-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

هل تأثر "محمود درويش" بالشعر العبري؟ بقلم: السيد نجم

"محمود درويش" الشاعر، له مكانته المرموقة بإعتبار منجزه الشعري يعد تعبيرا عن مرحلة تاريخية، لقضية إرتبطت بمصير أمه بأكملها. إلا أن السؤال الآن: هل لنشأته
الأولى حيث تعرف على الشعر العبري ومعطياته، تأثير ما يمكن البحث عنه وتحليله؟   أظن أن "درويش" قرأ الأدب العبري، قراءة الدارس، وتابع ما أخرجته المطابع العبرية منذ أن بدأت الهجرة الأولى المكثفة والمنظمة، بعد مؤتمر "بال" عام 1897م.. كما أظن أنه تأثر بهذا الشعر العبري أكثر كثيرا من تأثره من المعطى الشعري العربي خلال القرن الماضي، وحتى يوم وفاته. وليس في هذا الملمح مأخذا عليه، ولكنه قد يضيف أكثر كثيرا إليه، فبالإضافة إلى شعره (المقاوم) هذا الشاعر يملك الذكاء اللازم لكل رائد في كل مناحي الحياة وفنونها، وأعنى "الذكاء الإجتماعي والثقافي" الذي قد يختصر السنوات من عمر الأديب/الفنان في البحث والإجادة.
قد يظن البعض أن الظرف التاريخي الآن، لا يسمح لنا أن نقرأ الأدب العبري بموضوعية علمية محايدة. وهى نظرة خاطئة، فليس أجدى لنا أن نتعرف على الآخر المعتدى، من أن نقرأ أشعاره ونثره، ونتعرف على رؤيتهم الثقافية لا رؤيتنا نحن فقط، وكذا حركته الثقافية التي ينبغي أن نتعرف عليها ليس فقط من منظار (إعرف عدوك) فقط، وإنما أيضا (إعرف كيف يعرف عدوك نفسه؟) لذا كانت تلك المقاربة بين أشعار "محمود درويش" والشعر العبري.. من خلال صورة "الأب" ودلالاتها.
لقد إعتبر النقد العبري الشاعر "خاييم نيكمان بياليك" رائدا للشعرية العبرية الحديثة، التي بدأت في القرن الماضي. و إن تحلى "بياليك" بسمة توظيف الشعر في خدمة الأيديولوجيا الصهيونية الفتية في تلك الفترة.. فان المراحل التالية تخلت عن تلك الأيديولوجية تدريجيا، خصوصا بعد إعلان دولتهم فى1948م، ومن ثم جملة الإنتصارات العسكرية التالية، حيث كان السؤال:     هل يمكن الإحتفاظ بالأرض العربية المحتلة التي إتسعت؟                                            أما وقد كانت معارك أكتوبر1973م، والإنتفاضة الأولى ثم الثانية، وبعدها معارك جنوب لبنان وإنتصار المقاومة اللبنانية فى2006م، بات السؤال هو البحث عن إجابة شافية حول سؤال "الهوية"، هوية العبري الوليد وسط مستجدات خانقة تبشر بمولد عصر عربي جديد، وأن العربي لم ينس ولم يستسلم.                                                                             فأصبح الشعر العبري متشككا في مقولات جاهزة قديمة، مثل "أرض الميعاد"، وبالتالي بدا الشاعر العبري وكأنه يبحث عن إنسان جديد، فكانت القصائد الوجدانية المعبأة بمفاهيم الإغتراب.. حتى نظر البعض إلى "اليهودي" وكأنه "الضحية" التاريخية.. في أوروبا وفى إسرائيل.. بين الأوروبيين وبين العرب! وقد لعب التوجه الشعري الجديد بالبعد عن الدور التقليدي للشعر العبري من قبل، من حيث التعبئة بالأفكار الصهيونية، والبعد عن دور إجتماعي ما، وهو ما ساهم في إعلان دولتهم من قبل. بل بدت القصائد وكأنها الغاز شعرية، منغلقة على ذات الشاعر. و إتسعت الهوة بين القارئ العبري وشعره.
