مأساة الكتّاب الروس جــودت هوشيار
الشعب القاريء :
رحيل أي كاتب أوشاعر معروف على المستوى القومي يعد
خسارة عظمى عند الروس ، لأنهم يعتبرون الكاتب أو الشاعر معلماً للشعب. لذا فأن السلطة
السياسية كانت وما تزال تتوجس من الكتاب كثيراً
وتراقب أعمالهم .
الحالات التي نوردها ، في الفقرات اللاحقة عن مصائر
عدد من ألمع الكتّاب والشعراء الروس المعروفين لدى القاريء ، تعد غيضاً من فيض ، ولكنها تكفي للأبانة عن حال الأدب
والأدباء في روسيا في الماضي القريب .
الموت واحد وان تنوعت اشكاله :
جرت العادة في روسيا عبر التاريخ أن يكون الشعراء
من المعذبين في الأرض لأن الشاعر في روسيا هو أكثر من مجرد شاعر. لذا نتحدث أولاً عن
تلك الفواجع ، التي ألمّت بالشعراء الكبار.
الكساندر بوشكين ، أعظم شاعر روسي ، على مر العصور
، تم نفيه مرتين ، واصيب بجروح بليغة خلال مبارزة غامضة مع البارون جورج دي غيكّرن
في 27 يناير 1837 ، وتوفي بعد ذلك ببضعة أيام .
ميخائيل ليرمنتوف ، احد أهم الشعراء الروس بعد بوشكين. له العديد من الروائع
الأدبية نثراً وشعرا . كتب وهو متأثر بمصرع بوشكين قصيدة احتجاجية رائعة بعنوان
" مصرع شاعر " ، هزت روسيا من أقصاها الى أقصاها . وحفظها ورددها المعاصرون
مما أثار غضب السلطات التي قررت اعتقاله ونفيه إلى منطقة القوقاز . كانت حياته قصيرة
خاطفة كالشهاب ، حيث قتل خلال مبارزة مع نيكولاي مارتينيف في 27 أيلول 1841 ، عن عمر
بلغ 27 عاماً. ويعتقد على نطاق واسع أن ليرمنتوف قتل برصاصة أخرى غير رصاصة مارتينيف
. وعندما سمع القيصر نيكولاي الأول بمصرع الشاعر، قال شامتاً : " الكلب لا يستحق سوى ميتة الكلاب " . وثمة شكوك بأن
بوشكين وليرمنتوف قتلا بأمر القيصر تحت ستار المبارزة .
اما فيودور دوستويفسكي فقد حكم عليه بالإعدام لنشاطه
الثوري ضد النظام القيصري ، ثم تم تخفيف الحكم في آخر لحظة الى السجن مع الأشغال الشاقة
لمدة عشر سنوات ، تلك السنوات التي راحت هدراً ،من دون كتابة . ولا يزال سر موته المبكر
لغزا.ً
بعد ثورة اكتوبر 1917 هاجر عدد كبير من خيرة المثقفين
الروس من علماء ومفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين الى خارج البلاد . ومارس النظام
الستاليني ضد من بقي منهم في البلاد شتى صنوف
الترهيب والترغيب والترويض والإغراء .
مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام
1920 بعد ان رفضت البلاشفة السماح له بالسفر
الى الخارج لتلقي العلاج
.
الشاعر سيرغي يسينين شنق نفسه في فندق ( انكليتير)
في لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا) يوم 31 كانون اول 1925 وهو في الثلاثين من العمر .
ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع التكهنات بضلوع ستالين في قتله ، وهو الشاعر الأكثر شعبية
والقريب الى قلوب الروس ، الذين يحفظون شعره العاطفي المؤثر . و قد ترك في الغرفة التي
شنق نفسه فيها قصيدة مكتوبة بالدم ، لأنه لم يجد حبراً فجرح معصمه وكتب قصيدته ، التي
يقول فيها: " ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت / وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش
" . وكان لرحيله ،وهو في ذروة إبداعه الشعري أصداء هائلة في روسيا ، فقد وصفه
بوريس باسترناك قائلاً : " لم تلد الأرض
الروسية مَن هو أكثر محلية ، وأكثر عفوية ، مَن هو أكثر وطنية و أفضل توقيتاً ، مما
هو سيرغي يسينين . وقال مكسيم غوركي :إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن خلق
من اجل الشعر حصرا. إما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه: إن يسينين لم ينظم أشعاره بل لفظها
من أعماقه.
وعقب انتحاره انتشرت بين الشباب الروسي موجة من حوادث الإنتحار ، فشنت
السلطة حملة ضد ما سمي باليسينينية (بالروسية - يسينينشينا ). وما يزال انتحار الشاعر
أو مصرعه الغامض مثار جدل بين الباحثين والمثقفين الروس .
كتب الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي قصيدة اثر انتحار
يسينين يقول فيها : " في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت / أن تصوغ الحياة أصعب
بما لا يقاس ". ماياكوفسكي اطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهداة اليه من مخابرات
الكرملين . ويقول المنظر الأدبي الروسي البارز فيكتور شكلوفسكي : " ان ذنب الشاعر
ليس في انه اطلق الرصاص على نفسه ، بل أنه اطلقها في وقت غير مناسب " .
مكسيم غوركي
مات في ظروف غامضة بعد رفض السلطة السماح له بالسفر الى الخارج لغرض المعالجة
. ويقال انه جرى تسميمه ، وان ستالين شخصياً كان ضالعا في قتله، لأن الكاتب الثوري
الكبير كان مستاءاً مما يرى حوله من بؤس وظلم .
الشاعرة العظيمة مارينا تسفيتايفا ، انتحرت في
31 اغسطس 1941. ولم يسترعي هذا الأنتحار الأهتمام
، لأنه حدث في بداية الحرب الدموية بين الأتحاد
السوفييتي والمانيا الهتلرية .. وكانت قصائدها ممنوعة من النشر حتى اواسط الخمسينات
، وهي تحتل اليوم مكانة بارزة في الأدب الروسي وتحظى بمقروئية عالية ، خاصة بين النخب
المثقفة .شعرها مشبع بالعواطف الجياشة حتى الثمالة ، وكم رأيت من شاعرات روسيات يقرأن
شعرها وهن يذرفن الدموع
.
- الشاعر اوسيب مندلشتام
اعتقل بسبب قصيدة كتبها تحت عنوان " متسلق جبال في الكرملين " وتوفي
في السجن. والشاعر كلوييفمات تحت التعذيب ، اما الكاتبان المعروفان بيلنياك واسحاق
بابل فقد حكم عليهما بالأعدام ونفذ فيهما الحكم سريعاً
عندما نقرأ عن هذه المصائر التراحيدية نتذكر قول
فولتير : " اذا كان لي ابن، لديه ميل إلى الأدب، فان العطف الأبوي يدفعني الى
ان الوي عنقه
"
كان ستالين يقرأ أهم الأعمال الأدبية المنشورة ،
ويشاهد المسرحيات، التي تحظى بإقبال جماهيري . وقد شاهد مسرحية " أيام توربين "من تأليف الروائي البارز
ميخائيل بولغاكوف عدة مرات ، حين عرض على المسرح
الفني في موسكو ، ثم أصدر حكمه القاطع : " هذه المسرحية سُخرية من النظام وبولغاكوف
ليس مِنا ". مات بولغاكوف بعد تعاطي جرعة كبيرة من المورفين .
عندما قرأ كتب ستالين في عام 1931 مسرحية ( في المخزن
) للكاتب أوليغ بلاتونوف في احدى المجلات الأدبية قال : " كاتب موهوب ولكنه وغد
" وارسل الى ادارة المجلة رسالة وصف فيها
المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا ، كتبت من اجل تشويه الحركة الكولخوزية "
في عام 1934 أنشأ ستالين ( اتحاد الكتاب السوفيت
) بعد حل كل الأتحادات والجمعيات الأدبية الأخرى.
