كتاب "القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب"، أول كتاب مطبوع لي. لكن هل لي أن أقول إن لي كتابين لم ينشرا وقد ألفا قبل هذا الكتاب؟
أما أولهما فهو بحثي لنيل شهادة الإجازة، تحت إشراف الشاعر المرحوم محمد الخمار الكَنوني"، وقد أنجزته سنة 1979، تحت عنوان: " مقدمة للشعر المغربي في الستينيات". فكرت في هذا الموضوع منذ التحاقي بالكلية، لأني كنت أعالج الشعر، وكنت مهتما بمتابعة كل ما يكتبه الشعراء المغاربة، ومواكبا جيدا للشعر العربي المعاصر ونقده. ولقد تبين لي، غياب دراسات حول الشعر المغربي المعاصر، وغياب دراسات جادة حول الشعر العربي، قديمه وحديثه، فنذرت نفسي للاضطلاع بهذه المهمة النقدية، وكان تفكيري في بحث الإجازة كتابا نقديا، لا للحصول على شهادة.
كان الشاعر محمد بنيس يشتغل، وقتها، على الشعر المغربي. ولما علمت المتن الذي اشتغل به، اخترت الشعراء الذين لم يهتم بهم في رسالته الجامعية. راق هذا الاختيار السي الكَنوني، وشجعني عليه. أعجب بالبحث أيما إعجاب، وروج له بين الأساتذة في كلية الآداب بفاس، وأعطاني عليه 18 نقطة على عشرين. ولما احتج بعض الأساتذة، وكان من بينهم الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله، على النقطة لأنها لم تعط لأحد من قبل، على حد ما بلغني بعد زمان، تحداهم أستاذي بقراءة البحث، والحكم عليه. وكم مرة فكرت في إعادة قراءته، ولم يتيسر لي ذلك.
أما الكتاب الثاني فكان عبارة عن مقالاتي الأولى التي نشرتها في ملحقي جريدة العلم، والمحرر، منذ 1974، وأضفت إليها دراسات حول أطروحة محمد بنيس حول "ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب"، وأخرى حول السجالات النقدية التي كانت بين "كبور لمطاعي" (أحمد المجاطي)، وحسن الطريبق،،، جمعت مواد هذا الكتاب الثاني، ولم تكن لي علاقة بالنشر، ولا معرفة بآلياته. ولم يشجعني أحد الأصدقاء (فريد الزاهي) على ذلك، بقوله بأني ما أزال "صغيرا" على تأليف كتاب. كنا فعلا نرى أن تأليف كتاب في النقد مهمة جليلة لا يستطيعها إلا من بلغ تجربة مهمة في حياته الأدبية. وأحجمت عن التفكير في طبع أي من الكتابين متذرعا بأن "الزمن طويل"...
أما الكتاب الثاني فكان عبارة عن مقالاتي الأولى التي نشرتها في ملحقي جريدة العلم، والمحرر، منذ 1974، وأضفت إليها دراسات حول أطروحة محمد بنيس حول "ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب"، وأخرى حول السجالات النقدية التي كانت بين "كبور لمطاعي" (أحمد المجاطي)، وحسن الطريبق،،، جمعت مواد هذا الكتاب الثاني، ولم تكن لي علاقة بالنشر، ولا معرفة بآلياته. ولم يشجعني أحد الأصدقاء (فريد الزاهي) على ذلك، بقوله بأني ما أزال "صغيرا" على تأليف كتاب. كنا فعلا نرى أن تأليف كتاب في النقد مهمة جليلة لا يستطيعها إلا من بلغ تجربة مهمة في حياته الأدبية. وأحجمت عن التفكير في طبع أي من الكتابين متذرعا بأن "الزمن طويل"...
النقد المغربي والعربي
في سنة 1984 بدأت دار الثقافة بالدار البيضاء تصدر سلسلة: " دراسات نقدية". اتصل بي محمد الشيكَر، وكان وقتها على صلة بالدار عن طريق الصديق صدوق نور الدين للمساهمة في السلسلة. فقلت له إن عندي مادة جاهزة لكتاب، ويلزمني وقت قصير للتفرغ له. وفعلا عكفت على إعادة قراءة المادة التي يتكون منها كتاب "القراءة والتجربة"، وكلها كتبت في سياق واحد، وتحت تصور موحد. وفي آخر دجنبر 1984 دفعت الكتاب للنشر، ليجد طريقه إلى القارئ في سنة 1985.