فقد تتلمذ جيل شعراء "الغموض" (في الثمانينات) على رواد جيل الخمسينيات (جيل ما بعد الدولة- جيل الطليعة) وفي مقدّمتهم "يهودا عميحاي" (١٩٢4-2000)، "نتان زاخ" (ولد1930) ودافيد أفيدان (1943-1995) الذين ثاروا على قوالب الشعر العبري في النصف الأول من القرن العشرين.. ثم تمرد.
*الأب وصوره، عند "درويش" والشعر العبري.. يعد "الأب" في العمل الإبداعى، سواء في النثر أو الشعر، من العناصر الفنية التي يوظفها المبدع، كل حسب رؤيته وأفكاره. ثم الإتكاء على فكرة "الأب" لمعالجة القضايا التراثية والمعاصرة معا. سواء كان ذلك في الأدب العالمي أو العربي، وبالتالي في الأدب العبري، ونتخير "صورة الأب في الشعر العبري" و"صورته في شعر محمود درويش".. للبحث من خلال تلك المقاربة عن عناصر التشابه والإختلاف، مع ملاحقة صورة الأب مع كل رؤية وظيفية مختلفة. وهى في مجملها وظيفة إجتماعية، ميتافيزيقية، نقدية، وغيرها.
لم يخل الشعر العبري من نمط "الأب" بدلالاته وتوظيفاته المختلفة، مثلما لم يخل شعر "محمود درويش"، وتخيرنا منها ثلاث قصائد هي: "أبى"، "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر"، و"أنا يوسف يا أبى". 
.."الأب" في قصائد محمود درويش.. قصيدة "أبى":
"غض طرفا عن القمر/وانحنى يحضن التراب/وصلى.. لسماء بلا مطر، /ونهاني عن السفر!/ أشعل البرق أوطية/ كان فيها أبى/ يربى الحجار/ من قديم.. ويخلق الأشجار!/ جلده يندف الندى/ يده تورق الشجر/ فبكى الأفق أغنية:/ -كان أوديس فارسا../ كان في البيت أرغفة/ ونبيذ، وأغطية/ وخيول، وأحذية/ وأبى قال مرة/ حين صلى على حجر:/ غض طرفا عن القمر/ واحذر البحر.. والسفر!
 يوم كان الإله يجلد عبده/ قلت: يا ناس! نكفر؟/ فروى لي أبى.. وطأطأ زنده:/ في حوار مع العذاب/ كان أيوب يشكر/ خالق الدود.. والسحاب!/ خلق الجرح لي أنا/ لا لميت.. ولا صنم/ فدع الجرح والألم/ وأعنى على الندم!
   مر في الأفق كوكب/ نازلا.. نازلا/ وكان قميصي/ بين نار، وبين ريح/ وعيوني تفكر/ برسوم على التراب/ وأبى قال مرة:/ الذي ما له وطن/ ما له في الثرى ضريح/ .. ونهاني عن السفر!"                                                                           
بضمير المتكلم، منح "درويش" شعره للتعبير عن الملل والإحساس بالقهر والتعبير عن الحزن والأسى ثم التمرد. بدت صورة الأب صورة نمطية للعربي المسلوب الحيلة، في مقابل صورة الابن الذي يبدو راغبا في "السفر".. والسفر هنا ليس الإرتحال التقليدي وحسب، هو الرفض السلبي، والشعور بقلة الحيلة، والرغبة في التمرد بما هو ممكن ومتاح.. ومع ذلك لم يسافر نظرا لسطوة الأب.
لعل تلك القصيدة من القصائد الأولى التي كتبها "درويش" في بكرة شبابه، حيث البحث عن طريق، عن سبيل للخلاص، عن رفض الواقع المعاش دون يقين بطريق يسلكه ويتمناه. تلك المرحلة التي كتب فيها "درويش" قصيدته الشهيرة "بطاقة هوية":
"سجل!/ أنا عربي/ ورقم بطاقتي خمسون الف/ وأطفالي ثمانية/ وتاسعهم... سيأتي بعد صيف! ..."                                                                                       الرابط الخفي الظاهر لتلك المرحلة التي كتب فيها درويش أشعاره، هي مرحلة البحث عن الذات، فكان البحث من خلال "الأب" و"الهوية".
