ستستيقظ من شهد نومك العميق، متلذذا بهدهدة أحلامك
الغارقة في أريج الورد والياسمين وعبير الزهر والأقحوان ومسك الجوري. لا ترغب في الاستيقاظ،
لكي لا
تغادر حروفَ بوحك الصداح بنبض دافئ يغري القلوب العطشى، ويراود الأنفاس على
صهوات الحب وترانيم العشق... ستستيقظ هذه المرة، لكن لن تجدني بجانبكـ أغمرك بحدائق
عناقي، وعناقيد قبُلي الصباحية تستفتح بها يومك في نور وإشراق، ولا في المطبخ انسّقُ
لك الزهور التي تحب والفطور الذي تشتهي، أو أطربك بمقاطع لفيروز وعبد الحليم... لأنني
الآن بعيدة عنك، في مكان تجهله، أرشف قهوة موغلة في السواد مشبعة بالمرارة، لعلها تقوي
تركيزي وتزيد في يقظتي، إلى عهد قريب كانت غائبة، غيّبها نبضي يشرب من صبيب راحك المعتقة،
لم أصح منها منذ رشفات أول قدح من يدك، لكن بعد كل سكر صحو، وبعد كل حلم يقظة، وبعدك
أنا...
لا أسأل عنك فلم تعد تعنيني، ولم تعد مملكتك إقامتي،
لكن أسألك عن أحوال جنانك وحدائقك الغناء، كيف حال صديقتك آسِرتك الشاعرة ذات العينين
النجلاوين والشفتين القرمزيتين المتوهجتين، والشعر الليلي يتدفق شلالا على كتفيها،
هل لا يزال يسكرك همس قصائدها وأنامل أنفاسها تداعب وجهك وأعلى صدرك، وبريق عينيها
ثملا يراقص نظراتك... أين توجهتما بعد أن غادرتما المقهى على الشاطئ ويدها تضم يدك
تسقيها نبضها، تحت بهاء ليل مرصع بالبدر والنجم وعطر اللحظة المثال، لحظة أنخاب الشعر
وشهوة الجسد وخفق النبض وإيقاع انسكاب الموج؟ ألم تذكر هذا؟ ربما هو المقهى نفسه الذي يشهد على لقاءاتنا وجوارحي
تغني لك أغاني عبد الحليم حافظ الذي تحب؟ أين توجهتما بالضبط، لم تذكر هذا ولم تلمّح
إليه. أكيد أنك استمتعت أكثر بعد هذه الجلسة الرومانسية، وبلغتْ لذتك ذروتها القصوى
وأنت تردد لها مرتعشا أحبـ بـ ك، أحبـ بـ ك... زيـ يـدينـ ي عشـ
شـ قا، زيـ يـدينـ ي...
أسألك أيضا عن جذوتك التي لم تحدثني عنها، ولم تبح
لي يوما بنارها التي تستعر بداخلك، هل هي جذوة واحدة أم جذوات تلتهمك فتستحيلك رمادا
ساخنا تَذره على عينين لا تبصران غيرك، فأين أنا من نبضها يسكن سمعك، وروحها تسكن روحك،
فيزيد هذا من توحدكما ويرقي أكثر سموّ وجدكما وإشراق هواكما؟ يستوقفك الشوق ويفجرك
حنينا أبديا يعزف في صدرك سمفونية جرح الهجر والفراق، فيبدأ هذيانك ينطق دون أن أسمعه:
أي أنثى أنت، أي نبض أنت، أي فيض أنت، حبك لا يُكتب، لا يقرأ، لا يحكى، حبك أسطورة..!
ألم تكتب هذا؟ لا صح لسانك ولا سلمت يمناك... من الأكيد أن خطوك إليها لم يتعثر- يبدو
أنك تحسن الخطو بثبات- فتذكّرها بالمراجع التي وعدتها بها فلم تحضرها لأن الموعد كان
بداية غرامية أفقدتك روحك، وأرسلتك إلي بدون روح تعبث بي كريشة تتقاذفها ألاعيبك الخبيثة،
قد تكون جذوتك قطعة من جذوتها، فيلتهب حنينها وتحضر إليك مهرولة، وفي المقهى نفسه تقرأ
لك جزءا من بحث الإجازة الذي تحدثتما في شأنه أيام الدراسة بالكلية، ثم تغادران ويدك
تتحسس يدها، وبعدها تبلغ لذتك القصوى وأنت تردد لها مرتعشا أحبـ بـ ك، أحبـ بـ ك...
زيـ يـدينـ ي عشـ شـ قا، زيـ يـدينـ ي... وقد أكون يومها على جمر الانتظار أنتظرك لترتمي
في داخلي موج عناق، وزخات قبل وشهد رضاب لا ينتهي إلا وأنت تردد في غيبوبة ارتعاشك
أحبـ بـ ك، أحبـ بـ ك... زيـ يـدينـ ي عشـ شـ قا، زيـ يـدينـ ي... هل هي بخير؟
سأغمرك هجرا وأزيدك بعدا وأسقيك من عودي جدبا، ومن رضابي صحراءَ جفاء أيها الممثل
البارع في الخيانة على ركح صفائي وإخلاصي...
أأذكر شخصياتك الأنثوية الأخرى أم أكتفي بغيض من
فيض، أأذكر لك جليلة وأنت تحادثها عبر الخاص في عرس سمرك الليلي الصاخب بالوشوشات والهجسات
والهمسات، تقول لك إنها اشتاقت إليك، تريدك بقربها ترتمي في أحضانك تخنقها - أشفق عليها
المسكينة - وسيكون لموتها بين أنفاسك الحياة... وتجيبها برقة أرق من تلك التي رشفتُها
من كلماتك: أنا أيضا اشتقت إليك، أنهارك تسقي ظمئي، تروي جدبي، تسري في شرايين نبضي
ربيعا أخضر... هكذا تجيبها يا ظلمة دكناء في حياتي، ألم تكتب هذا؟ وهل أكذب عليك والحجة
يقرأها الجميع..؟ أم أذكر لك الموظفة صاحبة المعطف الأحمر والحقيبة السوداء... أم...
أم... تبدو في عالمك شحرورا عاشقا صداحا خارج حدائقي بعيدا عن زرقة سمائي يا من كنت
حبيبي...
لا تحدثني عن ركوبك ضمير المتكلم، ولا عن صهوة الخيال
في الإبداع... حرفك فيه أنت الذي كنت أعرف بكل التفاصيل... لم أجدني من بين شخصياتك
التي فضحتك أمامي، إلا شخصية من لحم ودم خارج السياق غافلة غبية بلهاء... كان عليك
أن تكتب على الغلاف "سيرتي الذاتية"، لقد نسيتَ ذلك... اتركني الآن أرشف
قهوة موغلة في السواد مشبعة بالمرارة، لم تعد تعنيني يا من كنت حبيبي...
وداعا.