من خلال مشاهدة وقراءة الوضع السياسي والثقافي لواقع الثورات العربية، يخلص المرء الى نتيجة أن كلمة الثورة العربية هي مقاس كبير وفضفاض على الشعوب العربية لأسباب بسيطة، لاخلاف عليها، منها أن الثورات الحقيقة ليست فقط تغير أنظمة حكم ديكتاتورية، أو تبني أفكار وايديولوجيات غربية مستوردة لشعوب ناضلت عهود من الثورات الحقيقة التي أوصلتها الى ما هي عليه الإن.
الثورات الحقيقية هي الثورات التى تواكبها ثورات في وعي الشعوب، وعي في الأفكار والمفاهيم، وأهمها فهم المجتمع للقيم الإنسانية التى تساهم في بناء حضارة وثقافة الشعوب المناضلة من أجل كرامتها الحقيقة بكل المقاييس. ماذا قدمت الثورات العربية ، أو بالأحرى ماذا غيرت؟ هل غيرت وأصلحت من حال مجتمعات غارقة في الخيبات والمآسي؟ لتكون هناك ثورة حقيقية، يجب أن يكون هناك تغير في الخطاب الديني، في سياسية التعليم، تغير في القيم والممارسات التي تنتهج ثقافة الإقصاء وعدم الإعتراف بالأخرو آراءه المختلفة عنا. ما نحتاجه هو رؤية جديدة الى المقدسات المتوارثة التى تجرنا أكثر فأكثر الى هاوية الثقافة العمياء التى لا تنتج إلا ثقافة الإطاعة العمياء الى رموز صنعها رجال الدين والسياسة لتعزيز مكانة وسلطة النخبة التى لا تهمها المصالح الوطنية، ولا تعمل من أجل النهوض بشعوبها الى مكانة تحترم بين الشعوب الأخرى.
إن تكريس ثقافة المقدسات وصنع آلهة من شخصية الحاكم بمباركة من رجال الدين ماهي إلا تكريس لقيم الجهل وعدم النهوض بوعي الشعوب لتبقى في حالة عبودية أبدية،تكريسا للحكم الأبوي البطريركي، القمعي لكل طبقات المجتمع.اذا أردنا فعلا ثورات حقيقة تنهض بشعوبنا ومجتمعاتنا، يجب أولا وأخيرا، أن ننهض بالإنسان، أن نستثمر بالإنسان العادي، بالتعليم الذي هو المفتاح الوحيد والحقيقي للوعي، وبناء قاعدة اجتماعية قادرة على استعياب مفهوم الحرية والديمقراطية التى لا تعرفها شعوبنا على أرض الواقع، إنما عبارة عن مفاهيم، وشعارات مستوردة من مجتمعات عانت وناضلت من أجل امتلاكها وممارستها على أرض الواقع.
إن الأستثمار في الإنسان العربي ووعيه هو الثورة الحقيقية لمجتمعات المنطقة العربية وما غير هذا سوى العيش في دوامة الفراغ، والقتل والتدمير لشعوب المنطقة واستنزافها سياسيا، اجتماعيا واقتصاديأ، التغير يبدأ أولاوآخرا في تغير النفس، والقيم الإنسانية، التغير في المفاهيم والإعتقادات السائدة التى تعزز السلبية والخضوع لما هو سائد ومتوارث على جميع الأصعدة التى تخدم كما قلت النخبة الحاكمة، التى تجيش الإعلام، والإقتصاد والدين من أجل تعزيز الواقع الذي يضمن لها بقائها على حساب المجتمع بأكمله. والأهم من ذلك يجب أن يكون هناك وعي بحقوق المواطن الإقتصادية والسياسية والمواطنة ، لأن الحقوق لا تتجزأ وتكمل بعضها بعضا.
إن الشعوب هي من تصنع قراراتها ومستقبل أوطانها، لذلك لا بد أيضا أن يتم الإستثمار في القيم الأنسانية والقيم الحقيقة التي تساهم في بناء حضارة انسانية ترتقي الى حضارة الشعوب الأخرى، لأن القيم الحقيقية لأي حضارة تكمن في بناء الإنسان، واحترام حقوقه، والإستثمار فيه، لكي يتم الأستفادة من قدراته لاحقا في بناء المجتمع، ووضع المصالح الوطنية ، ومصلحة الشعب فوق كل اعتبار.
إن ما يغيب عن الساحة العربية السياسية هو غياب المجموعات والأحزاب التى تعمل من أجل المصلحة الوطنية، وتضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ترقى به الى المقدسات . هكذا هي التابوهات الحقيقية التى يجب تقديسها وعدم المساس بها، ما نراه اليوم على الساحة العربية هو صراع عربي – عربي امتدادا لأجندات وايديولوجيات غربية بمفاهيم هي بعيدة كل البعد عن واقع الأمة العربية،
بالإضافة الى ذلك وجود أنظمة عربية ديكتاتورية وامتداد لسياسات تآمرية على الشعوب تستلهم نهج واستراتيجيات عفى عنها الزمن للممارسة وتكريس الأنصياع والخنوع والسلبية في مجتمعات لا تعرف سوى لغة النار والقبضة الحديدية، حكومات تمارس سياسات الإقصاء،وقمع وقتل الرأي المخالف ، وقمع أي صوت يمكن أن يؤدي أو يثير الوعي الراكد منذ مئات من عهود الخوف، اليأس، والسلبية، لأن اشد ما يخيف الأنظمة الشمولية ، ويهز عرشها التي بتنه على خوف شعوبها واستبدادها هو وعي شعوبها واستيقاظها من حالة العبودية وبدء تمردها.
استيقاظ الشعوب هي رفض لكل أشكال الحكم الشمولي سواء كان ديكتاتوري أوحكم دينيا أو عسكريا، حيث كلاهما وجهان لعملة واحدة، التضليل والعبودية بكل أشكالها. كلاهما يعتنق ثقافة الإقصاء واغتيال الإخر، كلاهما يؤمن بالحقيقة المطلقة، وهم من يمتلكوها، ولا وجود للرأي الأخر في منظومة الأفكار والمفاهيم الخاصة بهما.
فالثورة الحقيقية اذا تبدأ في الوعي ثم الوعي ثم الوعي والإصلاح الذي يبدأ في التغير واتخاذ الطريق الديمقراطي كأساس وحل وحيد لإرساء القيم الإنسانية، وبناء مجتمع ديمقراطي يحتاج الى النضال وبذل الجهود من أجل إرساخ مجتمع حر وديمقراطي .
الشعوب هي وحدها من تبني اوطانها وثقافتها، وقيم الحرية والديمقراطية لا تسستورد على ظهر الطائرات الحربية، وأن السياسات الغربية الأمريكية في المنطقة العربية تحت غطاء تصدير ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما هي إلا استمراروتضليل لإهداف سياسية ومصالح اقتصادية في المنطقة، سياسات سعت منذ مئات من السنين على استغلال ومصادرة ثروات المنطقة العربية، مستمرة في نهجها تحت أشكال جديدة من الإحتلال بشكل يتناسب مع العباءة الجديدة المزركشة بمفاهيم الحرية، الحضارة والديمقراطية.