سعى السارد وقد استمع إلى شكوى قريني ، وكان لا
يتحرك بغير إشارة من عيني ، ولو لم أرفع صوتي، من أن آلاما من ماضيه البعيد لاتزال
تنغل في أعماقه ، فلا يقدر
على نسيانها، فرجاه مستعطفاً ـ وقد نهَزَتْهْ إليه حاجةٌ
ماسَّةٌ، أن يضيء له السبيل إلى إراحة نفسه مما كان يحسبه وزراً عظيما، ودليل انحراف
بينما هو دليل حيوية اليافع ويراءة الشاب، فلا عار في كونه أحبَّ فاتنة في زمنٍ كانت
الأنثى فيه عورة ومجلبة عارـ فقد جاء صوت قريني في ما يشبه خشوع مصلٍّ:
ـ أنت شمسي ، فأنر أمامي السبيل نحو ما أريد أن
أعرضه فأحييه، فأقدم دليل براءتي،إذ لم أكن مثلياً، ككثير من كبار تلك الأيام.وكل من
عرف منهم باحتقار أي صغير ، واستمالة فتيان في عمر الورد...
فقال له :
ـ أنى لي ذلك؟
تدخلت أنا الشاهد:
ـ أن تسترجع معي تفاصيل ما كان يعانيه، بل أدق تفاصيل
ذكرياته، يوم كان أكثر من خطر يناوشه ، ويوم كانت تشتد به رغباته إلى ركوب المخاطر
و دخول الدنيا، من أشق المسالك إليها،، وتحت اشد تياراتها عصفاً بأحياء زمانه، وكيف
نجا صاحبي بأعجوبة من الوقوع بين براثن شر صريح، وحتى من السقوط بين مخالب كانت تبدو
كأنها من حرير.
مطفئةُ أنوارِ مبدعيها هذه اللعينة.
مشعلةُ النيران في بنيها هذه المدينة.
فحدثنا السارد فقال :
ـ كان يومَها يافعاً، نحيلأ، لا يكاد يناهز وزنه،
وهو في العشرين، الخمسين كيلو، لم يكن يفكر في ضروريات يجد الحد الأدنى منها متوفراً
دائما ، لكن ليس بالقدر الذي يكفيه، فجيوبه التي كانت فارغة بصفة دائمة، كانت تجعل
شهيته للتدخين مفتوحة باستمرار، لكن دون قدرة على إشباعها حتى أنه ، كان يردد على مسامع
أصحابه وهو يجلس إليهم أو وهو يسير مع من يرافقه منهم في الشارع أو طريق المدرسة:
ـ أنني يمكن أن آكل فأتخم، وأشرب فيتعتعني السكر،
لكن لا حد لما يمكن أن أتناوله من الدخان يشبعني، فأتوقف عنده..
فيتبادلون نظرات التعجب فيما بينهم،من تصريح يأتي
بدون سابق سؤال. ثم ينظرون إليه نظرة من لا يفهم، أو بالأحرى ، من لايهمه أن يفهم كلاماً
يقوله صبي أشعث مغبر، تقتحمه الأعين، ويبدو أمامهم بلا أهمية أو قليل الشأن، ورغم ذلك
كان في داخله يرى نفسه كبيراً، في عالم كان مستوى العيش بين أفراده، متقارباً، فلا
كبار فيه غير المتقدين في السن، أما المناصب الأخرى فقد كانت فارغة وإن بدأ التنافس
في مجالات الترقي يُطِلُّ من خلال أشخاص حاولوا الوصول إلى الصفوف الأولى عن طريق التفوق
في الدروس ، أو منافسة بعض رؤوس السوق، أو وجوه من الشباب غيبتهم الغربة أكثرهم في
الداخل، ونادرون أكتشفوا أن هناك عالماً خارجياً، فذهب فوج أول أعضاؤه على رؤوس الأصابع
للدراسة بعيداً، ثم فوج قليل العدد إلى دول كانت تطلب اليد العاملة، ومعظم من بقوا
ظلوا مغيبين بدخان الكيف ، ومجالس الخمرة الرخيصة التي كثيراً ما كانت تشهد في نهاياتها
اندلاع معارك لا يسلم منها إلا من كان ذا حظ عظيم،، أو استطاع الانتصار بمساعديه، أو
من يأخذ حقه بإعمال يديه ، وهو يعلم أن وراءه من يسنده ويحميه.
كانت مقاهي ذلك الزمن بسيطة الأثاث، فقيرة في ما
تقدم ، لا شيء غير الشاي وقهوة بالحليب ،ومشروب غازي محلي واحد بلا منافس، أو قهوة
سوداء كان لا يتناولها إلا من يحضر، مسنوداً على ذراع أحد أصدقائه، وقد بلغ حداً من
السكر ، ينصحه بعضهم بأن يتناول كأس قهوة كبيرة تخفف من سكره ، أو ينصح بتناول القهوة
مع قطعة ثلج تفيقه مما هو فيه، وكثير من زبناء المقهى من ذوي الدخل البسيط ، أو ممن
لا دخل لهم إلا ما يدره عليهم ما اكتسبوا من مهارات في لعب النرد بأنواعه ، أو ما برعوا
فيه على موائد قمار خفية، كان التنافس فيها يدور في الظاهر حول من يربح كأس شاي في
العادة ، أو من يفوز بكأس بُنٍّ بحليب، لكن في الخفاء كان المقدار المتنافس عليه يعلو،
فتوضع تحت الطاولة ، أو بيد شخص موثوق ، رسوم بيت ، أو وثائق عقار، ليصبح الرهان قماراً
حقيقياً، وقد سخنت رؤوس ، وبردت أخرى، وكل هذا والظاهر ان المقهى بسيط ومرتاديه فقراء
قوم بسطاء، والحقيقة أنهم لم يكونوا يفتقرون إلى شيء كافتقارهم إلى ما يضيء ظلمة ابتلعتهم،
سيحتاجون إلى زمن غير قليل حتى ترتفع عنهم.
وخلال ذلك ، كان فقراء آخرون ، لا يعملون إلا لتوفير
زاد يومهم، وأولئك كان منهم الندل وعمال المقهى في كونتوارها البسيط الذي كان قد بناه
الأسبان بالأسلوب المعمار الموريسكي الأندلسي ، أو داخل بيت النار حيث وجاق يعلوه خزان
صغير أوقدت تحته نارٌ لم تكن تنطفيء قبل أن تطفأ أضواء مقهى عبيد الخالق المشرف على
أبهج بستان ، لكن ما يجري في داخله كان بالغ التعقيد ، منذ كان المقهى الوحيدة التي
يقصدها الكبار والصغار في البلدة من شذاذ الآفاق والسكان.
***
كان للمقهى نادلان، مّي ، وكان ابن حاضرة، وعلى
دماثة من طبع ، هااديء، إذا ضحك التفت إلى الجهة الأخرى يخفي ضحكته التي تكاد تكون
بلا صوت، وكان يضعف أمام أي فتى وسيم، ويهمس بنظراته وحدها:
ـ " فشتك...فشتاكة".
وإن لم يفهم مخاطبُه، واستفسر ، أسرع إلى القول:
ـ صافي أم بزبله؟
فيكون هناك من يشرح ألغازه بين السامعين:
ـ بل إنه يريده شاياً مصفىً.
ومع ذلك فحياء "مَّي" أصيل غير متكلف،
وهو يستطيع أن يذهب في الإنفاق على من يقبل مجالسته ممن تشفع له وسامته من الفتية إلى
آخر محصوله اليومي ، دون أن يصرِّح برغبته القصوى، فإذا لم ينل غير متعة النظر ، أجل
له خاطر في نفسه أن الصيد واقع في الفخ ، طال الزمن أم قصر. لكن لم تكن تشوب سلوكه
في العمل شائبة. بل كان على وعي نقابي غير يسير.
وأماعبسم الأكحل البدوي القح ، فقد كان نادلأ قاسياً،
كان يفْتَنُّ في إبداع العبارات التي يلقيها بين هزل وجد ، وهو يقترب من أي جماعة تحلقت
حول طاولةٍ، ونسيت أن تطلب شيئأً:
ـ "ياللا ، ياللاه، مغلي وإلا قم تغلي"
فترتفع ألاصوات بالطلبات راضية أو في ضيق، ، ومن
لا يحرك لسانه يحرك قدميه منسحباً في صمت ، وهو يخفي، في أعماق نفسه شعوراً مهيناً.فقد
كان صعباً على أي يافع أن ينتزع من بين رفاقه لمجرد أنه غير قادر على الدفع، وقد يبقى
بين الجالسين من يجد من يدفع عنه، وأولئك فئة ممن كانت وسامتهم تغري كثيرين ممن يضمرون
أن يستردوا ما يؤدونه بأكثر من طريقة، وكان التواطؤ يتم في سرية، كانت المرحلة سيئة
بالفعل، وضيق ذات اليد دفع بأكثر من يافعين إلى السقوط ،وهم يبحثون عمن يوفر لهم أي
قدِرٍ من المال لتسديد المطلوب منهم في مقاه أو حتى حانات، وأنت كنت إذا ألقيت نظرة
على الطرقات والشوارع والساحات لا تجد خيال امرأة عابرة ، إلا في حماية قريب أو زوج
، فاضطر الناس إلى أن يعترفوا بألا مكان في أي مقهى كانت لغير الذكور ولطالما كنا نلجأ
إلى وسط حديقة الضفادع التي كانت حافلة بكل نبت بهيج ، وشجيرات ورد منقطعة النظير،
لأن منشئيها أستوردوا أشجارها ونبتاتها من كل صقع بعيد، وكان نافورتيها ذواتي ضفادع
كبيرة وأخرى صغيرة، يمج صغارها وكبارها ماءً كثيراً ما كنا نشرب منه بوضع أفواهنا على
أفواهها، دون أن نسقط يوماً أي شعور شهواني على ذلك، كل ما في الأمر أننا كنا نحس أن
تسكعنا لم يكن اختيارياً هذه المرة ،وإعما لأننا فضلنا ألا نواجه قساوة النادل البدوي
الصارم.
كان يجلس إلى جانبه صديقه الأثير الحضري ومعهما
كان البوعناني، الذي كانت ضحكاته التي يرسلها مع تعليقاته تلفت العابرين ، فبدا صديقنا
ذي الملامح الصينية البريئة يقترب من مجلسنا، وكنا قد عرفنا أنه التحق بالعمل في أحد
الفنادق الكبرى في العاصمة، بعد أن كان تعود هو ومجموعة من أصدقائنا على الذهاب إلى
جبل طارق للعمل أثناء العطل المدرسية، فاكتسب أكثرهم خبرة بالعمل الفندقي ، لينجح صديقنا
هذا في مباراة القبول في ذلك الفندق ذي الاسم الكبير، سأله عبد الله :
ـ فيمَ مجيئك؟
ليُجِـيب الصديق المستخدم في فندق بعيد، في عبارة
سريعة :
ـ كونجي.
فلم أعرف كيف صدر مني سؤال بهذه الصيغة القاسية
ـ هل هو كونجي أبدي؟
فما كاد عبد الله يسمع قولي حتى انفجر في ضحكة تجاوبت
أصداؤها جهات الحديقة المستديرة حيث كنا قاعدين. فانكمش الفندقي في ذاته،وهو الذي كان
مقبلاً علينا ظاهر البشاشة، ولم أعرف أأعتذر أم أبقى منتظراً الجواب، كل ما عرفته من
حينها أن صديقي الفندقي أصيب بجرح بالغ، ورغم ذلك ظل صديقنا المرح عبد الله يسميه إلى
اليوم " كونجي أبدي" يهتف بها في وجهه كلما رىنا معاً أو ذكره ، وحتى حينما
يترحم عليه هذه الأيام، بعد أن كان استقر في عمله في السياحة وتوفق إلى أنشاء أسرة
من ابناء ناجحين.
***
وبُعَيـْدَ ذلك ، تلَقَّفَهُ زيان ، في مقهى البستان،
قريباً من حي الصبانين،في منتصف الطريق الصاعدة إلى البارادور، وقد انتهى طوافه أول
ذلك الليل ، في بحثه عن جماعة رفاق، فلم يعثر إلا على شبان هم حقاً من معارفه، لكنه
كان غير مرحب به بينهم، في مقاهي تضج بالمثليين، فهو كان حين يقلَّبَ الطرف بينهم يجد
واحداً أو أكثر ممن كانوا في عداد أترابه ، فهناك وسيمٌ أغيد مجدول الخصر، بارز الكَفَل،
مع تكلُّفِ خفة غزال، أو وسيمان ينافسان الأغيد ، وسط جماعة ممن يكبرونهم سناً، وقد
توهَّجت في يُسْرَى أحدهم وردةُ نار ، كلما سحب إلى صدره نفساً منها ازدادت وهجها ،
وزاد ت عينيه انطفاءً، حتى لا يعود يرى أو يسمع إلا قليلاً، وقريباً منه لا تدور في
الظاهر إلا كؤوس الشاي ، وتحت الطاولات أو خلف الحصرالمفروشة، والتي تكسو أجزاءً من
الجدران، في هذا البستان الوحشي حيث لا توجد غير كراسي وموائد قليلة فتقبع قنينات مختلفة
الأحجام والأشكال، أما أكثر المساحات فقد كسيت بحصر مبثوثة، و كانت هناك قناني خفية
واكثر من " سبسي" يجول جهاراًنهاراً بين الزبناء ،تحت ضوء شديد الخفوت.ومع
ذلك عدت ناجياً دون أن تأسرني سيرينات وحشية في أعماق بحر تلك الظلمات التي لم يكن
لشمس تلك الأيام، من إمكانات للانتصار عليها. ومع ذلك لم يكن أحد يستعرب خبر أن أحد
كبار الجلسة قد طار إلى عش الزوجية ، وإن لم ينقطع عن جلسات العزاب من لداته.
***
قال له العربي ، وقد أدرك أنه في بداية سكره ، لكنه
لا يزال محتاجا إلى مزيد مما برفعه أو ينزل به في مراتب السكر، فيتقدم في درجات النشوة:
وزيان لا وسيلة له إلا الضحك الساخر من كل ما يرى، أو يسمع من أحداث قريبة أو بعيدة،
وإلا "الكيف " التي يتناولها بحرية في كل مجلس ، فهو لا يعرف كيف يخفي سبسيَه،
ولا كيف يسكت عن التعليقات الساخرة التي تهيج بالضحك كل مجلس يكون فيه، وحتى كل المقهى
، فلا يصل صوته ‘اى جهة حتى ينفجر كل من فيها ضحكاً، والعربي على مستوى خارق من الذكاء
، يشهد وهو الأمي بأميته إنه لو كان لم يهرب من قضيب الفقيه في الكتاب ذات مرة، لوصل
إلى ما لا يمكن أن يتخيله أحد، فقد وهب ذاكرة خارقة ، تاتقط أدق التفاصيل، مما أبهر
جميع من لقيه، بل قيل إن جهات عليا طلبت رؤيته، وأنه جلس إليها ، لكن أُخذ عليه ميثاق
ألا يخبر بذلك أحداً، ولأنه كان أمضى فترة التجنيد الإجباري ، كان يعلم معنى تهديد
يأتيه من فوق،فكان أحرص من أي شيخ عن البوح بلقاء المحبوب.
أوقفه زيان إلى جانب شجيرة نارنج كانت تفوح بعبيرها
الفاغم رغم تساقط زهرها، وقد رأى انكساره، متسائلاً:
ـ ما لك؟
اجاب محزوناً:
ـ " كْوَوْنا في قلبنا، اعطونا شويش وخلَّوْنا"
فانفجر بضحكة مدوية، وهو يضع يده على كتفه ، ويدعوه
إلى زاوية قريبة من وجاق المقهى، ليشبعه كيفاً ، أحسمعها أن رأسه قد أصبحت كقطعة خشب.
حتى لم يعد يعي شيئاً من حكايات العربي التي لا تتوقف ، ولا يعرف معنى لضحكاته التي
كان لا يرى معها إلى حركات وجهه وهو يمتد أو ينتقلص ضاحكاً أو متكلماً. ثم انتبه إلى
نفسه يسيرمن باب الهرمون ليصل إلى وسط حي السويقة ، بعد أن تجاوز سيدي بلحسن وضريح
السيدة الحرة ، فعبر إلى جانب التريبعة، ثم انعطف ليجد مجلس الحارس الليلي عمي مفضل
، الذي كان يبيت في حراسة الدكاكين حتى ساعات الصباح الأولى، يقف عنده العابرون به
ليأخذوا أنفاساً من كيفه التي يعرف كيف ينقيها ويصفيها، فإذا أُذِّنَ لصلاة الفجر ،
وبدأ انتشار الناس ، انسحب الحارس الليلي، أما هو فكان يظل مسطولاً حتى ذلك الوقت،
وكثيراً ما كان يصلي الفجر في جامع باب الموقف أو جامع باب السوق ، وقد سها مرة وهو
يقف بالصف الأول بإزاء باب ذات نقوش أرابيسك دقيقة الزخرفة وجميلة اللون، فجعل يتأملها
، والناس تقوم وتركع وتجلس ، حتى فرغوا من صلاتهم ، وعرفوا أنه كان مرفوعاً على طريقته
الخاصة، والغريب ألا أحد سارع إلى اي أحتجاج، أو حتى مجرد تنبيه، فكيف لو حدث ذلك اليوم
لكان هناك ألف ممن يكفروه.
حقيقة لم يكن المرحلة زمن نفكير، وإنما كان هناك
نوع من الحياء الجميل بين الناس ما يمنع من تجريد بعضهم من أي شيء ، مادياً كان أو
معنوياً، فلم يكن يخطر لأي منهم ، وقد كان الكيف بينهم محللاً أن يكفر أي واحد منهم
قرب الصلاة وهو مسطول.
كانت الفضائح من كل نوع تحدث، لكن حد كل فضيحة سبعة
ايام، فلا يعود إلى ذكرها أحدٌ، حتى ولو كانت اغتصاباً في مسجد، أو أي مكان قريب من
السكان أو بعيداً عنهم ، في البساتين المحيطة بالمدينة، وقد انفتح السكان باستقبال
وافدين رغماً عنهم، كانوا محتلين ، لكن ما أن رحلوا حتى عادت المدينة إلى ما كانت عليه
من انغلاق وثبوت، حتى لم يكن ممكناً أن يحلم شاب بين دروبها بعلاقة حب، فكانت العقوبة
تحل بطرفيها ، حتى لم يعد من الناس أحد إلى التطلع إلى النسوة إلا إذا فكر في الارتباط
حسب الشرع،وبعض أصدقائي كانوا يمضون إلى المدن المجاورة التي كانت بعض دورها توفر بغايا
للعمل بتقاليد مواخير ، وإن كان ذلك يتم بعيداً عن الأعين، أعين الصغار طبعاً أما الكبار
فكانوا على علم بما يصنع كل قواد أوفادة ، وبغي أوداعر طالب فجور.
وحتى وقد تقدم به العمر اليوم ، يتعجب من عروض أحدهم
، ممن كان يعتقد أنه من أصفى أصفيائه، حين كان يصور له إمكانية الذهاب إلى عمارة لا
يمكن أن تحيط بها الشبهات، فإذا دخلتها تجد مكاتب أعمال حرة وبيوتاً كنية محترمة، لكن
داخل كل ذلك يختفي بيت المتعة ، فمتى شئت نذهب.
ثم يطفق يعدد له الفخاخ التي نصبت لشخصيات معروفة
صورت مغامراتهم ، حتى في مثل هذه الأماكن التي توهموا أنها يعيدة عن عيون المراقبين،
لكن هناك عيناً لا تأخذها سنة ولا نوم، ويسمع صاحبها وقع خطوات أصغر نملة على حجارة
سوداء في اقصى أرض في ليلة مظلمة، فكيف تغيب عن عيونه تأوهات أجساد تتمرغ في بحر من
الشهوات تحت أقوى الأضواء.
وليالي مراهقتنا لم تكن تعرف إلا برد أجواء الجبل،
وكيفأً يتاول الناس منها أجود أنواعها بحكم أنها من أنتاج المنطقة، وليس من شباننا
من عاش حباً صحياً، وارتفع في العشق إلى سموات من المتعة ، بل إن أكثرهم كان لا يضع
رقبتع في أغلال علاقة أبدية إ تحت الضغط الذي كان أذل كل الناس.
في الصباح كان في برد فراشه ببين العائلة راقداً،لم
يدر ِهل وصل عن طريق الخرازين فالهوتة فعقبة المشاط صعداً نحو طريق البرية فزنقة القيقلانة
وصولاً إل ىشارع المدقة ليستدير يمينا نحو الفرن حتى يصل دروب الشهب التي كان أحدها
ماخوراً أيام طفولته،وفي الشارع أدنى الماجور كان معمل مارسيلينو لصنع ماء جافيل، وبعد
ذلك لا تبقى إلا دور المصلوحي على اليمين ، ليصل في نهاية الشوط إلى الدرب الأخير قبل
باب السوق حيث يوجد منزل العائلة, ولم يكد ينتبه أحد من إخوته إلى لحظة دخوله البيت،
مع ساعات الصباح الأولى. بعد أن انتهى من تشرده الاختياري ، وتسكعه بين أماكن لم يكن
يمر يوم دون أن يحضر إليها ، سواء في مقهى عَبِيد الخالق في " الخاصة " أو
مقهى البستان المشرف على قامة الجبل السامقة. قبل أن تنتهي العطلة الدراسية ليغيب عن
كل المدينة إلى حين.
***
أحسست مغيب شمسي يعيد إلى شاشة ذاكرتي صورأً من
أمس بعيد، تداخلت مع ما كانت أصداؤه ما زالت تتجاوب مع ظلال لم تمح تماماً، وها هي
ذي لا تزال تجاهد أن تمحَى أو تزول.
فرأى قريني كيف وقف السارد، وهو يمد يده نحوي ،
داعياً إياي أن أقفَ أيضاً، بينا أطرقتُ ، لا أريد حتى مجرد تلقي تحية صامتة من عينيه
، أو إلقاء أخرى من عينيَّ، فقد كنا في جلسة ثلاثية ، ما أن توقف لسان السارد ، وأكملت
وقفتي ، منشغلاً لحظة بنفض غباراً علِقَ بي من أثر الجلوس الطويل، لألتفت بعدها ، فلا
أجد أحداً أمامي، فلم يبق لي منهما إلا شهادة ضاقت بها هذه الأوراق بين يدي ،كان السارد
أوصاني أن أعود إليها كلما دعت ضرورة إلى إثبات براءة وبياض صحيفة قريني.
ظلت في أعماق نفسيينا، أنا الشاهد وقريني همسات
شك:
ـ لماذا حتى بعد أن كبرنا لا تزال لم ينطفيء في
أحلامنا وهجٌ عَصَفَ بِنا من وردة النار ، وإلام ستظل تنغل فينا آثارٌ مِمَّا حَسِبناه
مات؟