فلسفة الوجود واللاوجود في تاريخ الأرض المقدسة في رواية"ماميلا" لميرفت جمعة
بقلم: سماح خليفة/ فلسطين
تُهت بين حروفك المعمدة بمياه الموت ومعبقة برائحة
الحياة النابضة.
ماميلا تُجسّد قصة الفلسطيني العالق في أرضه بهيئة
غريبة عن ذاته، فُرضت عليه قسرا. ماميلا ببدايتها إلى نهايتها مسلسل درامي(آكشن) يصلح
لأن يحمل عنوان"الذاكرة الفلسطينية التي أبادتها همجية الاستيطان تحت جنح الليل".
يلتقي فيه المشهد الذي يُجسد الحبكة، أو العتبة الأولى للعقدة في ماميلا، والذي دارت
أحداثه بين عابد حارس الموتى، وبين كنان الفلسطيني الراحل، والذي تتمثل رحلته من ضفة
الحياة إلى ضفة الموت، على جسر تعلقت عليه حقب التاريخ المتعاقبة (ص100) "باختصار
أنا أعيش في عالم قلق كأنه جسر مخلخل الأساسات مقام بين جبلين وكلما حاولت أن أمشي
فوق هذا الجسر المهتز أخيفه ويخيفني"، ليتكرر هذا المشهد مرة أخرى في القسم الرابع
نهاية الرواية (ص187) بين كنان وعياش ولكن مع تبادل للأدوار.
تبدأ الكاتبة روايتها بأحداث عقلانية تداعب جسد
الأرض بأحاديث واقعية، تتمثل في حديقة ماميلا، حيث الاحتفال بمناسبتي عيد الفصح اليهودي
وحفل افتتاح متحف"التسامح والكرامة الإنسانية"، وتجمّع اليهود من مختلف الجنسيات
لينفثوا سمومهم في هذه الأرض الطاهرة (ص7،8) وخاصة أن مراسيمهم هذه تقام فوق أرض ماميلا
(المقبرة التي أنشئت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب) في محاولة منهم لطمس ملامحها، وبالتالي
طمس ما احتضنته في أحشائها من تاريخ يثبت وجود العربي المسلم على مر العصور. ولا تلبث
الكاتبة أن تحملنا على جناح الحقيقة الموشحة بالخيال، العالق بين السماء والأرض، وبين
الماضي والحاضر والمستقبل، وبين التاريخ الرصين والوقائع المزيفة (ص7-ص37)، نعم مزيفة
تلك التي ينسجها ناحوم ثم يسردها تاريخا مزيفا عندما يعتلي المنصة، فيقفز محاولا السباحة بمهارة وجدانية في محيط مبهّر
بحقائق مزيفة؛ ليجد نفسه عالقا على شاطئ حجري، حتى الحجارة تنكره رغم تصفيقها له (ص18-16)
وبشكل متوازن لهذه الأحداث تُقحم الكاتبة أحداثا
أخرى، تتمثل في العلاقة المثلية لممارسة الجنس المتمثلة بين رافي وجلعاد اليهوديين،
في غرفة قابعة في حديقة ماميلا ليست بالبعيدة
عن المنصة التي يُدوّي من عليها ناحوم (ص29) في رغبة من الكاتبة لعكس صورة الانحلال
الأخلاقي الذي يطغى على واقع ماميلا حاليا.
ما لا أفهمه هو إشغال الكاتبة قلمها في وصف العلاقة
المثلية وصفا دقيقا محترفا، كما فعل غيرها من الكتّاب أمثال الجبعيتي؛ ربما تُعتبر
من قبل البعض جرأة ولكن تكرار مثل هذه الظاهرة لدى الكتاب في سلوك هذا المنحى يجعلني
أعتبرها وسيلة للشهرة لا للجرأة لدى جميع السالكين دون استثناء.
