مثل يوم لن يتكرر... المهدي أيت بعراب
"ما يهم في الحياة ليس هو
ما يحدث لك،
ولكن ماذا ستتذكر وكيف ستتذكر ذلك"
غابرييل غارسيا ماركيز
ظلام حالك يسود المكان، وحدها الكتابة انعتاق من العدم، من
اللاجدوى، تحرر من ثقل المحسوس، مصباح سحري ينير العالم .. فانوس يسكنه مارد، مارد
من أحاسيس وأرواح .. حيوات تقدم لنا على طبق من كتابة..
اعتدت تدوين يومياتي في منتصف الليل، إلى أن ينام الجميع، لا لشيء،
سوى استشعاري أنني مركز العالم، محور الكون .. أكتب دون ضوء، ولما أحتاجه!؟ أليست
الكتابة نورا يخرج من ظلام ذواتنا..
استيقظت اليوم منفعلا، تتضارب داخلي الأحاسيس والانفعالات ..
أستيقظ يوميا، كأنني أستيقظ لأول مرة، أستيقظ على فطرتي الأولى، أستيقظ بعقل سكرانٍ
لعب به الخمر ..
الساعة تشير إلى السابعة صباحا، لم أتعود الاستيقاظ لوحدي إلا مرات
نادرة، أحتاج دوما لمحفز يدفعني للاستيقاظ باكرا، تساءلت: ما حاقزي اليوم يا ترى؟
قطعني رنين الهاتف عن التفكير، ما إن رأيت اسم أيوب على شاشة الهاتف، حتى تذكرت
أنني على موعد مع تجربة جديدة وفريدة هذا الصباح:
-
ألو، صباح الخير
-
أهلا صديقي،
كانمتناماتنساش التزامك اليوم
-
لا السي أيوب،
الراجل هو الكلمة
-
تبارك الله عليك، أو
أعتذر ماغنقدرش نجي
-
لا عليك سأتكلف.
-
نهارك مبروك
فضل القراءة على العالم كثير
كثير، وأنا جزء من هذا العالم، فضلها علي يفوق كل التوقعات..
القراءة: ذلك الفعل العجيب
المالك لمفعول سحري، له القدرة على تغيير حيواتنا، ورأب الصدع الحاصل في قلوبنا،
تذكرت فجأة ما قاله عزرا باوند[1]
"يجب أن نقرأ لنزيد من قوتنا.. الذي يقرأ إنسان مفعم بالحياة، والكتاب ما هو
إلا وعاء مننور يقبع بين يدي من يقرأ".
أيوب هذا، من أفضال القراءة
علي، صديق شاب، شاعر، والمهم أنه قارئ شغوف، عاشق للشعر ومهووس بالرواية..
استغرقت مدة قصيرة بين
الاستحمام، والصلاة، وتغيير الملابس، فالمواعيد المهمة لا يجب أن تنتظر كثيرا.
محطة "الطاكسيات"
فارغة على غير عادتها، تعجبت أول الأمر، سرعان ما تذكرت أن اليوم يوم أحد، لا عمل
ولا دراسة .. تربطني علاقة غريبة بهذا اليوم، ففيه ولدت، إلا أن:
أحدي كان يوم حر
وهجير...
حين خرجت لتوي
أحمل بعض أشلائي، أحلامي
أمالي، وبقية ماء
وقطمير...
ربما لأنني ولدت يوم عطلة، ما
أزال لحد الآن عاطلا عن الحب، عاطلا عن العمل .. ولولا القراءة لكنت عاطلا عن
الحياة أيضا...
جلست قرب السائق، الذي تظهر على
محياه علامات التعب، لعل مقله لم تر النوم لحد الآن .. وما دخلي بكل هذا؟ المهم
أنني صرت مؤخرا أنام قرير العين، نظرت إلى الخلف، لأكتشف من يشاركني هذا الطاكسي
الهادئ الذي يسير على أنغام فيروز. شابان وفتاة، هذه الأخيرة لفتت انتباهي، شعرها
المدبس ووجهها الصبوح، والكتاب في حقيبتها، رأيتها وتذكرت كيميا[2]،
لا أعلم وجه الشبه بين الاثنتين، إلا أن زميلتي اللحظية، ذكرتني بشخصية خيالية
أحببتها دون سبب .. فضلت العودة إلى الواقع وتجنب السيناريوهات التي لا فائدة
منها..
نسيت جمال الفتاة لإحساسي
المفاجئ بخوف لذيذ، فهي المرة الأولى التي سأنشط فيها ورشة قرائية، ترى كيف ستسير
الأمور؟
طلبت من السائق أن يتوقف، دفعت
له أجرته، ونزلت مخلفا ورائي ابتسامة خفيفة علها تظل ذكرى في لا وعي الفتاة، وتكون
تمهيدا للقاء قادم..
مخيم الأميرة لالة مريم، جزء من
التاريخ الثقافي المغربي، يكبرني بأكثر من عقدين من الزمن .. ولجت قاعة المدير
التربوي:
-
صباح الخير أستاذ
-
صباح الخير
-
المهدي أيت بعراب،
عضو شبكة القراءة بالمغرب، لدينا ورشة للقراءة اليوم
-
مرحبا، الفضاء سيكون
جاهزا بعد دقائق
خلفت ابتسامة تحمل معاني الشكر،
وانصرفت لمكان مقابل للبحر ريثما تَجهَزُ القاعة..