في بحث الإجازة، وفي المقالات التي نشرت حول النقد المغربي والعربي المعاصرين كنت ما أزال تحت تأثير المنهج الاجتماعي لدراسة الأدب، ولكن بوعي نقدي وبحس إبستيمولوجي لأني كنت ضد النزعة "الثوروية" في الدراسات الأدبية، وأعتبر الإبداع فنا قبل أن يكون فكرا. قرأت كَولدمان جيدا، وقبله لوكاش وغيره، وتيسر لي الحصول على أغلب كتبه بالفرنسية. وحين كنت أقارن بين ما يزعم أنه "بنيوية تكوينية" في الدراسات العربية، وكتب كَولدمان، كنت أرى أننا بعيدون جدا عن تمثل فكر كَولدمان الذي قدرته كثيرا، وخاصة في كتابه عن الإله المختفي، والرواية والعلوم الإنسانية والجدلية،،، ولما اطلعت على الأعمال التي عملت على تطوير فكره، كان تصوري عن النقد العربي يزداد تشاؤما. في السياق نفسه، أواخر السبعينيات، بدأت أطلع على الكتابات البنيوية، وخاصة العدد الثامن تواصلات 1966، وكتابات جنيت وتودوروف، فرأيت أن هذا الاتجاه يتماشى مع فهمي للأدب، وأن البعد الاجتماعي إذا لم ينطلق من فهم الشكل، فهو لعبة كل من يتصيد المضامين ويؤولها على النحو الذي يريد.
انكببت على تعميق تكويني الذاتي في الأدبيات البنيوية المختلفة، وبدا لي أن هناك اختلافات شتى بين المشتغلين بالأدب من المنظور البنيوي. وانتهيت إلى تأكيد ميلي إلى الاتجاه البويطيقي الذي كان يمثله جنيت وتودوروف لصلته بالأدب والبلاغة، وهذا هو تكويني الأساس، على خلاف السيميوطيقا الأدبية، وخاصة مع كَريماس ومدرسة باريس، التي كنت أرى أنها وهي تبحث في المعنى، وتنطلق من الأدبيات الرياضية، أبعد ما تكون عن تصوري للأدب والفن. وكان لتسجيلي في شهادة استكمال الدروس في تخصص الرواية الذي كان يشرف عليه أحمد اليبوري ومحمد برادة، انسجاما مع رغبتي في تعميق وتطوير تصوري للأدب. وفي بحث نهاية السنة (1981)، كنت قد أعددت، تحت إشراف محمد برادة، بحثا تحت عنوان: "الرؤية السردية في الزيني بركات".
في سنة 1984 بدأت دار الثقافة بالدار البيضاء تصدر سلسلة: " دراسات نقدية". اتصل بي محمد الشيكَر، وكان وقتها على صلة بالدار عن طريق الصديق صدوق نور الدين للمساهمة في السلسلة. فقلت له إن عندي مادة جاهزة لكتاب، ويلزمني وقت قصير للتفرغ له. وفعلا عكفت على إعادة قراءة المادة التي يتكون منها كتاب "القراءة والتجربة"، وكلها كتبت في سياق واحد، وتحت تصور موحد. وفي آخر دجنبر 1984 دفعت الكتاب للنشر، ليجد طريقه إلى القارئ في سنة 1985.
في بحث الإجازة، وفي المقالات التي نشرت حول النقد المغربي والعربي المعاصرين كنت ما أزال تحت تأثير المنهج الاجتماعي لدراسة الأدب، ولكن بوعي نقدي وبحس إبستيمولوجي لأني كنت ضد النزعة "الثوروية" في الدراسات الأدبية، وأعتبر الإبداع فنا قبل أن يكون فكرا. قرأت كَولدمان جيدا، وقبله لوكاش وغيره، وتيسر لي الحصول على أغلب كتبه بالفرنسية. وحين كنت أقارن بين ما يزعم أنه "بنيوية تكوينية" في الدراسات العربية، وكتب كَولدمان، كنت أرى أننا بعيدون جدا عن تمثل فكر كَولدمان الذي قدرته كثيرا، وخاصة في كتابه عن الإله المختفي، والرواية والعلوم الإنسانية والجدلية،،، ولما اطلعت على الأعمال التي عملت على تطوير فكره، كان تصوري عن النقد العربي يزداد تشاؤما. في السياق نفسه، أواخر السبعينيات، بدأت أطلع على الكتابات البنيوية، وخاصة العدد الثامن تواصلات 1966، وكتابات جنيت وتودوروف، فرأيت أن هذا الاتجاه يتماشى مع فهمي للأدب، وأن البعد الاجتماعي إذا لم ينطلق من فهم الشكل، فهو لعبة كل من يتصيد المضامين ويؤولها على النحو الذي يريد.