..قصيدة "أغنية ساذجة عن الصليب الأحمر"  "هل لكل الناس، في كل مكان/ أذرع تطلع خبزا وأماني/ ونشيدا وطنيا؟/ فلماذا يا أبى نأكل غصن السنديان/ ونغنى، خلسة، شعرا شجيا؟/ يا أبى!/ نحن بخير وأمان/ بين أحضان الصليب الأحمر!/ عندما تفرغ أكياس الطحين/ يصبح البدر رغيفا في عيوني/ فلماذا يا أبى، بعت زغاريدي وديني/ بفتات وبجبن أصفر/ في حوانيت الصليب الأحمر؟/                            يا أبى! هل غابة الزيتون تحمينا إذا جاء المطر؟/ وهل الأشجار تغنينا عن النار، وهل ضوء القمر/ سيذيب الثلج، أو يحرق أشباح الليالي/ انحنى أسأل مليون سؤال/ وبعينك أرى صمت الحجر/ فأجبني، يا أبى، أنت أبى/ أم تراني صرت ابنا للصليب الأحمر؟!/ يا أبى! هل تنبت الأزهار في ظل الصليب؟/ هل يغنى عندليب؟/ فلماذا نسفوا بيتي الصغير!/ ولماذا، يا أبى، تحلم بالشمس إذا جاء المغيب؟/ وتناديني، تناديني كثيرا/ وأنا أحلم بالحلوى وحبات الزبيب/ في دكاكين الصليب الأحمر/ حرموني من أراجيح النهار/ عجنوا بالوحل خبزي.. ورموشي بالغبار/ أخذوا منى حصاني الخشبي/ جعلوني أحمل الأثقال عن ظهر أبى/ جعلوني أحمل الليلة عام/ آه من فجرني من لحظة جدول نار؟/ آه، من يسلبني طبع الحمام/ تحت أعلام الصليب الأحمر!/..."                     
قدم الشاعر "محمود درويش" "الأب" كمكانة إجتماعية، وكعون نفسي وجسدي، وإشتكى إليه ألآمه وعجزه، و إن علم أن أبيه يحمل أثقاله أيضا، ولكنه الابن عليه أن يحملها عنه.. وفى كل الأحوال، ومع كل المنغصات، تبرز السخرية من الواقع المعاش.. حيث يتولى "الصليب الأحمر" مهمة "الأب" رعاية اللاجئين أو رعاية الفلسطينيين (أم تراني صرت ابنا للصليب الأحمر؟!)، بينما البيوت تتهدم، والأطفال يحرمون من اللعب والأراجيح!                
  تلك النظرة النقدية، تعد مرحلة جديدة في رؤية الواقع المعاش والتعامل معه شعريا، و إستخدم الشاعر "الأب" متكئه وأدار حوارا ذكيا معه. لم يعد الأب مفعولا به فقط، بل قابل للتحاور والتعامل والمشاركة. بينما بدا "الأب" في قصيدة "الأرض" لدرويش(التي كتبت أثناء الانتفاضة الأولى أو انتفاضة الحجارة) هو التاريخ، يقول:
"... وفى شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،/ ولدت على كومة من حشيش القبور المضيء./ أبى كان في قبضة الانجليز. وأمي تربى جديلتها/..."
