لطالما تأمّل الروائي والقاص المغربي فؤاد العروي في موضوع الهوية وإشكاليتها لدى شخصيات تقع، بحكم ولادتها أو مسارها، بين ثقافتين. في روايته الأخيرة، «هذا القتال
العبثي الذي نخوضه في العالم»، التي صدرت حديثاً عن دار «جوليار» الباريسية، يتابع هذا التأمّل عبر موشور قصة عاطفية مؤثّرة.
تنطلق أحداث الرواية بمشهد جميل نشاهد فيه شاب يدعى علي وشابة تدعى مليكة جالسين على رصيف مقهى باريسي يتحاوران بطرافة وحبّ واضحين. طبيعة هذا المشهد ومضمون حوارهما يجعلاننا نظن أن أمام هذين الحبيبين مستقبلاً مشرقاً. ظنٌّ تبرره أيضاً المعطيات التي يقدّمها الكاتب لنا بسرعة حولهما.
علي مهندس في المعلوماتية غادر وطنه المغرب منذ عشر سنوات للاستقرار في فرنسا حيث يعمل في شركة على رأس فريق من المهندسين. مليكة مدرّسة فرنسية من أصول مغربية لا تتكلم العربية لكنها منفتحة على ثقافة والديها، على رغم علاقتها السيئة بهما. خلال لقائهما في المقهى، يقرر الحبيبان المضي في علاقتهما الجميلة عبر العيش معاً، وينفّذان قرارهما بإثارة وسعادة كبيرتين. ولكن في أحد الأيام، يستقيل علي من عمله إثر إبعاده عن المشروع الذي كان يعمل عليه، بسبب أصوله العربية، فيقع في حالة اكتئاب تقوده إلى الانطواء على نفسه، ثم إلى تدمير علاقته بمليكة بانتقاده اليومي لسلوكها من دون مبرر، قبل أن يغادر فرنسا بين ليلة وضحاها ويلتحق بداعش في مدينة الرقّة السورية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن علي، كما يقدّمه العروي في القسم الأول من الرواية، هو شاب مثقّف حلم منذ نعومة أظافره بـ «أنوار» باريس. وفي أماكن كثيرة من هذا القسم، نراه يهزأ بذكاءٍ كبير من ابن خاله الساذج إبراهيم الذي يحاول عبثاً جرّه إلى تبنّي فكره التكفيري وإيقاف علاقته بمليكة. فكيف يقع في براثن داعية متطّرف ويتوجّه طوعاً إلى عرين الظلامية؟
للإجابة عن هذا السؤال، يعمد الكاتب إلى خلط أحداث قصّته بأحداث التاريخ الكبرى، وخصوصاً تلك التي شهدها القرن الماضي، لإظهار قدرتها على تدمير أقدار فردية كانت موعودة بالسعادة والنجاح. ومن هذه الأحداث، إعادة تشكيل الشرق الأوسط في اتفاقية «سايكس - بيكو»، الوعود التي قدّمها لوارنس العرب ولم تلتزم حكومته بها، فشل الحلم الناصري، وخطيئة الحاكم العسكري الأميركي بول بريمير في العراق الذي دفع، بسياسة التطهير التي اتّبعها داخل الإدارات الرسمية، جزءاً مهماً من النخبة العراقية العلمانية إلى اليأس أولاً، ثم إلى أحضان داعش.
باختصار، «سلسلة خيانات وأكاذيب» يعتبر العالم العربي أنه وقع ضحيتها، وتقض اليوم مضجع الملايين فيه، وفقاً للعروي الذي يتوقف عند هذه الفصول من التاريخ بدعابة سوداء كبيرة لإظهار أهميتها، ولكن خصوصاً لتفكيك خطاب المتطرّفين وكشف الطريقة التي يستخدمون فيها هذه الفصول من أجل دعم خطابهم والترويج له. وفي هذا السياق، يبيّن الكاتب ميل جميع الشعوب إلى مراجعة تاريخها على ضوء ظروف حاضرها، ملاحظاً أن المشكلة لا تكمن في الأحداث التاريخية بالذات بقدر ما تكمن في عملية سردها وتأويلها من جانب الإعلام والمؤرّخين. فوفقاً إلى هوية المؤرخ أو الصحافي، تختلف هذه السرديات كلياً، ما يجعل الشك مشروعاً في حقيقة الأحداث المروية فيها التي تخضع في كل مرحلة إلى إضافات وحزف وأخطاء، سواء كان ذلك متعمّداً أم لا.