انكببت على تعميق تكويني الذاتي في الأدبيات البنيوية المختلفة، وبدا لي أن هناك اختلافات شتى بين المشتغلين بالأدب من المنظور البنيوي. وانتهيت إلى تأكيد ميلي إلى الاتجاه البويطيقي الذي كان يمثله جنيت وتودوروف لصلته بالأدب والبلاغة، وهذا هو تكويني الأساس، على خلاف السيميوطيقا الأدبية، وخاصة مع كَريماس ومدرسة باريس، التي كنت أرى أنها وهي تبحث في المعنى، وتنطلق من الأدبيات الرياضية، أبعد ما تكون عن تصوري للأدب والفن. وكان لتسجيلي في شهادة استكمال الدروس في تخصص الرواية الذي كان يشرف عليه أحمد اليبوري ومحمد برادة، انسجاما مع رغبتي في تعميق وتطوير تصوري للأدب. وفي بحث نهاية السنة (1981)، كنت قد أعددت، تحت إشراف محمد برادة، بحثا تحت عنوان: "الرؤية السردية في الزيني بركات".
سوسيولوجيا النص الروائي
في هذا الوقت كانت الرواية المغربية الجديدة قد بدأت تفرض وجودها. لقد ظهرت رواية "الأبله والمنسية وياسمين"(1982) للميلودي شغموم، و"رحيل البحر" (1983) لمحمد عز الدين التازي، و"وردة للوقت المغربي" (1983) و"بدر زمانه" (1983) لمبارك ربيع. قدمت هذه الروايات في أنشطة اتحاد كتاب المغرب حيث كنت عضوا في المكتب المركزي، ونشرت قراءتي للأبله والمنسية وياسمين في جريدة "أنوال". اعترض علي صديقي محمد بهجاجي ذكري لوين بوث دون أن أعرّف به، وأن هناك مصطلحات غير مستعملة. فذكرت له أن الجريدة لا تحتمل الهوامش والتعريفات. وكان قراري ألا أنشر بعد دراسات من هذا النوع في الجريدة.
عندما كنت أشتغل بمادة القراءة والتجربة، كنت قد سجلت رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا تحت عنوان "سوسيولوجيا النص الروائي العربي". ويبدو من العنوان أن حضور البعد السوسيولوجي ما زال حاضرا، ولكنه كان في الخلفية. كنت وقتها قد اطلعت على أعمال بيير زيما، واقتنيت كل كتبه التي كانت متوفرة بالفرنسية. وكان طموحي الانطلاق من الأرضية البنيوية وتأسيس البعد الاجتماعي عليها. كان زيما يسعى للتوفيق بين التحليل السردي في بعده الاجتماعي والسيميوطيقا. فركبت مركبا مختلفا، بالاشتغال بالسرديات في أفق اجتماعي، ويبرز هذا بجلاء في كتابي "انفتاح النص الروائي: النص والسياق" الذي حاولت فيه تأسيس ما أسميته "السوسيو ـ سرديات".
في هذا الوقت كانت الرواية المغربية الجديدة قد بدأت تفرض وجودها. لقد ظهرت رواية "الأبله والمنسية وياسمين"(1982) للميلودي شغموم، و"رحيل البحر" (1983) لمحمد عز الدين التازي، و"وردة للوقت المغربي" (1983) و"بدر زمانه" (1983) لمبارك ربيع. قدمت هذه الروايات في أنشطة اتحاد كتاب المغرب حيث كنت عضوا في المكتب المركزي، ونشرت قراءتي للأبله والمنسية وياسمين في جريدة "أنوال". اعترض علي صديقي محمد بهجاجي ذكري لوين بوث دون أن أعرّف به، وأن هناك مصطلحات غير مستعملة. فذكرت له أن الجريدة لا تحتمل الهوامش والتعريفات. وكان قراري ألا أنشر بعد دراسات من هذا النوع في الجريدة.