فالجزء الأول من الرواية كان عبارة عن مشاهد متوازية
لكل من جلعاد ورافيل يمارسان الجنس المثلي في أماكن مختلفة؛ الحديقة، الغرفة، البركة،
وعلى خط متوازٍ مشهد لناحوم الذي يعتلي المنصة ويسرد تاريخا مزيفا، يُحاول إقناع الحضور
الذي يصفق ويشجع كما يتوجّب عليه لا عن قناعة وإنما عن واجب وطني. ينتهي مشهد ناحوم
عندما يدسّ موشيه -ذلك الظل البشري لناحوم- ورقة في جيبه تأمره بالتوقف لخطورة الوضع،
دون توضيح من قبل الكاتبة للسبب ربما لزرع عنصر التشويق في نفس القارئ. وأما جلعاد
ورافيل فينتهي المشهد الذي يحتضنهما عندما يسمعا وقع أقدام تكاد تكون مقبلة على الغرفة،
ومن قلب تلك اللحظة يقرر جلعاد أن يخبر رافي الحقيقة؟؟ دون أن يفعل، وذلك أيضا كما
أظن لرغبة الكاتبة في زرع عنصر التشويق في نفس القارئ لاستكمال قراءة الرواية. فلا
تفصح عن تلك الحقيقة إلا في الجزء الأخير من الرواية عندما يعترف أنه قتل العرفيم
"العربي" العتال الذي كان ينقل تلك الأكياس من ماميلا (ص171) "لقد قتلت
شخصا" "لا تقلق إنه من العرفيم".
الحدث الغامض والمهم كان في الجزء الأول، وهو ذلك
العتال الذي كان ينقل أكياسا لا يعرف محتواها من مقبرة ماميلا ويأخذ أجره مقابل ذلك،
وظل هذا الغموض يخيم على الحدث إلى أن فكت الكاتبة شيفرته في الجزء الرابع؛ بأنّ هذا
الكيس يحتوي على عظام وجماجم الموتى المسلمين التي قد كانت تُهرّب بسرية (ص172)، في
محاولة من اليهود والمستوطنين إخفاء كل أثر يوثق وجود العربي المسلم، وكذلك فهي توضح
الحقد والكره الذي يملأ قلب اليهودي تجاه العربي (ص173) "لقد شعرت برغبة نهمة
لقتله" " كما وتوضح عقلية اليهودي تجاه العربي، وشهوته المتأججة دائما لقتل
الفلسطيني (ص173) "بيديّ هاتين رافي بيديّ ضربته بحجر على رأسه" "لكنني طوقت عنقه بهذه الأصابع، كانت أظافري
تخترق جلده..."، وأما ردة فعل الصهاينة مع أبنائهم الذين يقومون بهكذا أعمال إجرامية؛
يشجعونهم ويعتبرونهم أبطال ويكافئونهم (ص173) "لقد قمت بعمل بطولي، عليك أن تفخر
بنفسك...تلتهمنا"
وبالعودة إلى الكيس الذي كان يحمله العتال، والذي
كان يحتوي عظام الأجداد الموتى؛ فقد كانت تصطك وهي تحتك بظهره وكأنها تصرخ معترضة
(ص178)، وأما هذا العتال الذي كان يقوم بخطئه الفادح فقد كان عليه أن يتوب لأنه ضيّع
تاريخ أجداده العظام وضيع فلسطين، وما كانت محاولته النظر لاستكشاف ما بداخل الكيس
إلا طمعا في مال آخر وليس اعتراضا على عمله المحرم الخائن؛ فكان مصيره الموت على أيدي
الصهاينة الذين يعمل لحسابهم. فلا خلاص لمن يغرق في قذارة الخيانة إلا الموت.
وأما قدرة اليهودي في تشويه الحقائق وقلب رواية
حدث الجريمة فهي رهيبة؛ حيث يُظهر الظالم(اليهودي القاتل) بهيئة المظلوم(الفلسطيني
المقتول) فيصبح القاتل هو صاحب الحق والمقتول هو المذنب. وتستمر الحكاية المؤلمة التي
تبني نسيج المجتمع الفلسطيني مع هؤلاء الدخلاء الصهاينة إلى أن يشاء الله (ص186)
"كان ناحوم في تلك الأثناء يفكر بطريقة يلصق فيها تهمة تخريب وسرقة وتعدي على
ممتلكات الغير لصاحب الجثة، وقد يرفعون قضية على العتال حتى بعد موته...والعبد الفقير
سيحاسبهم إلى يوم البعث!"