..قصيدة "أنا يوسف يا أبى"
"أنا يوسف يا أبى. يا أبى، اخوتى لا يحبونني، لا يريدونني بينهم يا أبى. يعتدون على ويرمونني بالحصى والكلام. يلايدوننى أن أموت لكي يمدحونني. وهم أوصدوا باب بيتك دوني. وهم طردوني من الحقل. وهم سمموا عنبي يا أبى. وهم حطموا لعبي يا أبى. حين مر النسيم ولاعب شعري غاروا وثاروا على وثاروا عليك، فماذا صنعت لهم يا أبى؟ الفراشات حطت على كتفي، ومالت على السنابل، والطير حطت على راحتي. فماذا فعلت أنا يا أبى؟، ولماذا أنا؟ أنت سميتني يوسفا، وهموا أوقعوني في الجب، واتهموا الذئب، والذئب أرحم من اخوتى.. أبت! هل جنيت على أحد عندما قلت أنى: رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين."                                         
لعل هذه القصيدة من أكثر القصائد تفعيلا فنيا لصورة "الأب"، حيث هنا "الأب" هو "التراث"، هو "إمتداد الذات"، هو "نقد الواقع السياسي المعاش". فقد إستعان الشاعر بقصة النبي "يوسف"، وطرح سؤاله الإستنكاري الرافض للواقع، من خلال مساءلة الأب (النبي) والشكوى إليه أيضا.
يريد الشاعر أن يقول للعرب أن أبونا واحد، ودمنا واحد، لماذا اعتراضكم.. لماذا رفضكم.. لماذا الاختلاف؟ "هل جنيت على أحد عندما قلت أنى: رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين".. لعله شاء أن يبرر ما فعله واعترضوا عليه، أنه قال بالمقاومة حتى تسجد له القوى الأخرى! انه عمل شعري راق وجميل، دال ومعبر وقريب إلى قلب وعقل القارئ، لانتماء القارئ إلى قصة "النبي يوسف" وحبه لها وتفهمه أيضا. 
.. بينما صورة الأب في الشعر العبري قصيدة "أبى" للشاعر "خاييم نيكمان بياليك"..           وهو يمثل بداية الشعر العبري الحديث، بل ورائده في النصف الأول من القرن العشرين، وظهرت حتى الآن عدة موجات جديدة صعودا وهبوطا.. كلها تتسم بالتمرد على الجماعة السابقة عليها، وان بقى "بياليك" رائدا..                                                                                
مطلع قصيدته (أبي): 
"غريبة كانت طريقة حياتي وعجيبة كانت أحوالها،/  بين البوابة الجرداء والعربة الملوثة هي دورة أيامي: من الانغماس بالتعبد إلى الفساد، ومن الطهارة إلى القذارة./                                                 نرى الرعب وما يلاحظه الطفل في الخان المليء بالمخبولين غير اليهود،/ الرزق الأبوي، والكرب التالي عندما يغادر حضن الله كل صباح،/الربيع التام لحياته، عندما يضع جانبا كساءه المقدس: التاليت والتوتافوت"(أسماء ملابس دينية يهودية) ..                   
وظف الشاعر ذاكرته الشخصية وأنشد لأبيه كنموذج لرجل الدين الطاهر، بينما يعانى الشاعر من الانغماس في التعبد إلى الفساد.. الأب إذن هو التراث الديني، هو اليهودية، هو البعد التاريخي. هذه المرجعية الأخلاقية عند الشاعر وجيله، هي نفسها ما كانت الحافز للتوجه المختلف عند الأجيال التالية. خصوصا لأن الشاعر يستخدم لغة عبرية توراتية، ومستعينا بكل ما يعبر عن اليهودية النمطية حتى في الملابس والكلمات. انه جيل الشعراء المهاجرين الأوائل، والمحملين بالحلم الصهيوني.
ثم جاء جيل شعراء فلسطين (وهم من ولد في فلسطين، بعد استقرار إقامة الجيل الأول)، تمردوا على "بيالك" وجيله، ونزعوا نحو مزيد من الحرية والاستقلال لنزعتهم الشعرية، وبعيدا عن الرؤية الأخلاقية، والنزعة التوراتية، حتى قال رائد الجيل التالي "أبراهام شلونسكي" في عام1931م. أن شعر "بيالك" أنه شعر قديم ومحافظ.