عندما كنت أشتغل بمادة القراءة والتجربة، كنت قد سجلت رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا تحت عنوان "سوسيولوجيا النص الروائي العربي". ويبدو من العنوان أن حضور البعد السوسيولوجي ما زال حاضرا، ولكنه كان في الخلفية. كنت وقتها قد اطلعت على أعمال بيير زيما، واقتنيت كل كتبه التي كانت متوفرة بالفرنسية. وكان طموحي الانطلاق من الأرضية البنيوية وتأسيس البعد الاجتماعي عليها. كان زيما يسعى للتوفيق بين التحليل السردي في بعده الاجتماعي والسيميوطيقا. فركبت مركبا مختلفا، بالاشتغال بالسرديات في أفق اجتماعي، ويبرز هذا بجلاء في كتابي "انفتاح النص الروائي: النص والسياق" الذي حاولت فيه تأسيس ما أسميته "السوسيو ـ سرديات".
باب للسرديات
صدر كتاب "القراءة والتجربة" سنة 1985 فلقي ردوداً مختلفة. فهناك من اعتبره تجربة نقدية جديدة، بنيوية، وكتب عنه محمد بهجاجي مبينا ما سماه "الحياد النقدي" في الكتاب. كما انتقده عبد الرحيم العماري انتقاداً شديداً، في حين رآه الزميل الطايع الحداوي لا يخلو من الإيديولوجيا. تباين الآراء حول الكتاب لم يشكل بالنسبة إلي أي إحراج لأني كنت أعتبره بداية مشروع هدفه الأساس: تأسيس السرديات في التربة العربية. ويلاحظ القارئ المتمعن فيه باكورة السرديات كما أتصورها. لقد قدمت فيه المصطلح في الوقت الذي كانت المصطلحات العربية بخصوص هذا الاختصاص متضاربة ومختلفة. كما أنني اشتغلت فيه بالتطبيق السردي المؤسس على خلفية الاختصاص (السرديات). وكان من الممكن أن يكون موضوع هذا الكتاب رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا، ولكني ارتأيت تقديمه أولا، ليكون بداية لمشروع أطوره في الرسالة التي ستطبع تحت عنوان: (تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي) والتي ستضطلع بالجانب النظري والتطبيقي معاً، وتفتح الباب أمام إمكان تطوير السرديات في كتاباتي اللاحقة.
أعتز بهذا الكتاب أيما اعتزاز. إنه باكورة السرديات.
صدر كتاب "القراءة والتجربة" سنة 1985 فلقي ردوداً مختلفة. فهناك من اعتبره تجربة نقدية جديدة، بنيوية، وكتب عنه محمد بهجاجي مبينا ما سماه "الحياد النقدي" في الكتاب. كما انتقده عبد الرحيم العماري انتقاداً شديداً، في حين رآه الزميل الطايع الحداوي لا يخلو من الإيديولوجيا. تباين الآراء حول الكتاب لم يشكل بالنسبة إلي أي إحراج لأني كنت أعتبره بداية مشروع هدفه الأساس: تأسيس السرديات في التربة العربية. ويلاحظ القارئ المتمعن فيه باكورة السرديات كما أتصورها. لقد قدمت فيه المصطلح في الوقت الذي كانت المصطلحات العربية بخصوص هذا الاختصاص متضاربة ومختلفة. كما أنني اشتغلت فيه بالتطبيق السردي المؤسس على خلفية الاختصاص (السرديات). وكان من الممكن أن يكون موضوع هذا الكتاب رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا، ولكني ارتأيت تقديمه أولا، ليكون بداية لمشروع أطوره في الرسالة التي ستطبع تحت عنوان: (تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي) والتي ستضطلع بالجانب النظري والتطبيقي معاً، وتفتح الباب أمام إمكان تطوير السرديات في كتاباتي اللاحقة.
أعتز بهذا الكتاب أيما اعتزاز. إنه باكورة السرديات.
*ناقد من المغرب