وفرض الإتحاد الجديد على جميع أعضاءه الألتزام بما يسمى (الواقعية الإشتراكية
) وهو مصطلح عجيب - هل ثمة واقعية رأسمالية
أو مسيحية ، لتكون هناك واقعية إشتراكية ؟ . وكانت حصيلة هذه السياسة البلهاء هي قتل
(182 ) عضواً - أي ثلث اعضاء المؤتمر التأسيسي للأتحاد - في السجون والمعتقلات خلال
السنوات القليلة التي أعقبت المؤتمر .
كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس إتحاد الكتّاب، و كان
مؤمنا بالأشتراكية ،وشديد الأخلاص للحزب ولستالين شخصيا ، ويؤمن بأن كل ما يفعله ستالين
هو لخدمة المستقبل الإشتراكي للبلاد . وبعد المؤتمر العشرين للحزب في عام 1956 ، حين
اتضح له الحقائق المروعة عن جرائم ستالين ،
لم يتحمل الضغط النفسي الشديد. وبات
دائم القلق ، معذب الضمير . و يتمنى أن يموت اليوم قبل الغد ، فأطلق الرصاص على نفسه
ليرتاح كما جاء في الرسالة الموجهة الى اللجنة المركزية للحزب، والتي كتبها قبيل إنتحاره .
الكتاب والشعراء الروس في فترة " ذوبان الجليد " :
قضية الشاعر بوريس باسترناك ، الحائز على جائزة
نوبل لللآداب في عام 1958 عن روايته " دكتور زيفاكو " ما زالت طرية في أذهان جيلنا . حيث تعرض الى حملة
تشهيرية واسعة ، أصبح بعدها انسانا محطما ، وسرعان ما اصيب بسرطان الرئة الذي لم يمهله
طويلاً ، وتوفي في عام 1960 .
اما الشاعر جوزيف برودسكي فقد اعتقل بتهمة نشر اعماله
في الخارج ، وتم احتجازه في مستشفى للأمراض
العقلية .ثم حكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات . وفي 12 أيار 1972
طردته السلطات الى خارج البلاد بعد نزع الجنسية السوفيتية عنه . وهو شاعر موهوب نال
جائزة نوبل لللآداب لعام 1987 ، وكان عمره آنذاك 47 عاماً أي اصغر أديب حاصل على هذه
الجائزة الرفيعة
.
في عام 1968
حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايتيه
"الدائرة الأولى" و " جناح السرطان " في الخارج ، وصفته وسائل الإعلام السوفيتية ب( الخائن ) .
وعلى اثر حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام 1870 ، فصل من اتحاد الكتاب السوفييت،
وفي عام 1974 نزعت عن الجنسية السوفيتية وطرد
الى خارج البلاد
.
قال سولجينيتسن خلال لقائه بأحد الكتاب الروس الرسميين:
" انتم تعاتبونني لأن كتاباتي تنشر في المجلات السرية ، ويجري استنساخها . والناس
يقرأونها باهتمام ، وتنتقل من عائلة الى أخرى ،ولكن من منكم يستطيع ان يتفاخر ان كتبه
التي تطبع على حساب الدولة بآلاف النسخ ، تقرأ من قبل الجمهور وتنتقل من عائلة الى
أخرى ؟ لا أحد . هل تعرف لماذا ؟. أنا أقول لك : لأنكم تكتبون حسب الإيعازات من فوق
، ولكن الكاتب الحقيقي لا يكتب بإيعاز من أحد ، بل بإيعاز من روحه وعقله ، وضميره ".
وأخيراً أين هم الآن الكتاب السوفييت من مدرسة الواقعية
الإشتراكية؟ لا أحد يتذكرهم ، ولا أحد يقرأ لهم في روسيا اليوم .