وبدت المدرسة الحديثة تلك ذي نزعة غربية، ففضلت الرقة في العاطفة والرموز الميالة للوضوح والنصوص ذات المسحة الغربية على العواطف والانفعالات، خصوصا شعر شرق أوروبا. وان بدت على مدارس مختلفة: "مدرسة الزراعيين" التي نشأت في بدايات القرن العشرين، وهى التي تعنى بشعراء الأراضي الزراعية أو الفلاحين. و"مدرسة الشعراء الاجتماعيين" الذين كتبوا أغاني وطنية وإحتفوا بالروح الريادية. القصائد الأكثر تذكرا، خصوصا قصائد الشاعر "راحيل بلوشتين" التي لحنت وأصبحت أغنيات شعبية. ومع ذلك فقد فضل شعراء "مدرسة المدنيين" مدنيتها وذلك القلق واليأس الذي يأتي معها.              
جاء الجيل التالي، وعلى رأسهم الشاعر "ناتان زاخ" ومعه "يهودا عميحاي"، "دان باغيس"، "داليا رابيكوفيتش"، "وديفيد أفيدان". فقد ابتكر هؤلاء الشعراء ما يسمى بالانسحاب من اليقينية، وتوظيف السخرية في أشعارهم، وكلا الأمرين يمكن أن تجدهما في قصيدة "يهودا عميحاي" (أبي):   "وبعينه جمع الأموات الذين لا أسماء لهم، / عدد وفير منهم جمعهم باسمي،/ حيث أستطيع تمييزهم في نظرته الخاطفة وأحبهم./ الموت لا يكون هكذا.. بالخوف القاتل... /                                                                         لقد ثبت عينيه معهم وما زال يخطئ قائلا: لكل معاركي أنا متيقظ."
كما تناول الشاعر "أبا كوفنر" (1918-1987) الأب في قصائده، يقول:                            "كان أبونا، / شاكرا لله،/ يأخذ خبزه من نفس الفرن لأربعين سنة./ لم يكن لي، /بل أبدا أن أناسا سالمين/ قد يقضون في الأفران وفي هذا العالم، / توكل على الله وتابع السير../ ..."                  
وفى قصيدته "الطفل أسند رأسه" يقول: 
"الطفل أسند رأسه على الشجرة/ من الأفضل أن يسنده على كتفي/ إذا أضناه التعب، أو على كتف أمه./ ولكن عندما يقف أبوه وأمّه/ كتفا لكتف/ ويحدّقان صامتين/ كيف يسند الطفل رأسه إلى الشجرة / ويبكي مستفسرا في حضنها/ثمّ يرى / الشمس تشرق/ ومن خلال الشمس/ قد/
يرى أيضا/ أباه وأمّه /والشجرة تقف، هذا جوابها."
تبدو رؤية "أبا كوفنر" أكثر شعرية، وأكثر ذاتية أيضا. وقد يبدو للوهلة الأولى أن "الأب" فقد سطوته ومكانته، أن "الأب" الحائر عاجز عن توفير إجابة.
*أصوات شعرية: (معاصرة لعلها لا تعطى للأب دورا البتة).."موشيه دور" (ولد في 1932 في تل أبيب، واعتنق رأي "زاخ" في الانسحاب من اليقينية.  معبرا عن رفضه أنه يمكن للأب أن يزرع الإحساس بالأمان؟) يقول في قصيدة "في الضياع":
"أنا في ضياع على هذا الشارع ذاته الذي انتظمت بيوته وحدائقه كطاولات المقهى./ يدي ما تزال في يد ابني وما تزال نظرته محدقة في وجهي،/ قد لا تتزحزح سفينته../                                                                    فيما أنا أتظاهر بالشجاعة واللياقة."                                                                  
..الشاعر الروماني اليهودي "باول كيلان" ليس أقل منه في قصيدة المعنونة ب "مذكرات من فكرة باول كيلان" يقول مخاطبا الأب/الأبوان هذه المرة:
  "إقتادوا والديك في عربة يقودها الثور/ إلى مكان لم يكن بعيدا/ وراء السبت الأخير./ خازيديم يرقص في السماوات،/ حيث لا كلام هناك،/ حيث الكلمات صامتة،/ وما من ساحات مكتظة بالناس."
