد فارس؟
لا يمكن أن نتسرع في الاجابة على ذلك، ولكن يمكن أن نطرح تصورا بديلا لإحدى
المجتمعات التي عاشت نفس مأزقنا في القرن الثامن عشر، وسأعطي مثالا بالمدرسة الألمانية،
والتي يمكننا أن نلمس أزمة نظامها التربوي الذي كان يعم أروبا آنذاك في مختلف الأدبيات
التربوية والفلسفية التي صيغت في ذاك العصر، ولا شك أن كتاب "إميل أو في التربية"
لجان جاك روسو، أو تأملات في التربية لكانط التي أصدرها تلميذه رنكه سنة قبل وفاته، ومنها ألتمس مفهوم التربية المستنيرة
بوصفه بديل ممكن لهذه الهجانة التي نعيشها على مستوى المضامين التربوية في مدرستنا
والتي يعكسها تضارب "قيم عمومية وقيم
خاصة "، والقيم الخاصة هي القيم الماقبل مدرسية وتنبني على العرف والعادة والثقافة
الشعبية، وهي غالبا قيم لا يمكنها أن تقدم للفرد ما يمكنه من الإنفتاح والقبول بالآخر،
لذلك كنا في حاجة إلى المدرسة ليس فقط من أجل نقل مجموعة من الخبرات التقنية للمتعلم
كي يستطيع الإندماج بها في سوق المهن، بل من أجل الإشراف على توجيه سلوكاته وتصرفاته
وتمثلاته نحو النزوع إلى "الخروج" من العادة والعرف والانفتاح على العالمية
والإنسانية دون الإنسلاخ من فردانيته وخصوصيتها.
بعودتنا لهذه النصوص التي ألقاها كانط في جامعة كوسنبرج سنة 1776/1787 نجد
كانط يصرح في بدايتها بأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربيته، ويقصد كانط بفعل التربية: الرعاية والتغذية والتعهد
والإنضباط والتعليم المقترن بالتكوين ومن هذه الزوايا الثلاثة يكون الانسان رضيعا وتلميذا
وطالبا "، وتنقسم غايات التربية عند كانط إلى:
1- غايات مادية: يؤهل فيها
الطفل جسميا وبدنيا لكي يكون قادرا على الإقبال على الحياة.
2- غايات معرفية وعقلية:
تنصب على صقل الإستعدادات والملكات العقلية للطفل عن طريق التعليم.
التربية ليست خيارا
هكذا مع كانط لم تعد التربية خيارا
للآباء أو للمجتمع أو الدولة، وهي ليست نوع من الصدقة والكرم الذي نجود به على الطفل،
بل هي ضرورة وجودية من أجل تفادي حيوانية الأفراد وفي هذا الصدد يتسائل كانط
"هل يمكن الحديث عن إنسانية الإنسان لو جرد من التربية"؟ وهو ما يعني أن
التربية هي ما يكسب الإنسان إنسانيته، ويظهر ذلك جليا من خلال المقارنات التي يعطيها
كانط بين الانسان والحيوان، فالحيوانات عند ولادتها لا تحتاج للتربية لكي تتعلم ما
عليها القيام به، بينما الإنسان يحتاج للتربية وهو ما يؤكده كانط بقوله"الإنسان
لا يصير إنسانا إلا بالتربية".
التربية إسهام في التأسيس للمجتمع الإنساني
تكتسي التربية المستنيرة قيمتها وراهنيتها من خلال اعتبارها أساسا متينا لبناء
المشروع الأنواري والمجتمع الإنساني الذي دافع عنه كانط في نصه الشهير ما التنوير ؟وفي
كتابه تأسيس ميتافزيقا الأخلاق/ وفي مقالته حول السلم الدائم. فالتربية المستنيرة ذو
وظيفتين أساسيتين: فهي من جهة تعلم الفرد كيف
يمكنه أن يمتثل للمجتمع الذي يعيش فيه في لحظة الطفولة، لكنها في نفس الوقت تعلمه وتصقل
مواهبه واستعداداته العقلية والوجدانية كي
يستطيع التصرف في حريته حينما يصل سن الرشد عن واجب وليس عن طريق الإكراه، مما يجعلنا
أمام إنسان لا يخفي النوايا البغيضة بقدر ما يعبر عن جميع تصوراته ومواقفه لأنه يعي تمام الوعي أنه حر ومسؤول عن شخصه
الذي يحمل عبئ الإنسانية جمعاء ويطمح لسعادتها.