الجزء الثاني من الرواية (ص39-43)، عابد وكنان في
ماميلا، يدور بينهما حوار حول فلسفة الزمان والإنسان والموت والحياة في هذا الكون؛
مَن مِن هؤلاء سيلتهم الآخر وكيف؟
بعد لقاء كثيف بالنقاش بين عابد وكنان ينتهي بكنان
في بيت العمة بهية الذي أصابه حالة من الضياع والحيرة لحال تلك العجوز والأجواء التي
تعيشها والتي كان سببها كما ظهر (ص68) دخول الأغراب إلى البيت الفلسطيني، يلوثونه كالفئران
وهم اليهود الذين عاثوا في بيوت القدس خاصة وفلسطين عامة فسادا "لم تكن تتخيل
يا فرج، ولا بذهن شخص معتوه، أنها ستجد في لحظة أغرابا بصدر البيت، يدخلون كالفئران،
ويلوثون المكان بأنفاسهم، أصابها الأمر بالجنون التام".
إلا أن بهية رغم معاناتها من هؤلاء الدخلاء المخربين
لازالت صامدة تُحب مكانها ويحبها وتقتات من هذا الحب، ربما هي بركة ماميلا... بركة
فلسطين (ص69)
كما أن كنان الذي كان يُحاول الخروج من ماميلا لأنه
متعب ومستنزف، لن يخرج كما قال قنديل، فالفلسطيني مربوط بأرضه برباط إلهي مقدس (ص72)،
فَكِنان التائه الذي بدأ يفقد ذاته على أرض ماميلا هو الفلسطيني الذي بدأت تتلاشى هويته
وتاريخه شيئا فشيئا (ص73) "أية حياة بربك، أكاد أجن هنا، هل أنا حي حقا، أجبني
أو اتركني ألقي بنفسي في هذه المياه الآن وإلى الأبد!"، "ساعدني لأخرج بدأت
أفقد ذاتي". الفلسطيني بدأ يفقد ذاته وهويته، بدأ يفضل الموت الانتحار بسبب حالة
عدم الاستقرار التي يعيشها (ص73) "وُجدْت في أطهر بقعة في الدنيا لتعتذر عن خطئك!
اعتبرها رحلة روحية يا أخي تماهى مع الأشياء" والسؤال المهم هنا يطرح نفسه: بماذا
أخطأ الفلسطينيون؟! خانوا الأمانة وسلموها لعدوهم الغاصب... لليهود.
يتساءل كنان الفلسطيني (ص74)عن أجداده وتاريخه الذي
دُنّس بفعل فاعل "لا أذكر أحدا سوى جدي، ولكن من يكون أبي؟ أين أمي؟ ....ولكن
ما الخطأ الذي ارتكبته، اخترعت قنبلة كيماوية، لن أعرف، وكأنني بحاجة لمن يقطع حبل
التذكر الهش". سيتبين فيما بعد أن بهية هي والدته الميتة التي سيلحق بها بعد أن
يتحقق موته.
توضح الكاتبة كيف أن الفلسطيني يواجه مشكلة في الاعتراف
بماضيه وحضارته وتاريخه، عندما تقول أن المسافر للغد يمنع عليه أن يحمل حمولة من الماضي
فهي تثقله ولا يستطيع أن يتعايش مع المستقبل حتى يترك الماضي بل يترك التاريخ خلفه،
فهو غير مرحب به في الحاضر الذي سيسافر به إلى مستقبل جديد مجهول الملامح (ص84). تتوغل
الكاتبة (ص90) في فلسفة الموت وأشكاله. وأما كنان فهو الشعب الفلسطيني الحي الميت لأنه
فقد كرامته بسبب عمله لصالح العدو بصوره المتعددة بين الفرنجة (ص9) وبين اليهود الذين
هم امتداد لهم عبر التاريخ. فهو لم ينعم بالسكينة والطمأنينة والحياة الكريمة؛ لأنه
لا يمتلك حياته ووجوده ولا مصيره، فهو وغيره أصبحوا عبارة عن دمى متحركة لأصابع غريبة
تتسلى بموتهم وهم مراقبون من قبل الاحتلال الذي لديه تقنيات تمكنهم من تحديد موقع كل
فلسطيني أينما وجد (ص100)
وفي ذات الوقت الذي يمثل فيه كنان صورة الفلسطيني
الذي أخطأ في حق وطنه وأجداده، فإن شهاب يمثل صورة الفلسطيني المقاوم الصامد (ص102)
"فلسطيني ما دمت ترى في وجهي ندوب كل هؤلاء"، وهذا الجيل المقاوم المخلص
يدعو للتفاؤل بأن القدس وبالتالي فلسطين ستتحرر (ص104) "التمني وحده لا يكفي يا