الجو جميل هذا الصباح، وسيزداد
جمالا حين أوجد بين الأطفال بداعي تحريضهم على القراءة، وكم هم في حاجة إلى هذا
التحريض، والإصابة بهذا الداء الجميل جدا..
لم أخطط للطريقة التي يجب أن
تسير وفقها الورشة، تركت الأمر رهينا بشيء واحد: الحب، هذا الشعور النبيل الذي
يستطيع أن يجعل من الصخر فتاتا، ومن العسر يسرا .. ما إن يحبك الطفل حتى يشاركك
بكل جوارحه، وينصت لك بخشوع تام، ويثق بما تقول، ثقة عمياء .. وكلي يقين أنهم
سيحبونني، فأنا أملك مفتاحا يمكنني من ولوج قلوب الأطفال دون عناء..
-
القاعة جاهزة سي
المهدي..
-
شكرا أستاذ
فضاء جميل، وجو أجمل، شعار
الشبكة يزين المكان، والكتب تضفي عليه رونقا خاصا .. الأطفال يترقبون بصمت،
والابتسامة بادية على محياهم، ما إن رفعت الميكرو لألقي التحية، حتى فاجئوني بصوت
واحد:
-
شرّف الله يا من
شرفتمونا بالحضور...
بداية أفضل مما كنت أتوقع ..
أخبرتهم أنني سعيد جدا بوجودي
بينهم، وأنني هنا صديقهم وربان طائرتهم، التي ستحلق بهم إلى عوالم لم يسبق لهم
زيارتها، وأننا سنسافر بعيدا بعيدا، ممسكين ببعضنا البعض..
-
نعم أستاذ، القراءة
سفر ومتعة ..
أعجبني التعليق، ناديت على الطفل
الصغير ليلتحق بي، قبلته، ونوهت بتعليقه، وأخبرته أنني صديقه ولست أستاذا، فابتسمت
وابتسم الجميع:
-
ما اسمك؟
-
حسن بيشري
-
نجحت؟
-
اه، جبت ربعطاش
-
برافو، صفقوا على
حسن المجتهد
-
قل لي، كاتقرا الكتب
-
اه كانقراجوج قصص
فالسيمانة
-
جميل، طفل كايقرا
فالسابعة، مزيان اقرا بهاد الوتيرة، شكون لي كايشجعك على القراءة؟
اغرورقت مقل حسن فجأة، أحسست
أنه يستكنه سرا أكبر من سنه بكثير، أخبرته أننا هنا إخوة، ونريد الاستماع لقصته،
من يدري؟ قد نكون بإنصاتنا نخفف عليه من وطأة هذا السر الذي يبدو - من الدمعة التي
غطت جفن حسن – مؤلما للغاية..
وتركت حسن يحكي:
ماما قبل ما تموت كانت مريضة،
عندها السرطان فالراس أو مشا ليها الشوف .. كان عزيز عليها تقرا الكتب، أنا كنت
كنقرا فالسادس، واحد النهار قالت ليا: " حسن، خوتك أولدي كلهم خدامين، فاش
تسالي التمارين ديالك جي قرا ليا القصص، توحشت نسافر أولدي بخيالي، راه القراءة:
سفر ومتعة، غاتقرا ليا أو غاتستمتع حتى أنت." ماما فاش كانت بصحتها ماكنتش
نقدر نقوليها لا، مرضها زاد خلاني مانقولش لا، كنت ديما كيكون عندي نص نهار،
كانقرا ليها، قريت ليها بزافديال القصص، كانت كاتفرح فاش نسالي شي قصة أو كتبوسني
.. زدت تعلقت بالقراءة وليت كانستمتع بيها كثر من الميخيات .. واحد النهار كان
بابا كايتفرج أو أنا كنقرا على ماما واحد القصة ديال الأميرة والغول، ساليتها
وماما ماباستنيش أو مابتاسماتش، قلت راه نعسات، بغيت نفيقها باش اعطيها بابا
الدوا، ما بغاتش تفيق، مشيت قلت لبابا راه مامانعسات أو مابغاتش تفيق، جا عندها
بابا، مس قلبها أو عنقها، أو قال: لا إله إلا الله وبدا كايبكي .. تماك عرفت بلي
ماما سافرات لديك البلاصة لي ديما كاتقول ليا راه قريب تمشي ليها، أو ما غاترجعش،
ولكن إلى بقيت كانقراغاتكون هي فرحانة تماك"
توقف حسن عن الحكي، وهو يستوكف
دموعه، قبلته وربت على كتفيه، وشجعته على مواصلة القراءة، ليفرح روح أمه ..
ساعدني بعض المؤطرين في عملية
توزيع الكتب على الأطفال، انكب كل طفل على قصته، فحكاية حسن كانت حافزا لهم على
القراءة، السعادة تظهر على ملامح الجميع، حتى حسن الذي كانت دموعه تسح قبل قليل،
ها هو الآن غارق مع شخصيات خيالية ويبتسم مع وقائع قد تكون طريفة !!
انتهت الورشة بسلام، وجهي احمّر
لكثرة القبل التي تلقاها، قبلني كل من في الورشة، باستثناء المؤطرين طبعا !!وعدتهم بورشة قادمة، ووعدوني بأن يداوموا القراءة، توقفت
أمام باب المخيم .. فطنت أن الجو حار جدا اليوم ..
سيارة الأجرة تقلني وحدي .. الطريق مضت دون أن أشعر بها
.. فقصة حسن لم تفارقني .. راودني إحساس عارم بالشفقة لحظتها .. لكن الأم أورثت ابنها عادة ستنير عتمة حياته ..
البيضاء 2016/08/29