البيداغوجية كوسيط تأسيسي للتربية المستنيرة
لكي يتحقق هذا الهدف، يطالب كانط بتأسيس علم للتربية (البيداغوجية)، وتعني
البيداغوجيا: مختلف الطرائق والآليات والوسائط التي نعتمدها في نقل معارف ومعلومات
وتصورات من المستوى العالم إلى المستوى القابل للتعلم، مع مراعاة الخصوصيات السيكولوجية
والنفسية والعمرية للمتعلمين، وهكذا تكون البيداغوجية قائمة على النظر والتفكير في
تطوير الإستعدادات الإنسانية وتوجيهها لترتقي بها نحو وضع أفضل مما هي عليه، لهذه الغاية
على البيداغوجية أن تتخذ بعدا كونيا وعالميا وهو ما لا يمكن أن يتأتى حسب كانط إلا
عن طريق "العمل على توريث الأجيال القادمة تعليمات تستطيع تحقيقها بالتدريج بغية
الوصول نحو الكمال الإنساني".
إذن كيف يمكن أن نجمع بين الحرية والإكراه في التربية؟ وكيف يمكن أن تكون
التربية المستنيرة ما يميز المدرسة اليوم في ظل تعدد الوسائط التي تنافس المدرسة في
هذه الوظيفة؟ أجيب بأنه يمكن ذلك عن طريق فهمنا لبنية كل من : الوسائط والمدرسة ف:
1- الوسائط : غايتها إيديولوجية
وتخدم المصالح الخاصة، وذلك واضح من خلال الوسيط الإعلامي الذي يخدم في العمق الدعاية
السياسية أو الشركات الكبرى الراعية للإشهارات أو خدمة الإقتصاد والإستهلاك.
2- المدرسة: مؤسسة عمومية
تعمل على نشر القيم العمومية والمدنية ويمكن أن تسمح للطفل بأن يقول كل شيء، وهي ليست
حكرا على جهة معينة، بل غايتها إعداد الفرد لكي يخرج من وضع القصور الطبيعي والثقافي
الذي يفرض عليه أحيانا من طرف الأجهزة الإيديولوجية المنتشرة اليوم، وتكمن قيمة المدرسة
في كونها وسيط إيديولوجي، لكنه خاضع ويجب أن يكون خاضعا ومنفذا للتعاقد السياسي الذي
اتفقت عليه كل الإرادات الفردية والجماعية داخل الدولة، وهكذا نعتبر أن المدرسة يمكنها
أن تكون الوسيط الأكثر قدرة على الإسهام في التربية المستنيرة، إذ من داخلها يكون متاحا
للمتعلم والطفل والتلميذ، بأن يفكر في كل القضايا سواء السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية
أو الثقافية من منظور مختلف بواسطة موجه وهو البيداغوجي الذي يقود المتعلم نحو استخدام عقله الخاص في التفكير.
الإرادة السياسية شرط ضروري للتربية
المستنيرة والمجتمع الإنساني:
إن تكون لدينا وعي تاريخي وحصّلنا بعض الدروس من التاريخ فيمكن أن نصل في
نهاية المطاف في عالمنا إلى ما قاله كانط في نصه الشهير تأملات في التربية"لا
يستطيع الإنسان أن يصير إنسانا إلا بالتربية. فهو ليس سوى ما تصنعه به التربية. ولا
بد بالتأكيد من ملاحظة أن الإنسان لايربّى إلا من قبل أناس، ومن قبل أناس ربوا هم أيضا.
لذا، فإن عدم الإنضباط والتعليم الذي يلاحظ عند بعض الناس يجعل منهم مربين سيئين لتلاميذهم،
فلو تعهد كائن من طبيعة فائقة بتربيتنا لرأينا إذ ذاك ما يمكن أن يصنع بالإنسان. ولكن
بما أن التربية من جهة لا تعلّم البشر إلا أشياء معينة، ومن جهة أخرى لا تفعل سوى أنها
تنمي لديهم صفات معينة، فمن المستحيل أن نعرف إلى أين تمضي استعدادات الإنسان الطبيعية.
ولو أن تجربة معينة أجريت –في هذا الشأن- بدعم من أولي الأمر وتضافر قوى الكثير من
الناس، لمكنّنا ذلك من معارف كثيرة نتبيّن من خلالها إلى أين يمكن للإنسان أن يتقدم،
وإنه لشيء محزن بالنسبة إلى شخص يحب الإنسانية، وجدير بالملاحظة على حد سواء بالنسبة
إلى ذهن تأملي، أن يرى أغلبية أولي الأمر لايفكرون أبدا إلا في أنفسهم، ولا يشاركون
أبدا في التجربة الخطيرة للتربية حتى تخطو الطبيعة خطوة أكثر نحو الكمال"، مما
يؤكد أن مجتمعا إنسانيا تؤسسه التربية المستنيرة وتساهم فيه المدرسة يظل شرطه الأساسي هو الإرادة السياسية الحقيقية.