أما الطريقة التي اتّبعها العروي لاستكشاف الآليات التي تقود فرداً متنوّراً وسعيداً إلى الانزلاق نحو التطرّف والموت، فتعاني في نظرنا من ضعف لا يخلو أحياناً من صور منمّطة، خصوصاً لدى تصويره عملية الانزلاق هذه التي تحصل في الرواية بسرعة كبيرة، بينما هي في الواقع سيرورة معقّدة وطويلة نسبياً، وبالتالي لا يمكن أن تقتصر أسبابها على مجرّد إبعاد موظّف عن مشروع كان يعمل عليه، من دون صرفه، كما حصل مع علي!
في المقابل، تقنعنا القراءة السوسيولوجية التي يرصدها الكاتب في نصّه لتفسير غضب الفرنسيين ذوي الأصول العربية الذي يستفيد المتطرّفون منه من أجل زرع ونشر أفكارهم داخل المجتمع الفرنسي. إذ نراه يسائل الموقع الذي تمنحه فرنسا للثقافة العربية، وبالتالي الصورة التي يردّها المجتمع الفرنسي إلى إحدى أكبر فئاته. وفي هذا السياق، يسمح تناوُب الصفحات التاريخية وتلك المرصودة لقصة علي ومليكة بمنحنا معطيات ثمينة حول أسباب هذا الغضب المتنامي. فبدلاً من إدراج المحطات والشخصيات المهمة في تاريخ العرب وبعضٍ من إسهاماتهم العلمية الكثيرة في مناهج التعليم، بهدف إشعار الفرنسيين ذوي الأصول العربية بأنهم جزءٌ مهم وحيوي داخل المجتمع الفرنسي، تميل فرنسا كل يوم أكثر فأكثر إلى إهمال سياسة الدمج (intégration) معهم لمصلحة عملية استيعاب تلغي ثقافتهم وتعود بهم إلى زمن الاستعمار، حين كان أطفال البلدان المستعمَرة مجبرين على تعلّم تاريخ «أسلافهم الغاليين»!
ولمقاربة هذه النقطة المهمة في روايته، يبتكر العروي شخصية أستاذ جامعي مغربي يعيش في باريس ويكشف لصديقه علي، أثناء زيارة هذا الأخير له، أن نكران إنجازات العرب لا يقتصر على سردية التاريخ التقليدي في فرنسا، بل يطاول أيضاً سرديات كل العلوم، مبيّناً بأمثلة لا تحصى الأخطاء الفادحة في هذه السرديات التي إن دلّت على شيء فعلى حاجز نفسي ما زال يمنع الفرنسيين، والأوروبيين عموماً، من التعامل مع الإنسان العربي كشريك مساهم في تشييد حضارة بشرية واحدة ومشتركة.
وعلى المستوى الشكلي، لم تحُل حبكة الرواية المتينة دون ضعفٍ في عملية سرد أحداثها، يعود إلى توقّف العروي مراراً خلال هذه العملية من أجل تسجيل ملاحظات تربوية واستحضار أحداث تاريخية كثيرة. وقفات تكسر اندفاع سرديته وتخفف من وقعها، على رغم نثره السيّال والمبتكَر، وشخصياته المحبّبة.
ومع ذلك، تبقى الرواية مهمة بمواضيعها الراهنة وعمق معالجتها. فبدلاً من إصدار أحكامٍ متسرّعة وقاطعة على هذا الطرف أو ذاك، يسعى الكاتب من خلال نصّه إلى دفع الفرنسيين والعرب إلى مزيدٍ من التواضع والموضوعية، داعياً إياهم إلى مزيد من البصيرة في تعاملهم مع ماضيهم، وبالتالي إلى التسامح وتقبّل الآخر كشرط أساسي لتعايشٍ أفضل.