كنان"
وتعود الكاتبة وضمن فلسفتها الوجودية واللاوجودية
للإشارة إلى انفصال الزمان والمكان عن بعضهما؛ فالمكان فقد الزمان، القدس فقدت الزمن
الجميل الذي كانت فيه عزيزة قوية. وكذلك الزمان فقد المكان؛ فأيام الزمن الجميل وأيام
الفتوحات الذي ركزت عليه الكاتبة زمن صلاح الدين وعمر الفاروق (ص183)لم تعد موجودة
على أرض القدس أو فلسطين بل دُفن بفعل فاعل، والمكان(القدس بأصحابه) بدّل ملامحه مضطرا
وتوارى خوفا من همجية اللص المحتل الذي لا يرحم، ولكنه بذلك يكون سمح له ضمنيا أن يعبث
بملامح المكان ليخلق بينهما قرابة (ص105)
تتطرق الكاتبة في القسم الثالث إلى الأقوام الذين
كان لوجودهم نصيب على أرض القدس، وأكثرهم فسادا؛ من الفرنجة الذين ساقوا لنا الخراب
والسريان والأرمن واليىونانيين واليعاقبة وانتهاءً بالأكراد واليهود الأعداء، فهم متشابهون
في طريقة البطش وكمية القهر التي يبثونها، وكذلك فقد مرّت الكاتبة على رسم ملامح القدس
وشوارعها وأسواقها وتراثها (ص117-118) عبر
هذه الأقوام للوصول إلى المسجد الأقصى (ص119)
تشير الكاتبة (ص131)إلى من قبلوا لأنفسهم بيع تاريخ
بلدهم فلسطين للأعداء، حتى يغلفوا هذا التاريخ بغلاف كاذب، وكأنهم وهم يفعلون ذلك كانوا
في حالة إغماء فاقدي الوعي، حتى استيقظوا فجأة ليتنبهوا إلى خيباتهم التي مكنتهم من
فقد إحساسهم وبيع وطنهم (ص132)
الحرب التي دارت بين كنان (الحاضر الفلسطيني المشرذم)
(ص142) والفارس الإفرنجي المقنع(يرمز أيضا إلى اليهودي) أفضت إلى موت شهاب (الماضي
الذي يجسد انتصاراتنا وعزتنا وكرامتنا بما في ذلك نقطة التحول التي صنعها صلاح الدين)الذي
حاول أن يجعل الحرب نزيهة فبموت شهاب مات التاريخ والعزة والكرامة، ودخلنا في حاضر
كنان الذي أرغمه الصهيوني على دخول بوتقة الخيانة، تنتهي الحرب بانتصار كنان وانتصار
كنان الفعلي يكون عند الصحوة والرجوع عن خيانة الوطن ببيع الشواهد التي تدل على تاريخه،
ولكن كنان في نهاية الرواية مات أو استشهد وهذا هو المصير المحتوم لكل فلسطيني مقاوم.
وفيما بعد (ص146) توضح الكاتبة صورة المرأة الفلسطينية
التي لا يمكن أن تنكسر وصمودها، وكيف تستقبل ابنها الشهيد بالزغاريد والحلوى فهو يُزف
إلى الجنة. "أخبرت أمه بنبأ استشهاده فردت بالزغاريد"
وعدم اختيار جزء من الفلسطينيين لخيار المقاومة
كان سبب تلك الخيبات التي عاشوها وأصبحت تلاحقهم كوصمة عار حاضرا ومستقبلا، وما سبب
ذلك إلا تقصير الفلسطيني في واجبه تجاه وطنه؛ فأصبح ضائع تائه مشرّد في وطنه يعيش في
معمعة بين الحياة والموت وكل ذلك بسبب ما اقترفته يداه (ص166) "لكنني الآن أعرف
خطئي يا عابد، لأول مرة أعرف أن هناك فرقا شاسعا بين فرح الفارس وفرح اللاهي، عرفت
للتو الفرق المهم بين حياة الإنسان وحياة الخنزير..."
رحلة كنان (الشعب الفلسطيني سلبا أو إيجابا) في
الولوج من عالم الأحياء إلى عالم الأموات وسط
شخوص القصة الأموات الأشباح في قلب ماميلا (فلسطين) ما هو إلا رسم صورة حقيقية
لواقع ماميلا حاليا من تعصب ديني وعرقي وانحلال أخلاقي، ورصد للماضي البعيد الذي تعرضت
له بلادنا من تعصب وبطش أوروبي ومازال أمامنا اليوم.
الرواية في 191 صفحة صادرة عن دار الرعاة للدراسات
والنشر.