*مقاربة بين صورة "الأب" في شعر محمود درويش، وفى الشعر العبري:
أولا: تبدو صورة "الأب" في قصائد "درويش" حاضرة ولعلها فاعلة فنيا، وان بدت مقهورة قليلة الحيلة غالبا. فيما جعل من "الأب" تراثا يثير عواطف القارئ ويوافقه على وجهة نظرة، كما جعله المخاطب الآني الذي يعاتبه الابن –ربما- لكنه أبدا لا يسقطه من وجهته، أما وقد جعله رمزا للعطاء، خاب ظنه لأنه رمز الصليب الأحمر، غير الراعي لأبنائه.                        
ثانيا: بدت صورة "الأب" في الشعر العبري الحديث، في البداية مع جيل المهاجرون الأوائل، كان أبا ورعا وتقيا له كل الإجلال، وان كانت الأبناء أقل منه تقية وورعا.. ثم جاء الجيل التالي الذي جعل من الأب، العين الراصدة، المعاتبة حينا والمحفزة حينا، وفى كل الأحوال كان الأب بعيدا عن أرض الواقع المخيب لطموحاته، لأن الطفل يتكئ على شجرة ولا يريد أن يسند رأسه على كتف أبيه أو أمه.. وجاء من أكد أن الأب فقد دوره، وعجز عن إعطاء الأبناء الإحساس بالأمان.. وفى جيل الشاب وقال "صاموئيل شاتال" شكرا للحجر الذي يبنى القصائد والجسور والبيوت، وجعل الحياة محتملة!                                                                     
ثالثا: بقيت للأب مكانته، ولم يعرف عن "درويش" رفضه لدوره (دور الأب) الفني الابداعى، لكنه لم يعد يذكره كلما كثرت الأيام، وتعددت سنوات العمر، حتى كانت النظرة إلى داخله في مقابل جيل كامل في الشعر العبري (جيل الشباب). بينما الشاعر العبري الشاب ما زال يحلم، يحلم بشواطئ مشمسة، وبارتداء الملابس القديمة (يحلم بالأجداد)، وبإطلاق النار على السنجاب الجاسوس العربي، وبينما يشكر الحجر البناء.. بدا "محمود درويش" يحلم بترميم داخله المهجور، يقاوم مازال، على الرغم من كل الهزائم، يرجو الترميم. يقول في قصيدته الطويلة "جداريه":                                "سأحلم، لا لأصلح أي معنى خارجي./ بل كي أرمم داخلي المهجور من أثر/ الجفاف العاطفي. حفظت قلبي كله/ عن ظهر قلب: لم يعد متطفلا/ ومدللا. تكفيه حبة "أسبرين" لكي/ يلين ويستكين. كأنه جارى الغريب/..."                                                   رابعا: بقى للأب دوره "المقاوم" على كل أشكال التناول عند "درويش"، ولم يكن له دوره التحفيزي في الشعر العبري الحديث، إلا مع الجيل الأول من المهاجرين، ثم تحول إلى المتابع الراصد، ثم تلاشى هذا الدور.                                                     خامسا: الراصد لمجمل أعمال "محمود درويش" يتلمس تلك المسحة الخاصة بشعره المقاوم، غير الزاعقة، الراعية لفنيات الشعر وعوالمه، المتضمنة بعض من تراثه القرآني ومفرداته.. وأخيرا الحكائى، والذي يبدو أحيانا أقرب إلى بوح الاعتراف. أظن أن خصوصية "درويش" تلك ترجع إلى تعرفه على الشعر العبري مبكرا.. فقد حمل الشعر العبري الحديث مجمل ملامح الشعر الأوروبي ومنجزاته.
.. يبقى "محمود درويش" الشاعر، من فرط ثراؤه الشعري كما وكيفا، مقصد كل محبي الشعر، وكل صاحب قضية.. وبابا ملكيا لدراسة "المقاومة" في الشعر العربي.
..................................
Ab_negm2014@yahoo.com


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا